الثلاثي الشيطاني لإنهاء الثورة السورية عبر مسار القوة الصلبة لتفعيل القوة الناعمة

الدكتور ماهر الجعبري*

رغم أنها لم تتعاف تماما من آثار محاولة الانقلاب الفاشلة، برزت تركيا كبؤرة للأحداث وكمحور للحراك الدولي والإقليمي حول سوريا، وقد بدت كأنها تنتقل من موقف سياسي لنقيضه، وخصوصا مع انفتاحها وتقاربها مع روسيا وإيران، فهل يمكن أن يكون ذلك ضمن ردود الأفعال على محاولة الانقلاب؟ أم أنها مصالح عليا فوق مصلحة الشأن الداخلي؟ هذا المقال يتناول الإجابة على هذا السؤال المحوري، بعد ملخص للمجريات الحالية:

أعلنت وكالة فارس الإيرانية للأنباء أن زيارة الرئيس التركي لإيران تمثل "انطلاقا رسميا لعملية تشكيل تحالف إيراني-روسي-تركي بشأن سوريا"، وجاء في خبر للوفاق أون لاين(19/8/2016) أن التنسيق الثلاثي بين تركيا وإيران وروسيا بشأن الأزمة السورية يسير على نحو جيد، وأنه سيحقق مزيدا من التقدم في الأشهر القليلة المقبلة". ونقلت وكالة «الأناضول» التركية الرسمية عن السفير الروسي في أنقرة: " أن الدول الثلاث تهدف إلى إحلال الاستقرار في الشرق الأوسط".

 

هذه المعطيات قد تبدو صادمة لمن وضع مسلمة سياسية مسبقة حول انحياز الموقف التركي الرسمي مع الثورة السورية، وقد تكون محبطة لمن تغنّى بالنفس العثماني عند إسقاط الطائرة الروسية فوق تركيا قبل أشهر، إذ هذه المستجدات المتلاحقة والمتسارعة تكشف عن الوجه الحقيقي للمشروع الأمريكي، وتفصح عن أدوار اللاعبين الدوليين والإقلييمين، بغض النظر عن الشعارات التي يرفعونها.

 

وهي معطيات قد تسهم في اليقظة من "سكرة" السعادة بفشل الإنقلاب في تركيا (وهي سعادة في محلها وفي حينها)، نحو صحوة الحقيقة حول تسارع النظام التركي نحو التطبيع مع كل "الأعدقاء"، ولو تصادم ذلك التطبيع مع شعارات التحرر ومشاعر "المقدّسين" لأردوغان والمنافحين عن نموذجه في الحكم، والصامتين عن فظائعه السياسية من "العلماء" ممن وضعوا أنفسهم في مأزق "ازدواجية المواقف" من التطبيع مع الكيان الصهيوني خصوصا.

 

بداية، لا بد من التأكيد أن التحليل السياسي ليس عملية عاطفية تنطلق من مشاعر مسبقة حول "الزعيم" والسلطان، ولا مواقف شخصية مشحونة ضد حاكم معين لشخصه أو لخلفيته الحركية، بل هو قراءة المعطيات قراءة موضوعية، وربط للأحداث والمعلومات الصحيحة ربطا يجتمع فيه فهم المصالح للأطراف مع خلفياتهم وتبعياتهم السياسية، وكل ذلك من أجل اتخاذ موقف مبدئي، مما يجري ضد الأمة الإسلامية من مؤامرات.

 

وفي هذا السياق هنالك تحليل سياسي خاطئ لهذا التحالف الثلاثي بين إيران وروسيا وتركيا، مبنيٌ على "فرضية" خاطئة من أن تركيا تحاول إعادة تموضعها بعد توتر علاقاتها مع أميركا على خلفية محاولة الانقلاب التي حدثت في تركيا، وما طفا إعلاميا من اتهام تركي (إعلامي) لأميركا بالوقوف وراء المحاولة، وإظهار فتح الله غولن كمخطط وراعي للانقلاب، مع إخفاء القوى الحقيقية في الجيش التركي التي نفذت "مغامرة الانقلاب"، كحركة استباقية قبل أن يتمكن منها أردوغان. وذلك مثل ما ذكرته روسيا اليوم (20/8/2016) في التعقيب على الزيارت الأمريكية لتركيا: "يحاول المسؤولون الأمريكيون، نظرا لتزايد التناقضات في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، إقناع أردوغان بخطأ انتهاج سياسة التقارب مع روسيا وبلدان الشرق الأوسط".

 

كل النظرات للانقلاب ولقصة الطائرة الروسية وهذه المستجدات، تغفل –عن قصد أو عن جهل- حقيقة وخلفية المكون العتيق للجيش التركي، من القوى القومية-الكمالية التي تأسست على عين وبصر بريطانيا بعد قضائها على الخلافة العثمانية، وهي التي ظلت حامية للعلمانية ولعراقة النفوذ البريطاني العتيق في قوى الجيش. وهو نفوذ نجح أردوغان في قصقصة أجنحته عبر ملاحقاته السياسية والقضائية والتشريعية طيلة السنوات الأخيرة، ولكنه لم يتمكن من القضاء عليه نهائيا. ومن هنا، كان حادث إسقاط الطائرة مرتبط بتلك القوى الكمالية التي كانت تحرص على خلط الأوراق أمام أردوغان وتعسير مسيرته، وهي التي كانت خلف "مغامرة الانقلاب"، إذ أسرعت إليه (في تموز الفائت) قبل أن يسارع أردوغان بها في الاجتماع العسكري الذي كان مخططا في آب الحالي.

 

وأظهرت ماكينة أردوغان الإعلامية "الكيان الموازي" وربطته بفتح الله جولن، مما أغلق الفهم على بعض المحلّلين وما زال يربط الأحداث الجديدة بصراع (غير حقيقي) بين أردوغان وأمريكا (التي تحتضن جولن)، مع أن أردوغان لم يتخذ أية خطوة حقيقية ضد أمريكا ولا ضيّق على وجودها العسكري في تركيا ولا حلف الناتو (كتعبير عن ردة الفعل حسب ذلك التحليل الخاطئ)، بل تزامن التنسيق الروسي-الإيراني-التركي، مع زيارات المسؤولين الأمريكيين لتركيا: إذ تأتي زيارة أردوغان لطهران، بعد زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري ونائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تركيا، وهي أعقبت زيارة وزير الخارجية التركي أوغلو لطهران.

 

وكانت تركيا منخرطة في مجريات الثورة في الشام، على عدة صعد، منها استضافة ودعم قوى "المعارضة" التي قبلت السير في الحل السياسي (المحرك أمريكيا)، مع دعم للفصائل التي تقبل بذلك المسار، وظلت حتى عهد قريب تركز على مسار "القوة الناعمة"، ولكنها الآن تسير مع المخطط الأمريكي لتسخير القوة الصلبة (في الهجمات العسكرية) من أجل تحسين مسار القوة الناعمة في المؤتمرات والمؤامرات حول الثورة.

 

وأمريكا إذ تنتقل في خططها من مرحلة لأخرى، قد استخدمت الدبّ الروسي ولطخت صورته بالدماء، وقبله سخرت إيران وطائفيتها (وهي خلفهم)، ولم يتمكنوا جميعا من إحداث اختراق في إرهاق الثوار ودفعهم لانجاح الحل السياسي، بل إن الثوار هم الذين أحدثوا اختراقا عسكريا ملحوظا بفك الحصار عن حلب مما يهدد مسيرة الحل السياسي الأمريكي، والقائم على الإبقاء على نظام بشار حتى ينضج البديل (العلماني-الديمقراطي).

 

وجاء الآن دور الضغط العسكري الجديد عبر الحلف الثلاثي الشيطاني (روسيا-إيران-تركيا)، كعمل عسكري متصاعد في سياق القوة الصلبة من أجل الضغط على "المعارضة السورية"، وتسهيل انخراطها في مسار القوة الناعمة لإنهاء الثورة عبر المؤامرة السياسية.

 

إن خلاصة المشهد السياسي أن أوباما يتحرك عبر عملائه وأدواته، وأن "أمريكا تريد من الدور التركي الحالي الضغط وبقوة على المعارضة السورية لإعادتها إلى مسيرة جنيف، والحل السلمي"، كما في تحليل سياسي لأمير حزب التحرير (عطاء أبو الرشتة)، ومع ذلك الضغط، هنالك "التهديد بالتخلي عن المعارضة السورية إذا رفضت الانضمام لمسيرة التفاوض، عن طريق إظهار التعاون التركي الروسي والإيراني".

 

ومن المؤسف أن تركيا قدّمت هذه المصلحة الاستعمارية على مصلحتها الداخلية التي تقتضي منها التفرغ من ارتدادات زلزال الانقلاب الفاشل، وهكذا تراق دماء المسلمين على أيدي الحلف الثلاثي الشيطاني لأجل فتح باب المفاوضات وتحريك وفودها، لتستمر المفاوضات لتحقيق الأهداف التي أشعلت الحروب من أجلها.

 

* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين