دور الإعلام في فرقة الأمة ومحاربة مشروعها التوحيدي
المهندس باهر صالح
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين
إنّ الأصل في الشعوب والأمم الحية أن تتكاتف عناصرها وتتداعى مكوناتها لما يصيبها ويلمُّ بها من مصائب أو نكبات، وأن يتزاحم أبناؤها في ممر العبور نحو العزة أو النصر أو التحرير. فإذا ما وقعت الأمة تحت احتلال أو مصيبة تداعى أبناؤها على اختلاف مهامهم وقدراتهم للعمل على الخلاص من ذلك الاحتلال، والتصدي لتلك المصيبة، فهي كالجسد الحي إذا ما اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وخلاف ذلك يعني أنّ هناك مشكلة في الوظائف الحية للجسد، أو موتًا لبعض الأعضاء أو للجسد كله.
وإذا ما كان الحديث عن الأمة الإسلامية، فهي أولى وأدعى لما لديها من مبدأ وثقافة زاخرة بمعاني العزة والوحدة والحياة الجماعية والمجتمعية المتميزة؛ بحيث لا يرى الفرد عزًا له بدون عزة الجماعة، يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، ما يصيب المجتمع يصيبه بحكم جزئيته الفكرية والشعورية في المجتمع.
ولعل وثيقة المدينة هي أبلغ صورة لهذا الكلام، فقد جاء فيها: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ، وَأَنْ لَا يُحَالِفَ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ، أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ، أَوْ إثْمٍ، أَوْ عُدْوَانٍ، أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ… وَإِنَّ ذِمَّةَ اللَّهِ وَاحِدَةٌ، يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النَّاسِ، وَإِنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ، غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرِينَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ، لَا يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ، فَإِنَّ مَرَدَّهُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِلَى مُحَمَّدٍصلى الله عليه وسلم… وَإِنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ، فَإِنَّ مَرَدَّهُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم…».
والأمة الإسلامية قد انتكبت منذ أن هُدمت دولتها في 28 من رجب لعام 1342هـ، الموافق 3/3/1924م، فغاب شرع الله عن التطبيق، وحل مكانه استعمار وأنظمة وضعية، وقطعت أوصالها ووضع لذلك دساتير وحدود وسدود، وتسلط عليها العدو بالاستعمار العسكري والاقتصادي والفكري والسياسي، وسخر لذلك أدوات ومنابر وهيئات وحكومات، ومع تصاعد دور الإعلام في نهايات القرن العشرين، أولى الاستعمار الإعلام اهتمامًا كبيرًا، تمويلًا وتدريبًا وتسخيرًا؛ حتى تحول من الوصف بالسلطة الرابعة على سبيل المجاز إلى الحقيقة، وبات يزاحم السلطات الثلاث في التأثير والقدرة على فرض السياسات والخطط والبرامج على الشعوب والجماهير.
وبدل أن ينحاز الإعلاميون إلى قضايا أمتهم بوصفهم جزءًا منها، همهم واحد، ومصابهم واحد، رضوا أن يصبحوا أداة بيد الحكام والاستعمار لتثبيت أركانه وإطالة عمره في بلاد المسلمين. فباتت الحروب الإعلامية جزءًا لا يتجزأ من الحروب السياسية والعسكرية على بلاد المسلمين، وصار يُنفق على الإعلام أكثر مما يُنفق على غيره من أدوات فرض السيطرة والاستعمار على بلاد المسلمين.
فكما أصبح الدعاة إلى التغيير الجذري محل اتهام وملاحقة وتضييق من الحكومات وأجهزتها الأمنية في بلاد المسلمين، أصبحوا في مرمى الإعلام تشويهًا ومحاربةً لأفكارهم، وإقصاءً لشخوصهم، واستبعادًا لهم من دائرة الضوء ونوافذ الوصول إلى الجماهير.
فحيثما ترى مصلحة الغرب في بث أفكار معينة تحول دون التحرر والنهضة، تجد وسائل الإعلام تنبري ببرامجها ووجوهها التي صنعتها للمشاهد في الترويج لتلك الأفكار ولدعاتها، وفي التعمية والتغطية على من يرفضها أو يحاربها، حتى وصل الحال بأن فرضوا طوقًا إعلاميًا وجدارًا فولاذيًا حول الدعاة للتغيير الحقيقي؛ للحيلولة دون أن تصل أصواتهم إلى الجماهير، وأفكارهم إلى الشعوب.
ومن الأفكار المحورية التي عمل الاستعمار وأدواته على الترويج لها ونشرها في العالم الإسلامي تلك التي ترسخ حالة الفرقة والتشرذم التي أدرك الغرب أنها من أهم ركائز دوام الاستعمار وإضعاف الأمة، وعمل على محاربة الأفكار التوحيدية والمفاهيم التي من شأنها أن تزيل أسباب الخلاف والفرقة، وجهد في محاربة الدعاة للوحدة والعاملين للتغيير.
فعلى سبيل المثال، عظّم الإعلام من أهمية الأفكار القومية والوطنية للدول، وجعل من الحدود الوطنية للدول ثوابت لا تحتمل النقاش، وأثار النكير على كل ما يهددها أو يزعزع من مكانتها، فتلك قطر والسعودية والأردن ومصر والإمارات وتركيا وإندونيسيا…، وذلك فخامة الرئيس وجلالة الملك ومعالي الوزير ودولة رئيس الوزراء…، حتى صُوّرت فكرة الوحدة بين أي قطرين أمرًا يستحيل حصوله طبيعيًا، لأنه إما أن يكون تعديًا على سيادة دولة أو احتلال دولة لأخرى، وتعامَوا بل طمسوا كل الأفكار والمفاهيم التي جعلت المسلمين أمة واحدة، وحاربت كل أشكال التفريق أو الخلاف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ» أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله تعالى: ( وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ ْ).
وعمل الإعلام على نشر وتعزيز الأفكار التي زرعها الاستعمار لتفتيت الأمة وشرذمتها، كفكرة الطائفية وتقسيم العالم الإسلامي إلى «سنة وشيعة»، وصنع من أجل ذلك مفكرين وإعلاميين وقادة ودعاة أشكلوا على المسلمين دينهم، وصوروا للمسلمين بأنّ الخطر الشيعي على السني أو السني على الشيعي أخطر من الاستعمار نفسه! حتى وصل الحال بأن وصف حكام الخليج الخطر الإيراني على المنطقة أعظم من خطر كيان يهود، وتساوق معهم مريضو النفوس، وسايرهم في ذلك ضعاف الفهم الفقهي والفكري والسياسي، حتى صنعوا للمسلمين عدوًا وهميًا من بينهم، وأشغلوا المسلمين بعضهم ببعض، وأوجدوا للمتحمسين للدين متنفسًا للغضب ومحلًا لتفريغ الطاقات والحماسات، مع أنّ المشاهد المحسوس أن الحكام المحسوبين على «السنة» هم كالحكام المحسوبين على «الشيعة» في عدائهم للإسلام ومكرهم بأهله، وتقاطرهم مع الاستعمار في حرب الأمة وسعيها للتحرر.
وبذلك شتت الغرب من خلال فكرته هذه والتي ساهم الإعلام بشكل جلي في نشرها، شتت جهود أبناء الأمة وأرهق المندفعين للتغيير في حرب تعيق التغيير وتعرقل الجهود الرامية للوحدة والنهضة من جديد.
أما على صعيد مشروع الأمة التوحيدي، ألا وهو مشروع الخلافة الراشدة، فقد حظي بنصيب الأسد من تآمر الإعلام عليه وعلى العاملين له، فعلى الرغم من إدراك الأمة بشكل شبه يقيني أن توحدها وخلاصها مما هي فيه من ويلات ونكبات لن يكون إلا بالإسلام الصافي، وتنامي الإدراك بالحاجة الماسة لخلافة راشدة تجمع شعث الأمة وتلملم جراحها، وعلى الرغم من تكاثر الداعين لهذا المشروع وتصاعد نشاطاتهم وفي مقدمتهم حزب التحرير، على الرغم من ذلك كله، إلا أنّ الإعلام مصرّ على مواصلة التعمية على هذا المشروع بل ومحاربته بأخبث الوسائل والأفكار.
فمن جانب عَمِل الإعلام على تشويه فكرة الوحدة على أساس الإسلام في ظل الخلافة الراشدة، وأبرز مشاهد التشنيع على ذلك متخذًا من ممارسات فردية أو حزبية أو فصائلية شماعةً ومبررًا لمهاجمة الفكرة والنيل منها، وحمّل المشروع تجاوزات ومخالفات البعض في تجاهل تام للموضوعية أو الشفافية أو الدقة التي من المفترض أن تكون بديهيات العمل الإعلامي.
وعمل الإعلام على تضخيم المخاطر والعواقب التي قد تترتب على التمسك بالإسلام المبدئي لتخويف الجماهير والشعوب من نتيجة السعي للتمايز عن الغرب وحضارته، وعدم القبول بالتعايش مع أفكار الكفر والاستعمار، متخذًا مما حلَّ بالمخلصين والجموع التي نادت بالتمسك بالإسلام في الشام وأفغانستان والعراق ومصر من نهايات مأساوية وعواقب وخيمة دليلًا حسيًا على ذلك، ليوجد قناعة لدى الشعوب بأن مسايرة الغرب وأفكار الحداثة الغربية هي الطريق الأسلم والأوفر حظًا في هذا العصر، وتلك هي الميكافيلية أو البراغماتية التي أراد الإعلام الترويج لها والبرهنة على صوابها بشكل عملي دون الحاجة للجدل الفلسفي الذي لا تقوى عليه تلك الأفكار المتهافتة.
ومن خلال إبراز شتى أنواع الاختلاف بين الشعوب في العالم الإسلامي، سواء على أساس جهوي، أم قومي، أم طائفي، أم مناطقي، أم فصائلي… عمل الإعلام على تصوير الوحدة في العالم الإسلامي أشبه بالحلم المستحيل، إذ صور تلك الفواصل المصطنعة على أنها سواتر وحواجز وجودية يتطلب تخطيها أو تجاوزها إراقة للدماء، وخوض معارك ضارية ستخسر فيها كل الأطراف؛ ليجعل من التعاون أو التعايش مع كل تلك الفواصل هو أسمى الغايات الممكنة وأقل الحلول تكلفة.
أما تلك الأفكار وأولئك العاملون والداعون للوحدة والمشروع التوحيدي، فقد تجاهلهم الإعلام إلى درجة لم تُبقِ شكًّا عند المراقبين بتآمر الإعلام على ذلك المشروع والعاملين له، فنشاطات ميدانية وفعاليات ضخمة ينظمها حملة الدعوة ومن ساندهم في فكرتهم عبر العالم الإسلامي بأكمله ووسط الجاليات المسلمة في الغرب، وبشكل متواصل دونما انقطاع، لا تحظى بأدنى اهتمام أو تسليط للضوء عليها، حتى بمجرد تغطية لحدث أو فعالية، مع أنّ الأصل أن تحظى هكذا نشاطات وفعاليات باهتمام واضح من الإعلام لكونها تحتل حيزًا كبيرًا من اهتمامات الشارع وتوجهات الشعوب، والأصل أن تثار حولها النقاشات والحوارات والبرامج التي تساهم في خلق حالة وعي جماهيري عام على جدواها وصحتها.
لكن بدلًا من ذلك، يتجاهل الإعلام بشكل متعمد كل تلك النشاطات والفعاليات والحراك المجتمعي، وكأنّ شيئًا لم يكن، إلى درجة توهم البسطاء بانعدام تلك الأفكار أو الداعين لها رغم ملامستهم وإحساسهم الفعلي المباشر بحملة الدعوة ونشاطهم وحراكهم، في حين يتهافت الإعلام على تغطية كل تافه أو ساقط، حتى لو لزم أن يملأ فراغ الشاشة بتقارير تتحدث عن نبتة أو حشرة في بلاد الواق واق، فالمهم عنده أن لا تقفز أفكار المشروع الإسلامي التوحيدي إلى الشاشة، وأن لا يشعر المشاهد أو القارئ بفراغ يدفعه للبحث أو التدبر بحال الأمة ضمن رؤية شاملة تستدعي الحل الجذري المتمثل بخلافة راشدة على منهاج النبوة.
وملخص القول، إنّ الإعلام بات أداة فعالة بيد الاستعمار كما الحكام في بلاد المسلمين، وهو يعمل على محاربة أية أفكار قد تؤدي إلى وحدة الأمة واستعادة عزتها، سواء بالتعمية، أم بالتضليل، أم بالتحريف، وبأساليب خبيثة يتسع مداها لتشمل البسيط والمعقد، المرحلي التدريجي والشمولي، المباشر وغير المباشر، والمهم عنده أن تبقى أطروحات الاستعمار وحلوله ومشاريعه هي محل البحث والتفكر والنظر، وأن تغيب عن الشاشة أفكار الإسلام المبدئية التي من شأنها أن تهز الاستعمار أو تطيح بعروشه في بلاد المسلمين، وهم في كل ذلك إنما يركنون إلى ما أوتوا من قوة ومال ومكنة، ولكن يبقى الله هو حَسْبَ المؤمنين المخلصين، مصداقًا لقوله تعالى:(وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ)، ويبقى وعد الله بنصر أوليائه أوثق وأصدق وعدًا، قال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ )، وسيبقى قول الله تعالى: ( إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيۡهِمۡ حَسۡرَةٗ ثُمَّ يُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحۡشَرُونَ) حاضرًا في أذهان العاملين المخلصين للتغيير، وستبقى، بعون الله، عزيمة حملة الدعوة صلبة لا تزعزعها الجبال، فهم إنما يستمدون العون ويعتصمون بالله وحده القاهر فوق عباده. والله معهم ولن يترهم أعمالهم.