قمة كوبنهاجن وسراب التغيير
بقلم المهندس باهر صالح/ عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
سواء اقتربت نهاية الأرض كما تقول التقارير والدراسات والعلماء الذين يحذرون من دمار شامل ينتظر البشرية بسبب تأثيرات البيئة والمناخ والاحتباس الحراري، حتى وصل الأمر إلى حد التنبؤ بزوال مدن بأكملها وهلاك مئات الآلاف بل ملايين من البشر وانقراض أنواع من الكائنات الحية. أم أنّ كل التحذيرات والمخاوف من هلاك البشر وفناء العالم هو مجرد تشاؤم وتطرف بيئي كما أسماه البعض. ولكن في كلتا الحالتين لا شك أنّ هناك مشكلة باتت بحاجة إلى علاج، سواء أكانت الحاجة ملحة أم غير ملحة.
فيضانات، أعاصير، زلازل، كوارث، ذوبان للجليد، طوفان، ارتفاع درجة حرارة الأرض ... كثيرة هي الآثار المحتملة والمتوقعة لاستمرار التلوث البيئي، وفي الوقت ذاته كثيرة هي الخلافات حول سُبل الحل والخروج من هذه الكارثة وحول مقدار مساهمة دول العالم المتسببة في هذه الكارثة في حلها.
وبعد أن تنفس العديد من المراقبين والعلماء الصعداء حينما تمكنوا من جمع هذا العدد الكبير من المشاركين في قمة كوبنهاجن، لكن سرعان ما خيمت أجواء التشاؤم على القمة.
ففي الوقت الذي أكد فيه زعيما بريطانيا وفرنسا أن بلديهما ستدفعان 10.6 مليارات دولار، كما سيحاولان أيضا حث الدول الأصغر في الاتحاد الأوروبي المؤلف من 27 دولة على تقديم المزيد، فشل قادة الاتحاد الأوروبي لغاية الآن في التوصل إلى رقم ثابت لصندوق مساعدة الدول الأفقر لمواجهة مشاكل مثل ارتفاع مناسيب مياه البحار أو المحيطات، وإتلاف الغابات، ونقص مياه الشرب والمشاكل التي تنتج عن التغيرات المناخية خلال الفترة بين 2010 و 2012، ومساعدتها على خفض انبعاث الغازات فيها، مما شكل انتكاسة محرجة للكتلة التي طالما كانت في طليعة الكفاح ضد الانحباس الحراري في العالم، على حد تعبير المراقبين.
بينما انتقدت الدول النامية المشاركة في قمة كوبنهاجن على لسان المندوب السوداني الذي تترأس بلاده مجموعة الـ77 التي تضم الصين حجم التعهد الأوروبي واعتبر ذلك " ليس خالياً من أي معنى فحسب، بل إنّه يزيد في الواقع من الحذر بشأن نوايا قادة الاتحاد الأوروبي حيال التغير المناخي"، وأضاف "نعتبر إنّ القادة الأوروبيين يتحركون كأنهم مشككون في التغير المناخي". وحتى المسودة التي يجري النقاش حولها تنظر إليها العديد من الدول على أنّها لا تلبي الحد الأدنى من احتياجات ومتطلبات مواجهة مشكلة الاحتباس الحراري، وانبعاث الكربون إلى الأجواء، وما يترتب عليه من مشاكل بيئية بعضها مدمر.
وهكذا فالنقاشات مستمرة، والاقتراحات كثيرة، والحلول المقترحة متعددة، ولكن في الوقت ذاته الخلافات أكبر، والاستعدادات محل شكٍ، والإنجازات المتوقعة هزيلة، ويستمر طحن الماء إلى ما لانهاية.
والأهم من هذا كله أنّ المجتمعين قد دخلوا في تحليل صورة الفسيفساء حتى أضاعوا المُراقِب عن حقيقة الصورة بعد أن تاه بين أحجار الفسيفساء الصغيرة.
فبغض النظر عن حجم الخطر ودرجته، وبغض النظر عن سُبل تفادي بعض آثاره السلبية، أليس من الأجدر بهؤلاء أن يسلطوا الضوء على أصل الداء حتى يستقيم أن يصفوا له الدواء؟! بلى، ولكن هذا الأمر غير متوقعٍ من الدول المشاركة في هذه القمة لأنّ أصل الداء خطير، لا مجال للمزاح معه أو التعرض له.
إنّها حضارة الرأسمالية ودولها، إنها ثقافة المادة وحساباتها، إنّها المفاهيم التي أضاعت القيم في سوق النخاسة وجعلت من الرأسمالي يلهث وراء شهواته وتلبية رغباته وجشعه دون أدنى شعورٍ بالمسئولية أو الرحمة أو الإنسانية.
نعم عزيزي القارئ، إذا ما ركز المرء قليلا في حقيقة الأمر بعد أن يرتقي عن مستوى النظر الذي حرص هؤلاء على أن لا يرتفع فوقه بصر خشية أن يدرك أحدٌ ما الصورة الكاملة أو جزء منها، إذا ما خرج المراقب قليلاً من الفنجان الذي صنعوا بداخله زوبعة أنست من بداخله أنه ما زال في فنجان، حينها يمكن لأي شخص أن يدرك أنّ أصل المشكلة يكمن في جشع الرأسماليين وفي ثقافة المادة التي جاءت بها الرأسمالية والتي حولت من الغرب حيواناً مفترساً بلا قيمٍ ولا أخلاقٍ ولا اعتباراتٍ سوى اعتبارات الربح والخسارة المادية.
فجل المشكلة تكمن في أنّ العالم الغربي لم يهمه في سعيه لتحقيق الربح المادي سلامة غيره أو صحة البشر أو حتى حياتهم، لأنّ اهتمامه بذلك سيقوده إلى مزيدٍ من النفقات والتحسينات التي ستنقص من مقدار ربحه المادي، فتقليل انبعاث الغازات مثلا يتطلب منه المزيد من المعدات والتحسينات التي تعني بالنسبة له مزيداً من النفقات، ثم أنّه غير مستعدٍ للتخلي عن صناعة ما لأنها تضر بغيره، فهذا أمر لا يدخل في حسابات الرأسمالي. فسواء في إنشاء صناعة جديدة أو في تحسين معايير صناعة موجودة، الأمر مكلف بالنسبة لطالب الربح وهو غير مستعد له.
وكذلك الأمر عندما نتحدث عن محاولة الدول الرأسمالية للتخفيف من انبعاث الغازات بحلول عام 2020 أم عام 2050 ، أم مقدار مساهمتها في مساعدة الدول النامية لمواجهة المشاكل الناجمة عن التلوث البيئي، فالحديث هو عن المال ومقدار ما ستقدمه الدول الرأسمالية من مال أو ستخسره. بمعنى أخر، الموضوع كله حول المال والربح والخسارة وإن غُلف بشعارات وأفكار أخرى.
وما دام الأمر كذلك، والعالم الغربي مستمر في رأسماليته التي أهلكت الحرث والنسل، ولم ترحم فقيراً، ولم تأخذ بيد ضعيفٍ، أو تشفق على عاجزِ، أو تحسب حساباً للقيم والأخلاق والاعتبارات الإنسانية، فالتفكير بحلٍ جذري أو حقيقي للمشكلة غير وارد ولا مطروح فعلياً، وأقصى ما يمكن أن يخرج به هؤلاء هو ما يحفظ ماء وجوههم أمام الشعوب ودعاة الإنسانية، وربما ما يمكن أن يخفف نسبيا من وتيرة تصاعد الأزمة أو الكارثة بعد أن يجتاز اختبار الربح والخسارة وليس اختبار القيم والإنسانية.
هكذا هي الحياة بلا مبدأ يحفظ القيم الأربع (المادية والروحية والخلقية والإنسانية) ويوازن بينها، جحيم ومآسٍ لا تنتهي. فالحياة لا تستقيم إلا بمراعاة هذه القيم الأربع وضمان أن لا تطغى قيمة على أخرى، وهذا ما لا نجده إلا في مبدأ الإسلام العظيم الذي راعى القيم الأربع ولم يسمح أن تطغى إحداها على الأخرى، ففي الوقت الذي شجع فيه الإسلام على الصناعة والتطور، بل وفرض على الدولة الإسلامية أن تسعى لأن تكون الرائدة في الصناعة الثقيلة والعسكرية إلا أنّه في الوقت نفسه ضبط ذلك بمعايير وضوابط حالت بين أن تتحول الصناعة إلى آفة ومعضلة، فحرم كل ما يؤدي إلى ضرر بالإنسان وصحته وعقله وحياته، حتى وإن كان ذلك بغلبة الظن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار"، وأوكل الإسلام إلى الدولة الإسلامية أن تمنع كل صناعة أو ابتكار من شأنه الإضرار بالإنسان مهما كان العائد المادي أو الخسارة.
فالأمر في ظل حضارة الإسلام ودولته محسوم ومبتوت، لا يحتاج إلى قمم ومؤتمرات تحيل الأمر إلى أحجية لا حل لها. فإنّ ثبت فعلاً إنّ صناعة ما تضر بالإنسان وصحته بغلبة الظن فمصيرها المنع وليس الحد منها! بغض النظر عن الخسارة التي قد تلحق من جراء منعها. فالله قد سخر السماوات والأرض وما فيهن لأجل الإنسان ولكن الرأسمالية أرادت تسخير السماوات والأرض وما فيهن بما في ذلك معظم البشر لصالح طبقة الرأسماليين.