بسم الله الرحمن الرحيم

جواب سؤال: عن معنى الحديث الشريف (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)

 إلى (أبو مؤمن حماد)

 

السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بارك الله بك شيخنا وعجّل بالنصر على يديك .... ونفعنا الله بعلمك،

من الأحاديث الصحيحة المشهورة، يرويه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (149)، والألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم/599

والسؤال هو :ما معنى الحديث؟ وهل كلمة "من" في الحديث تفيد أنّ المجدد فرد أم جماعة؟ وهل يمكن حصرهم في القرون السابقة ؟ وجزاكم الله خير

 

الجواب:

 

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

 

نعم، الحديث صحيح، وفيه مسائل خمس:

 

1.         من أي تاريخ تبدأ المئة؟ هل من مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو من البعثة، أو من الهجرة، أو من وفاته صلى الله عليه وسلم ؟

2.         هل "رأس كل مئة" تعني في أوائل كل مئة، أو خلال كل مئة، أو في أواخر كل مئة؟

3.         هل كلمة "من" تعني أحد الناس، أو تعني جماعة تجدد للناس دينهم؟

4.         هل وردت روايات لها وجه صحيح في تعداد الرجال المجددين خلال مئات السنين الماضية؟

5.         وهل يمكن أن نعرف في المئة الرابعة عشرة التي انتهت في 30 ذي الحجة 1399هـ من هو المجدد للناس دينهم؟

وسأحاول ما استطعت أن أذكر الراجح لدي في هذه المسائل دون الخوض والغوص في نقاط الاختلاف، فأقول وبالله التوفيق، وهو الهادي سبحانه إلى سواء السبيل:

1.         من أي تاريخ تبدأ المئة؟

قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ فَتْحِ الْقَدِيرِ "وَاخْتُلِفَ فِي رَأْسِ الْمِائَةِ هَلْ يُعْتَبَرُ مِنَ الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ أَوِ الْبَعْثَةِ أَوِ الْهِجْرَةِ أَوِ الْوَفَاةِ..." والراجح لدي أنه اعتباراً من الهجرة، فهي الحدث الذي عزّ به الإسلام والمسلمون بإقامة دولته، ولهذا عندما جمع عمر الصحابة للاتفاق على بداية التاريخ اعتمدوا الهجرة. أخرج الطبري في تاريخه قال:

"حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: جَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ، فَسَأَلَهُمْ، فَقَالَ: من أي يوم نكتب؟ فقال علي: من يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وَتَرَكَ أَرْضَ الشِّرْكِ، فَفَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقال أبو جعفر: وقد اعتبروا السنة الهجرية الأولى من محرم تلك السنة أي قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بشهرين وأيام حيث كان مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من ربيع الأول".

وعليه فقد رجّحت أن تُعدّ السنين المئات من التاريخ الهجري الذي اعتمده الصحابة رضوان الله عليهم.

2.         أما رأس المئة فالراجح هو آخرها، أي أن المجدد يكون في أواخر المئة عالماً مشهوراً تقياً نقيا، وتكون وفاته في أواخرها وليس في نصفها أو خلالها. أما لماذا رجحت ذلك فللأسباب التالية:

أ- ثبت بروايات صحيحة أنهم عدّوا عمر بن عبد العزيز على رأس المئة الأولى، وهو رضي الله عنه توفي سنة 101هـ وعمره أربعون سنة، وعدّوا الشافعي على رأس المئة الثانية وهو توفي سنة 204هـ وعمره أربع وخمسون سنة.

وإذا أُخذ تفسير "رأس كل مئة سنة" بغير هذا، أي فُسر بأول المئة، فلا يكون عمر بن عبد العزيز مجدد المئة الأولى لأنه ولد سنة 61هـ، ولا يكون الشافعي مجدد المئة الثانية لأنه ولد سنة 150هـ. وهذا يعني أن "رأس كل مئة" الواردة في الحديث تعني أواخر المئة وليس أولها، فيكون قد ولد خلالها ثم أصبح عالماً مشهوراً مجددا ًأواخرها، وتوفي أواخرها.

ب- أما الدليل على أن عمر بن عبد العزيز هو مجدد المئة الأولى والشافعي مجدد الثانية فهو ما اشتهر عند علماء الأمة وأئمتها، فقد اتفق الزُّهْرِيَّ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهَمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنَ الْمُجَدِّدِينَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُولَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ تُوُفِّيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ وَلَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَمُدَّةُ خِلَافَتِهِ سَنَتَانِ وَنِصْفٌ وَتُوُفِّيَ الشَّافِعِيُّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً. وقد قَالَ الحافظ بن حجر في توالي التأسيس قال أبو يكر الْبَزَّارُ سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْمَيْمُونِيَّ يَقُولُ كُنْتُ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَجَرَى ذِكْرُ الشَّافِعِيِّ فَرَأَيْتُ أَحْمَدَ يَرْفَعُهُ وَقَالَ روي عن النبي يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَيِّضُ فِي رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ قَالَ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُولَى وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُخْرَى.

وَمِنْ طَرِيقِ أَبَى سَعِيدٍ الْفِرْيَابِيِّ قَالَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِنَّ اللَّهَ يُقَيِّضُ لِلنَّاسِ فِي كُلِّ رَأْسِ مِائَةٍ مَنْ يُعَلِّمُ الناس السنن وينفي عن النبي الْكَذِبَ فَنَظَرْنَا فَإِذَا فِي رَأْسِ الْمِائَةِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَفِي رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ الشَّافِعِيُّ.

وقال ابن عَدِيٍّ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ يَقُولُ سَمِعْتُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ كَانَ فِي الْمِائَةِ الْأُولَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَفِي الثَّانِيَةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ.

وأخرج الحاكم في مستدركه عن أبي الْوَلِيدِ، قال: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ شُرَيْحٍ إِذْ قَامَ إِلَيْهِ شَيْخٌ يَمْدَحُهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ الْخَوْلَانِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ شَرَاحِيلَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» فَأَبْشِرْ أَيُّهَا الْقَاضِي، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبَعَثَ عَلَى رَأْسِ الْمِأَتَيْنِ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيَّ...

قَالَ الْحَافِظُ بْنُ حَجَرٍ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ كَانَ مَشْهُورًا فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ.

ج- وقد يقال إن رأس الشيء في اللغة يعني أوله، فكيف نرجح أن رأس كل مئة آخرها وليس أولها؟ والجواب أن رأس الشيء كما هو في اللغة أول الشيء كذلك هو آخره. قَالَ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ رَأْسُ الشَّيْءِ طَرَفُهُ وَقِيلَ آخِرُهُ. وقال في لسان العرب خرج الضب مرائسا: استبق برأسه من جحره وربما ذنّب، أي خرج بأوله أو بآخره، وعليه فإن رأس الشيء كما ورد بمعنى أوله في اللغة، ورد كذلك بمعنى طرفه سواء أكان أوله أو آخره، ونحتاج إلى قرينة ترجح المعنى المقصود في الحديث لرأس المئة أهو أولها أم آخرها، وهذه القرائن موجودة في الروايات السابقة باعتبار عمر بن عبد العزيز مجدد المئة الأولى وهو قد توفي في 101هـ، واعتبار الشافعي مجدد المئة الثانية وهو قد توفي في 204، كل هذا يرجح أن المعنى في الحديث هو أواخر المئة وليس أولها.

وبناء على ما سبق فإني أرجح أن معنى "رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ" الواردة في الحديث هو أواخر كل مئة.

3.         أما هل "من" تعني واحداً أو جماعة، فإن الحديث روي «يبعث لهذه الأمة... من يجدد لها دينها»، ولو كانت "من" تدل على الجمع لكان الفعل مجموعاً أي "من يجددون"، ولكن ورد الفعل بالإفراد "يجدد"، ومع أن دلالة "من" فيها معنى الجمع أيضا حتى وإن كان الفعل بعدها مفرداً، إلا أني أرجح أنها هنا للمفرد بقرينة يجدد، وأقول أرجح لأن الدلالة هنا بالإفراد ليست قاطعة حتى وإن كان الفعل بعدها مفردا، ولذلك فإن هناك من فسر "من" بدلالة الجماعة، وعددوا في رواياتهم جماعات من العلماء في كل مئة، ولكنه قول مرجوح كما ذكرت آنفاً.

وعليه فالراجح لدي أن "من" تدل على الواحد، أي أن المجدد في الحديث هو رجل واحد عالم تقي نقي...

4.         أما تعداد أسماء المجددين في المئات السابقة، فقد وردت روايات في ذلك وأشهرها أرجوزة السيوطي حيث عدد فيها للمئة التاسعة، وسأل الله سبحانه أن يكون هو مجدد التاسعة، وأنقل لك بعض ما في أرجوزته:

"فَكَانَ عِنْدَ الْمِائَةِ الْأُولَى عُمَرْ خَلِيفَةُ الْعَدْلِ بِإِجْمَاعٍ وَقَرْ...

وَالشَّافِعِيُّ كَانَ عِنْدَ الثَّانِيَةِ لِمَا لَهُ مِنَ الْعُلُومِ السَّامِيَةِ...

وَالْخَامِسُ الْحَبْرُ هُوَ الْغَزَالِي وَعَدّهُ مَا فِيهِ مِنْ جِدَالِ...

وَالسَّابِعُ الرَّاقِي إلى المراقي بن دَقِيقِ الْعِيدِ بِاتِّفَاقِ...

وَهَذِهِ تَاسِعَةُ الْمِئِينَ قَدْ أَتَتْ وَلَا يُخْلَفُ مَا الْهَادِي وَعَدْ وَقَدْ رَجَوْتُ أَنَّنِي الْمُجَدِّدُ فِيهَا فَفَضْلُ اللَّهِ لَيْسَ يُجْحَدُ...

وهناك أقوال أخرى تستمر إلى ما بعد ذلك.

 

5.         وهل يمكن أن نعرف في المئة الرابعة عشرة التي انتهت في 30 ذي الحجة 1399هـ من هو المجدد للناس دينهم؟

لقد لفت نظري ما اشتهر عند العلماء المعتبرين من أن رأس السنة هو أواخرها، فعمر بن عبد العزيز ولد في 61 للهجرة وتوفي على رأس المئة الأولى 101هـ، والشافعي ولد في 150 للهجرة وتوفي على رأس المئة الثانية 104هـ...

أي أن كل واحد منهما قد ولد خلال المئة واشتهر في أواخرها وتوفي أواخرها، وكما قلت فإني أرجح هذا التفسير لما اشتهر بين العلماء المعتبرين أن عمر بن عبد العزيز هو المجدد على رأس المئة الأولى، والشافعي هو المجدد على رأس المئة الثانية. وبناء عليه فإني أرجح أن العلامة الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله هو المجدد على رأس المئة الرابعة عشرة، فهو قد ولد 1332هـ واشتهر أواخر هذه المئة الرابعة عشرة، وبخاصة عندما أسس حزب التحرير في جمادى الثانية سنة 1372هـ، وتوفي أواخرها 1398هـ، وكان لدعوته المسلمين إلى القضية المصيرية، استئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة الراشدة، أثر كبير في حياتهم وفي جدهم واجتهادهم، حتى أصبحت الخلافة اليوم مطلباً عاماً للمسلمين، فرحم الله أبا إبراهيم، ورحم أخاه أبا يوسف من بعده وحشرهما مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

 

هذا ما أرجحه يا أخي أبا مؤمن، والله أعلم بالصواب، وهو سبحانه عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ.

أخوكم عطاء بن خليل أبو الرشتة

14 شعبان 1434هـ

23 حزيران 2013 م