بسم الله الرحمن الرحيم

خطاب من حزب التّحرير- تونس إلى أعضاء المجلس التّأسيسيّ

(( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ))

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا

والصلاة والسلام على من بعث بالعروة الوثقى، من تمسك بها فقد نجا، ومن تركها فقد خاب.

السيّد رئيس المجلس التأسيسيّ

السّادة النّوّاب المحترمين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

لم تكن بلادنا تونس، في تاريخها الطّويل عزيزة منيعة إلا بالإسلام، فقبل أن يفتحها المجاهدون كانت مهينة أسيرة تحت سيطرة الرّوم البيزنطيين، ولمّا فُتحت، اقتنصت الفرصة وحملت الإسلام نظام حكم وحياة فقادت الشمال الأفريقي بل وأكثر من ذلك، وصار أهلها أعزّة بالإسلام وصارت تونس جزءًا عزيزا من بلاد الإسلام الواسعة، فانطلقوا فاتحين للشمال الأفريقي حتى وصلوا إلى الأندلس وإلى صقلّيّة، وبزغ من جامعاتها نور العلم، وصارت قبلة لطلبة العلم. ثم خلف من بعدهم خلف غلبت عليهم شهوة الحكم والكراسيّ، فاستقلّوا عن دولة الخلافة ويمّموا وجوههم شطر الغرب فكانوا لقمة سائغة لفرنسا الاستعماريّة غرّتهم بحديث الإصلاح والتّحديث وزيّنت لهم المشاريع زخرفَ القولِ غرورا، ووعدتهم ومنّتهم الأمانيّ، وأغدقت عليهم بعد ذلك أموالا وقروضا أغرقتهم وأغرقت معهم البلاد في دوّامة فساد وظلم، ثمّ انقضّت على البلاد تنهبها وعلى أهلها تستعبدهم وتسوسهم بالقهر والبطش. ولم تخرج جيوش الاستعمار من بلادنا حتّى ضمنت أموراً عدّة:

-        أن يكون على رأس البلاد عملاء له يعشقون فكره ويؤمنون به، فسيطر النّظام الرّأسمالي الديمقراطيّ.

-        استمرار انفصال البلاد عن بقيّة بلاد الإسلام. حتّى تظلّ البلاد ضعيفة يسهل السيطرة عليها.

-        ضمان إبعاد الإسلام من الحكم ومن رعاية شؤون النّاس، فحوربت أفكار الإسلام وأغلق جامع الزّيتونة، وشرّد علماؤه.

-        الارتباط بالمستعمر في الأفكار والبرامج والمشاريع والتمويل.

وتمّ للمستعمر ما أراد بمعاونة شرذمة قليلة من أبناء البلد رضوا أن يكونوا خدما للكافر المستعمر، فساسوا النّاس بالقهر والبطش والتجهيل، وشهدت البلاد أزمات وهزّات وذاق النّاس الأمرّين تحت حكم بورقيبة ومن بعده بن علي، بسياسات سُطّرت في مختبرات الساسة الغربيّين وبتمويل من الدّوائر الاستعماريّة فدخلت البلاد في دوّامات من الاضطرابات والأزمات أنهكت المجتمع وبدّدت طاقاته. ومن جرّاء هذه السياسات الظّالمة انفجر الوضع في ثورة غاضبة بعد أن انكشف عوار هذه الأنظمة وأزكمت رائحة فسادها الأنوف، ونادى النّاس جميعا بإسقاط النّظام وأجمعوا على ضرورة التّغيير الجذريّ. وصار شعار الثورة "الشعب يريد إسقاط النّظام"، وفي غمرة الفوضى استدرج بعض النّاس إلى انتخابات مجلس تأسيسيّ لإحداث التغيير الذي أراده الكافر المستعمر ولكن هذه المرة بأيدي بعض من سماهم إسلاميين "معتدلين ووسطيين" وغير ذلك من المسميات الغربية الدخيلة.. ذلك التغيير الذي يحافظ على النظام وبنيته وولائه للغرب ولفكره ويغير الوجوه والأشكال.

والفرصة اليوم متاحة لنا كما كنا بالأمس، أن نرجع لقيادة المنطقة كاملة وأن نكون منارات هدى لها كما كنا في المرة الأولى بالإسلام نظام حكم وحياة.

حضرات النّوّاب المحترمين:

لقد انتخبكم من انتخبكم من النّاس لتكونوا نوّابا عنهم ووكلاء تضعون لهم نظاما جديدا يكون أساسا لتغيير جذريّ يُخرجهم ممّا تردّوا فيه منذ أن دخل الاستعمار البلاد، وقد اختاركم من اختاركم من النّاس ووثقوا فيكم لإسلامكم، ولكنّكم ما بدّلتم ولا غيّرتم شيئا حقيقيا إلاّ زينة غربية عارضة بغيضة، فعرضتم مشروع مسوّدة دستور أهمّ ما يميّزها:

-        لا تقيم لعقيدة المسلمين في هذا البلد وزنا ولا تجعل لها من اعتبار، ففصلت الإسلام عن رعاية شؤون النّاس. في الاقتصاد والتعليم والإعلام والنظام الاجتماعي والأخلاقي بل وفي العبادات وكل شيء...

-        المحافظة على النّظام الرّأسمالي بوجهه الجمهوريّ وأداته الدّيمقراطيّة، ذات النّظام الذي ساسنا به بورقيبة ومن بعده بن عليّ.

-        المحافظة على فصل البلاد عن بقيّة بلاد الإسلام. في سياسة فرق تسد.

هذا مع ما نراه منكم ونسمعه عن توجّهكم نحو الغرب والارتماء على عتباته تطلبون رضاه ويباهي بعضكم بشهادات الغرب، مع سكوتكم المريب عن تدخّل المستعمر في صياغة الدّستور والإشراف عليه مباشرة أو عن طريق ما تسمّونه منظّمات المجتمع المدني ذات التّمويلات الغربيّة المشبوهة. فعرضتم مشروع مسوّدتكم على النّاس لنقاشها برعاية البرنامج الإنمائي للأمم المتّحدة الذّراع الاستعماري للقوى العظمى، ما يجعلنا نتيقّن أنّ دافعكم لمبادرة عرض مشروع المسودّة لم يكن الإخلاص والصّدق لإنقاذ البلاد وإنّما هو محاولة منكم للظهور بمظهر من لا ينفرد بقرار وهو سعي مشبوه لإقرار نظام ثار عليه النّاس بعد أن تسوّقوا أنّ هذا ما وضعتموه بمشاركة الناس وموافقتهم، فتعيدوا إنتاج النّظام ذاته الذي أفسد على النّاس حياتهم ومعاشهم وأوردهم المهالك.

أيّها الأعضاء المحترمون:

إنّنا مع معرفتنا بجميع هذه الأمور وأنّكم حزمتم أمركم، ومعرفتنا أنّ مجلسكم لا يختلف عن البرلمانات السابقة، سوى في بعض الأمور الشّكليّة، وبأنّكم تريدون مثلهم اتّباع الغرب في الفكر والمنهج، وإبعاد الإسلام عن الحياة وإنّكم بمسعاكم هذا تجعلون البلاد رهنا بيد الكافر المستعمر ضعيفة تابعة تنتظر رضا الغرب عنها وعن حاكمها.

إنّنا مع معرفتنا بكلّ هذا، نعلم أيضا أنّكم مسلمون وندرك أنّ للإنسان ساعات يرجع فيها إلى ربّه ويفكّر فيها تفكيرا جدّيّا ومخلصا، يتخطّى به الخطأ بل الخطيئة، ويرجع إلى الصّواب ويلزم العمل بما يُصلح شأن أمّته وأهله وبلده في الدّنيا والآخرة، وينبذ بل ويحارب كلّ ما يُردي أمّته وأهله وبلده، خاصّة إذا أدرك خطورة ما يقوم به ومدى الضّرر البالغ الماحق الذي يلحق بأمّته وأهله وبلده إذا ما تمسّك بالسّير المنحرف، ونحن في هذا المقام نذكّركم وننصحكم نصيحة الأخ الحريص بالأمور التّالية:

-        إنّ النّظام الرّأسماليّ نظام من وضع البشر ظهر فساده على جميع المستويات، فكريّا وسياسيّا فهو نظام قام على فكرة فصل الدّين عن الحياة وهي فكرة توافقيّة ناتجة عن الحلّ الوسط بين المفكّرين والفلاسفة في أوروبا من جهة وبين كنيسة افترت على الله دينا ما أنزل به من سلطان، في الجهة المقابلة فهي فكرة لم تقم على الحق ولم تنهض بها حجّة ولا صدّقتها الوقائع،

-        أمّا الآليّة الأساس في النّظام الرّأسماليّ التي بها يُنتجون الحلول لمشاكلهم فهي آليّة الحلّ الوسط أو "التّوافق" بتسميتكم أنتم، والناظر فيها يجد أنّها لا تنتج حلولا حقيقيّة صحيحة لمشاكل الانسان، وإنّما تُنتج حلولا يفرضها الأقوياء في المجتمع (وهم قلّة) يُسوّقونها على أنّها الحلّ الصّحيح والعلاج الشّافي مستغلّين إعلامهم ونفوذهم وأموالهم...،

-        فما ظنّكم بنظام عقيدته لا دليل عليها وآليّته تجعل الصّراع في المجتمع طبيعيّا بل مستحكما؟ هل هذا ما ترضونه لأمّتكم وأهلكم وبلدكم؟!

هذا على المستوى الفكري النّظريّ. أمّا على مستوى الحكم فإنّ حقيقة الدّيمقراطيّة تتمثّل في تحكّم الأقوياء النّافذين، فأنتم ترون الدّيمقراطيّة في أمريكا رأس حربة الديموقراطية وأعرقها، كيف تتحكّم الشركات الكبرى فيها بالقرار السّياسيّ، فلا يصل إلى الكونغرس أو مجلس الشّيوخ أو الرئاسة إلا من دعمته كبرى الشركات، وموّلت حملته الانتخابيّة ولمّعت صورته في إعلامها، ثمّ تستخدمهم فيما بعد في رسم السّياسات وإصدار القوانين التي تخدم مصالحها، كلّ هذا يتمّ بإشراك النّاس تحت مسمّى الانتخابات الحرّة النّزيهة، هذا ولقد أدرك مفكّرو الغرب منذ ما يزيد عن نصف قرن أنّ الدّيمقراطيّة نظام سيّء وأنّه غير قادر على الحكم فالواقع الذى عاشه الغرب أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الدّيمقراطيّة فكرة خيالية، وأنّ الذى يحكم في حقيقة الأمر هم أصحاب رؤوس الأموال، والذى يشارك في وضع القوانين ليس الشعب بل بضعة أفراد يخول إليهم مسألة التشريع حتى يضعوا مقاييسَ للناس ويحددوا لهم ما يجوز وما لا يجوز أن يفعلوه، وهذا نوع من الاستعباد نقل الغرب من عبودية رجال الدين والإقطاعيين في العصور الوسطى إلى عبودية البرلمانات في العصر الحديث. وبشهادة الغرب نفسه فإن الديمقراطية لم تعد صالحة للحكم وأصبح مصطلح عدم القدرة على الحكم "ungovernability" متداولاً بين المفكرين وأهل السياسة الغربيين منذ ما يزيد عن 50 عاماً، وأصبح البحث عن بديل للديمقراطية هو الشغل الشاغل للمفكرين.

أمّا النّاحية الاقتصاديّة: ففشل النّظام الرّأسمالي ظاهر لكلّ ذي عينين، فالأزمات الاقتصادية التي عصفت، وما زالت، بالغرب ليست وليدة اليوم بل يمتد عمرها إلى قرابة المائة عام، ولم تكن إلا بسبب عجز نظامهم عن تدبير شؤون المال بالشكل الذى يشبع حاجات الإنسان بالطريقة التي تتفق مع طبيعته، ففشلوا فى تحديد المشكلة الاقتصادية واعتبروها كامنة في قلة موارد الدول، وعجزوا عن فهم طبيعة الإنسان فلم يُفرّقوا بين حاجاته الأساسية وحاجاته الكمالية، وجعلوا التملّك حريّة لا ضابط لها يضبطها بسبب جهلهم بطبيعة المال الذى يُتملك، وجعلوا الربا أُسّا لنظامهم الاقتصادي فأفسد عليهم المال وقيمته، وعمدوا إلى النظام النقدي فقضوا عليه فتفاقمت مشاكلهم. وتراهم فى كل مرة، يحاولون لملمة مصائبهم، ولكنّ الخرق اتّسع على الرّاتق، حتى انقلب النّظام على نفسه وأصبحنا نرى دولاً رأسمالية تتبع سياسة التأميم مما يعد انقلاباً على مبدئهم، ويكفى تدليلاً على فساد هذا النظام الرأسمالي ما قاله أحد أبنائه وهو روجر تيري في كتابه المعنون بـ "جنون الاقتصاد": (إن المشكلة لا تكمن في كيفية تطبيق نظامنا الاقتصادي، فنظامنا الاقتصادي بعينه هو المشكلة. إنّ الخطأ هو في التركيبة الأساسية لنظامنا الاقتصادي، ولن تكون الحلول الجزئية وتضميد النتائج حلاًّ يذهب بالمشاكل، إذا أردنا الوصول إلى مُثُلِنا فيجب اقتلاع المشاكل من جذورها لا بقصقصة بعض الأوراق، وعلينا أن نحاكم الأسس والافتراضات كلَّها التي تسيِّر نظامنا وكشفها كما هي على حقيقتها).

أمّا سياستهم الخارجيّة وعلاقات الشّعوب فيما بينها، فقد ظهر فشل العقيدة الرّأسماليّة بل كانت خطرا على البشريّة، قادتهم إلى حربين عالميّتين أزهقت أرواح ما يزيد عن 60 مليونا من البشر، ذلك أنّ العقيدة الرّأسماليّة اتّخذت من المنفعة المادّيّة مقياسا فكرّست الصّراع بين البشر من أجل تحقيق هذه المنفعة، ففشلت فشلاً ذريعاً في توحيد شعوبها تحت راية واحدة، فهذه أمريكا لا زالت تعاني من داء العنصريّة الذي ينخر جسدها. كما أنّ الحضارة الغربية لم تستطع استيعاب من يعيش في كنفها من غير معتنقيها، لأن أفكارها التي في حقيقتها ردة فعل على الواقع شكلت نظرة خاصة ولم تستطع أن تخرج إلى العالمية لتكسب إليها شعوباً أخرى وبقيت خاصة في أفكارها وأساسها، وكل ما فعله الغرب مع غيره من الشعوب كان بقوة السلاح والاستعمار ولم يستطع أن يُخضع أي شعب مسلم لأفكاره، بل بعد مئات السنين من الصراع الدموي يخرج الغرب الآن من بلادنا يجر أذيال الهزيمة والخيبة، ويكفي الغرب عاراً وخزياً أن قوانينه التي تقدس الحرية قد ضاقت ذرعاً بحجاب المرأة المسلمة في عقر داره.

وفوق كل ذلك وقبله فإنها -أي الرأسمالية- عقيدة وأحكاما وأفكارَ كفر لم تستنبط لا من القرآن ولا من السنة بل هي تحاربهما في كل يوم.

حضرات النّوّاب:

هذه خلاصة أوردناها ننبّهكم إلى خطورة عقيدة فصل الدّين عن الحياة وبشاعة مقياس النّفعيّة وفشل آليّة الحلّ الوسط، ونحذّركم ممّا أنتم قادمون عليه من إقرار نظام رأسماليّ فينا، بعد أن بان لكم فساده، وننذركم أنّ خطر النّظام الرّأسماليّ يتجاوز هذه الحياة الدّنيا الفانية إلى الآخرة حيث غضب الرّحمان ونار جهنّم وبئس المصير (( تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ )).

حضرات النّوّاب:

لقد عرضنا عليكم وما زلنا نعرض مشروع دستور مأخوذ من كتاب الله وسنّة نبيّه الكريم، يستند إلى عقيدة الإسلام الثابتة بأدلّة قطعيّة يقينيّة (وليست أفكارا لترضية هذا أو ذاك من النّاس)، عقيدة نطقت بصدقها الشواهد توافق فطرة الإنسان وتُقنع العقل وتملأ القلب طمأنينة حقيقيّة، عقيدة قرّرت حقيقة الإنسان فبيّنت أنّه مخلوق لله تعالى وأنّه ميّت وسيُبعث إلى ربّه ليحاسب عمّا فعل في الدّنيا فإمّا أن يكون من أهل اليمين في الجنّة وإمّا من أهل الشمال في النّار والعياذ بالله، ولذلك فالسعادة الحقيقيّة في الدّنيا هي السعي لنوال رضوان الله تعالى. وقد ثبت بالدّلائل القطعيّة اليقينيّة أنّ الله سبحانه وتعالى أرسل محمّدا صلّى الله عليه وسلّم بالوحي هاديا ومبشّرا ونذيرا، وأن الكتاب الذي أنزل عليه فيه نظام جامع شامل لكلّ مناحي الحياة، وبناءاً على هذه العقيدة انبثقت أنظمة حياة شاملة تنظم الحكم والاقتصاد والعقوبات والسياسة الخارجية وغيرها...، وكانت كلها وحياً من عند الله خالق الإنسان ويظهر فى كل تفصيلاتها العلاقة بالله سبحانه وتعالى. لذلك كان الإسلام مبدأً ولكنه يختلف عن غيره من المبادىء بأنه المبدأ الوحيد الذي نزل به الوحي من عند الله العليم الخبير رحمة بالإنسان، وليس مصدره الإنسان، فلم تكن أفكار الإسلام ومعالجاته ردّة فعل على واقع مخصوص بل كانت عقيدته وأنظمته، الجواب والمعالجة التى أرسلها الخالق إلى خلقه لينظموا حياتهم على أساسها. وبناء على هذا كانت فلسفة الإسلام في أنظمة الحياة جميعها (حكم، اقتصاد، اجتماع، تعليم وسياسة خارجيّة...) قائمة على مزج المادّة بالرّوح أي مبنيّة على إدراك الانسان صلته بربّه حين الالتزام والتّنفيذ، فكانت هذه الضّمانة الأولى أن يكون الدّستور المنبثق عن عقيدة المسلمين وكذلك القوانين، ذا مهابة عند النّاس وأن يندفعوا اندفاعا طوعيّا للالتزام والتّقيّد بأحكام الدّستور وبالقوانين المتبنّاة باعتبارها أحكاما شرعيّة من عند الله تعالى، فيكون الالتزام التّامّ بالقوانين ناتجا عن انقياد فكريّ عقدي لا بالحديد والنّار. هذا على مستوى العقيدة ووجهة النّظر أمّا على المستوى السّياسيّ فقد قام الحكم في الإسلام على أساس الرّعاية، وليس على أساس المناورة والخداع للوصول إلى المناصب، فالرّسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: "كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيّته..." وهذه الرّعاية جعلها الله في رقبة خليفة يُبايعه النّاس ليطبّق فيهم شرع ربّهم ويرعاهم به، وليس له أن يصدر أمرا عن هوى أو اتّباعا لمصلحة، يقول الله سبحانه وتعالى آمرا حكّام المسلمين: ((وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم...)) وليس الخليفة مطلق اليد يحكم كيف يشاء هو أو حسب أهواء أصحاب المال والنّفوذ، إنّما هو محاسب وقد جعل الله سبحانه وتعالى محاسبة الخليفة أو أيّ مسؤول في الدّولة فرضا على المسلمين "ولم يجعلهم بالخيار، إن شاؤوا حاسبوا وإن شاؤوا كفّوا"، يحاسبونه بالإسلام لا حسب أهوائهم ومصالحهم فرادى أو أحزاباً أو عن طريق مجلس النّوّاب، ولم يجعل المحاسبة حرّيّة في الكلام والاحتجاج والصّخب وإنّما جعل لها كيفيّة واضحة معلومة فعّالة هي محكمة المظالم يقول الله سبحانه وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )).

أمّا في المسألة الاقتصاديّة، فقد بيّن الإسلام كيفيّة رعاية شؤون المال أي السياسة الاقتصادية فوضع الإصبع على مكمن الدّاء فى المجتمع فعالجه، يقول الله سبحانه وتعالى: "كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ"، فسنّ أحكاما تحول دون تركز المال فى يد فئة قليلة فى المجتمع (أما بعد أن أُبعِد الإسلام عن السياسة صار المال دولة بين الأغنياء فتجد قلة قليلة تمتلك المليارات وعامة الشعب لا تجد ما تسدّ به رمقها، وحين أبعد الإسلام عن السياسة أصبح عشرون بالمائة من سكان الكرة الأرضية يملكون ثمانين بالمائة من الثروة الموجودة بها والثمانون بالمائة يتقاتلون على العشرين بالمائة الباقية، وحرّم الله سبحانه وتعالى الرّبا في قوله: "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا" لتدور عجلة رأس المال دورتها الطبيعية فأوجدت مالاً حقيقياً فى الدولة حال دون حدوث أزمات اقتصادية، حتى إنّ الفقير كان يُبحَثُ عنه ليُعطى فلا يجدوا فقيراً في بعض الأحيان، أما بعد أن أبعدنا الإسلام عن السياسة أصبح الربا مألوفاً وعصفت الأزمات الاقتصادية بالمجتمع حتى أصبح الغرب عاجزاً عن الحلول سوى السطو على خيراتنا ليحل بها أزماته. كما جعل الإسلام في خطاب رسول الله "الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار" الثروات الباطنيّة من غاز وبترول وفسفاط وغيرها ملكيّة عامّة لجميع المسلمين ولم يجعل للخليفة حقّ التّصرّف فيها فمنع بذلك أن يسطوَ أحد كائنا من كان على أموال النّاس التي جعلها الله لهم خالصة، أما حين أُبعد الإسلام عن السياسة سُرقت ثرواتنا وأُعطيت امتيازات لشركات النّهب الاستعماريّ وحرم منها أهلنا.

أمّا على مستوى العلاقات بين الشّعوب فقد نجح الإسلام نجاحا منقطع النّظير في أن تعتنقه شعوب بأكملها، فانصهرت أمّة واحدة، إخوة في الله لا فضل فيهم لأعجميّ على عربيّ إلّا بالتّقوى، ولم يجد غير المسلمين عدلا كما وجدوه في ظلّ الإسلام.

أمّا على مستوى السّياسة الخارجيّة فقد صار العرب بالإسلام أعزّة بعد ذلّة وصارت الدّولة الإسلاميّة الدّولة الأولى في العالم تحمل الخير الذي أنزله الله على نبيّها صلّى الله عليه وسلّم وتجاهد الكفّر والمنافقين، وقد كانت دولة الخلافة جنّةً وقايةً للمسلمين حيث حلّوا أو ارتحلوا ولم يكن يجرؤ كافر عليهم، أمّا بعد أن أزيح الإسلام عن الحياة ورعاية شؤون النّاس صار المسلم ذليلا مَهينا يُقتل وتسلب ثرواته ويُهجّر وحكّامهم يوادّون من حادّ الله ورسوله بل ويعملون مع الكافر في حربه على الإسلام والمسلمين في حملة ظالمة خاطئة سمّوها حربا على الإرهاب.

أيّها النّوّاب:

نرسل إليكم كتابنا هذا وقد حزمتم أمركم على نظام علمانيّ رأسماليّ، اهتداء منا بقول ربّنا العزيز الكريم: (( قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )).

فلعلكم تتقون فتذكروا الآخرة، يوم الحساب، حيث الحَكَمُ العدلُ هو القويُ العزيزُ الجبار، فلا ظلم يومئذٍ، وإنما هي جنة أو نار (( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )).

ولعلكم تتقون فتدركوا أنكم مهما عَمَرْتُم فلا بد من أن تُدَسوا في التراب، وتتركوا العروش والتيجان، والثروة والثراء، والحدائق الغناء، ويكون حالكم (( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ، فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ )).

ولعلكم تتقون فتعلموا ثقل الذنوب التي حملتموها: فقد جعلتم لأنفسكم حقّ التّشريع من دون الله، وأعرضتم إعراضا عن كتاب الله وسنّة نبيّه وواليتم أعداء الله، وتظنّون أنّكم تحسنون صنعا (( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا )).

إنّا لا نحبّ أن نراكم من الأخسرين أعمالا فلعلّكم تتوبوا إلى ربّكم وبارئكم، أنتم الآن بين أمرين حدّدهما الله في كتاب: (( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )).

إنّنا في حزب التحرير نناديكم ونستصرخ إيمانكم فـ (( اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ )).

فإن استجبتم إلى موضوع كتابنا هذا فتبرّأتم ممّا وضعتم من أحكام وضعيّة، فإنّنا نضع بين أيديكم مشروع دستور مأخوذ من كتاب الله وسنّة رسوله ومعه مقدّمة تبيّن أدلّة كلّ مادّة والأسباب الموجبة لوضعها، تناقشوه على أساس الإسلام من أجل أن يُوضع موضع التّنفيذ.

فإن لم تستجيبوا، فإنكم لن تضرّوا الله شيئاً، ولن تحولوا دون قيام الخلافة، فهي قائمة بإذن الله بوعده سبحانه وبشرى رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، كل ما هنالك أنكم تكونون قد تسربلتم بالخزي والخسران في الدارين (( ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )).

28 من صـفر 1434

الموافق 2013/01/11م

حزب التحرير

تونس

للمزيد من التفاصيل