الدكتور ماهر الجعبري
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
كتب زياد أبو زياد مقالا عرض فيه قراءة غير عاطفية لأحداث قلقيلية، وقد كان موفقا في العنوان، وفي تحديده لطبيعة الصراع بين غزة ورام الله عندما قال: "المسألة ليست صراعاً بين من يريد أن يقاوم الاحتلال ومن لا يريد المقاومة، وإنما هي صراع على الكراسي وعلى الانفراد بالسلطة في الضفة والقطاع". وكان سؤاله في محله عندما قال: "هل أسفرت المراهنة على الحل السياسي عن أية نتيجة لكي نتصارع على السلطة وعلى من يحكم الشعب الفلسطيني تحت مظلة الاحتلال ومن سيتفاوض باسمه؟"، ومن هنا كان طبيعيا أن يتساءل: "هل تسمح حركة حماس التي تسيطر اليوم على قطاع غزة للمقاتلين الذين يريدون مقاومة الاحتلال أن يعملوا من قطاع غزة ضد الاحتلال؟"، مع عدم موافقتي على خلط الحركات بالحكومات مما درج في الإعلام وفي الأعمال السياسية، وما تضمن في الاقتباسات هنا، فليس من المناسب في العمل السياسي الحديث عن الحركات.
ومع تلك الموافقة في التشخيص الأساسي، لم يكن أبو زياد موفقا في طرحه لما يتعلّق بالمستقبل وإمكانياته والعمل السياسي، وخصوصا عندما خوّف أو تخوّف من إمكانية حدوث "حسم" فصائلي في الضفة على غرار الذي حصل في غزة، وعندما تعرض لموضوع الخيارات السياسية المستقبلية. وأتناول في هذا المقال هاتين النقطتين من باب المراجعة السياسية لتلك القراءة، علّها تسهم في إفراغ الجو المشحون، وفي توجيه الذهن نحو الحل. وبالطبع، لا أريد في هذا المقال تخصيص الحديث حول أحداث قلقيلية، فقد أصدر حزب التحرير بيانا فيه تعبير عن موقفي السياسي حول ما جرى، وأيضا سأحاول جهدي أن أنتقي الألفاظ التي لا تتضمن تجريحا لجهة، حتى يتم إيصال المضمون السياسي بعيدا عن التخندق حول الأشخاص والحركات، وبعيدا عن الاستفزاز الشعوري والاستنفار العاطفي، ولهذا السبب أيضا لا أريد التعقيب هنا على أعمال الأجهزة الأمنية، وخصوصا أنها كانت موضوع مقال لي قبل أيام. لا بد بداية من التعاطي مع السؤال الاستراتيجي الذي يكشف الواقع ويستشرف المستقبل: إذا كان حال الأراضي التي تديرها السلطة الفلسطينية لا يخرج عن سياق الوصف الذي عبّر عنه أبو زياد في شطر جملة: " تحت مظلة الاحتلال"، فهل يمكن أن يجري على هذه الأرض ما لا يمكن أن تظّله أو تباركه تلك المظّلة ؟ وهل يمكن لجهة أن تخرج على سطح الأرض بسلاح "شرعي" تفرض به حضورها في شوارع المدن إذا لم يتوافق ذلك الخروج مع صاحب السلطان الفعلي والقوة على تلك الأرض ؟ سؤال لا يحتاج جوابه إلى عميق تفكير ولا إلى عبقرية سياسية أو خبرة عسكرية ! وبالتالي، فإن طرح تلك الاحتمالات من الغلبة بالسلاح على أرض الضفة الغربية هو بكل تأكيد خارج عن سياق الواقع والسياسة، ولا يمكن أن يكون محل اعتبار عند أي جهة واعية تنظر للأرض والسلطان من المنظور الصحيح.
ثم إن طرح هذا الاحتمال من قبل "أبو زياد" لا يستقيم مع استنكاره للصراع في قوله "لكي نتصارع على السلطة وعلى من يحكم الشعب الفلسطيني تحت مظلة الاحتلال ومن سيتفاوض باسمه؟"، إذ لماذا يتخوف الناس من أي حسم ويفضلون أي سيطرة على أخرى طالما أنه لا يمكن أن يكون ذلك إلا تحت مظلة الاحتلال ومن أجل الشرعية على التفاوض معه ؟ ومن ثم، طالما أن المشروع السياسي لكلا الحكومتين هو في المحصلة يصب في الاعتراف بالاحتلال، حسب ما يذكر أبو زياد عندما قال "هناك تصريحات متواترة من قبل العديد من قادة حماس تعرب عن استعداد الحركة للقبول بدولة فلسطينية في حدود 1967" مستدلا بتصريحات مشعل للكاتب الفرنسي ناتان ألتر، فكيف إذاً يكمن حل القضية في الاتفاق "على برنامج نضالي وطني متفق على آلية النضال لتحقيق الحرية والكرامة لشعبنا" ؟ وهنا أتساءل بهدوء سياسي: هل يمكن أن يكون برنامج المفاوضات مشروعا نضاليا ؟ وبالطبع، تبرز هنا جدلية المقاومة والمفاوضة في طرح سياسي يخلط الماء بالنار، عندما يتحدث أبو زياد كما يتحدث غيره من منظري العمل الفلسطيني عن "برنامج لا يلغي المقاومة، ولكن يضعها في إطار واحد ... وتظل تقف موقف المترقب على أهبة الاستعداد للجوء إلى خيار المقاومة إذا فشل الخيار السياسي." أي أن المقاومة لا تعدو أن تكون ورقة ضغط على طاولة المفاوضات، وأن المشروع الوحيد المطروح هو مشروع المفاوضات، ولا تكون المقاومة إلا رافدا لتلك المفاوضات كلما تعثّرت. وهنا تعارض جديد مع سؤاله الجوهري: ""هل أسفرت المراهنة على الحل السياسي عن أية نتيجة لكي نتصارع على السلطة؟". ويمتد السؤال: هل أسفرت تلك المراهنة عن أي نتيجة لكي نتوافق على مشروع لا يخرج عن سياقها ؟ إذاً، لقد آن لمنظري العمل الفلسطيني أن يراجعوا تلك المسيرة المضنية وعديمة الجدوى التي لم تثمر إلا مزيدا من التشرذم، وقد تحولت فعلا "إلى استجداء لا يستجيب إليه احد ولا يحترمه أحد"، كما تخوّف أبو زياد. ولا بد حينها من التساؤل: لماذا هذا الإصرار على هذا المشروع السياسي الذي لا يمكن أن يسفر عن تحرير فعلي، وقد ثبت أنه عديم الجدوى، وخصوصا أن الرئيس الفلسطيني كان قد صرّح خلال العام الماضي، أن العام 2008 هو عام حسم الحل، ووعد أنه إذا لم يتمخض عن ذلك العام شيء فستتم إعادة النظر في الخيارات. أسئلة تبقى بإجابة واحدة وهي النفي. وهنا تصبح القضية الفلسطينية هي الثور الأبيض الذي يجدر الحديث عنه، وقد أُكلنا جميعا يوم أُكلت القضية وحصرت في أهل فلسطين، الذين لا يمكن أن ينجزوا مهمة التحرير الفعلي لوحدهم إذا بقيت الأمة متخلية عن واجبها، وبالتالي فكل دعوة لحصر حق تقرير المصير في أهل فلسطين هي دعوة لأكل ذلك الثور الأبيض، الذي نؤكل من بعده كل يوم وتنهش لحومنا وتكسر عظامنا بلا أفق سياسي. ومن ثم فإن حصر الأفق بذلك التصور المغلق في "دورة المقاومة والحل السياسي" هي دعوة لأكل الثور الأبيض. وعندها بل وقبلها ليس أمامنا إلا طريق الأمة، وهو ليس خيارا نلجأ إليه إذا فشلت الخيارات بل هو طريق أوحد لا خيار غيره. فإلى متى تبقى هذه القضية تدور في حلقات مفرغة ؟ ومتى يتجرأ الساسة والمنظرون على طرح الحل الكامل ومطالبة الأمة بواجباتها ؟
وهنا يبرز تساؤل حول المصلحة في إثارة هذا الاحتمال "الخيالي"، وخصوصا، لدى مراجعة ما نشرته وسائل الإعلام العبرية، عندما تحدثت عن خطة أمريكية لتوسيع قوى الأمن الفلسطينية، (كما ورد على صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، وكما نقلت عنها وكالة معا يوم الاثنين 8/6/2009)، وهي خطة تهدف "لزيادة السيطرة الأمنية للسلطة في مناطق الضفة وتخوفا من محاولات حركة حماس السيطرة على الضفة كما حدث في قطاع غزة". وهو نفس التخوّف الذي عبّر عنه أبو زياد في قوله: "والخوف من أن تقوم حركة حماس بحسم الوضع في الضفة الغربية على غرار ما فعلته في غزة". وهذا التوافق في التشخيص ما بين المخطِط الأمريكي والمثقف الفلسطيني، لا يجدر أن يكون ! ومن الواضح أن هذا التخويف من قبل المخطِط الأمريكي يخدم ما يريده صاحب الخطة الأمريكية من زيادة الإقبال على تلك الأجهزة. وهذا التخويف بما لا يمكن حدوثه، لا يمكن أن يصب إلا في تسخين المشاعر وتجييش الأتباع نحو صدام لا يخدم قضية فلسطين على الإطلاق، بل يريح الاحتلال من متابعة الطرفين، ويجعله في مأمن خلال ذلك الصراع الدموي من رصاصات المقاومين، بينما كلا الطرفين منشغل بالآخر، وكأن لسان حال الاحتلال قد صار "اللهم اضرب الفلسطينيين بالفلسطينيين، وأخرجنا من بين أيديهم سالمين".