أمريكا والحرب على المسلمين – 1- التحدي والصراع
الدكتور ماهر الجعبري
أمريكا دولة رأسمالية تقوم على النفعية وعلى الفردية وهي الوريث البشع للاستعمار الغربي، أما المسلمون فهم أمة خيريّة تحمل عقيدة ربانية ذات طبيعة سياسية تدفعها للاهتمام بالغير ورعايتهم، فكان لا بد من الصدام والصراع والمواجهة. ولذلك صاغت أميركا علاقتها مع الأمة الإسلامية على أساس إقصاء "الإسلام السياسي" ومشروعه الحضاري، لأنها لا تستطيع أن تنافسه مبدئياً على الساحة العالمية فيما إذا انبثق في دولة عالمية تتحدى أميركا، ولا ينكر هذا الصراع على أشكاله المختلفة إلا من يكون كالنعامة التي تدفن رأسها بالرمل لتجنّب الخطر الداهم، ولذلك لا تجد سياسياً أو مفكراً واعياً –بغض النظر عن دينه وثقافته- ينكر هذا الصراع وحتمية المواجهة.
هذا المقال يستعرض في حلقات ثلاثة مسيرة الإرهاب الأمريكي وعدوانها على بلاد المسلمين وتحديها للأمة الإسلامية، ويستشرف مآل هذا الصراع الحضاري، ضمن محاور متعددة.
أشكال التحدي الأمريكي للأمة الإسلامية
تواجه أمريكا الأمة الإسلامية وتعتدي عليها وعلى مصالحها ضمن حرب حضارية ممتدة تتخذ أشكالا متعددة منها:
1) الحروب العسكريةالتي أراقت فيها أمريكا دماء المسلمين في العديد من بلاد المسلمين، عبر المشاركة المباشرة والاحتلال العسكري كما في أفغانستان والعراق، وعبر حلفائها كما في شلال الدم المستمر في فلسطين على أيدي اليهود، وعبر عملائها من حكام المسلمين كما في عاصفة الحزم وكما في الإجرام الدموي لبشار وإيران وحزبها الطائفي.
2) المؤامرات السياسيةالتي واجهت فيها أمريكا مصالح الأمة الحيوية في التحرر والوحدة وتحكيم الشريعة، وهي مكائد سياسية ممتدة ومتجددة، منها ما تشرف على تنفيذه مباشرة مثل مشروع حل الدولتين لتصفية القضية الفلسطينية، ومثل تحركاتها العالمية والإقليمية لفرض الحل السياسي على الثورة في سوريا، وتسهيلها لإعطاء المهل لبشار لينهك الثورة أو تنضج هي البديل، ومنها ما توكله لعملائها من حكام المسلمين كما في مصر التي ورطّت فيها المسلمين في القبول بنصف ثورة، حتى إذا ما مكّنت عميلها السيسي سحبت البساط من تحت أرجل الجميع، ومن ثم زجت بالمسلمين في السجون، وسهّلت عملية "الردة الثورية"، فأعادت انتاج نظام عربي عميل أشد قمعية وعدوانية للأمة ومشروعها.
3) الصراع الفكري الثقافي: حيث تحاول أمريكا عبره فرض ديمقراطيتها على العالم وعلى المسلمين على وجه الخصوص، كما كان بوش الابن قد محوَر استراتيجية الأمن القومي لأمريكا عام 2006 حول ما سماه "حرب الأفكار"، وفي هذا المجال تركز أمريكا على ما تصنفه "برامج تنموية" لتسهيل الاختراق الثقافي والتلويث الفكري، ويتم ذلك عبر نشاطات وكالات التنمية الأمريكية وبرامجها المتفرعة، التي تهدف إلى حرف المسلمين عن ثقافتهم، وتعمل على تحميلهم العلمانية وديمقراطيتها ومقاييسها كوجهة نظر في الحياة، وذلك كله في مواجهة مشروع الأمة الحضاري الذي يهدف إلى تغيير وجه الأرض نحو تحقيق العدل في دولة الخلافة الراشدة الثانية.
4) الهيمنة الاقتصادية: حيث تحتكر أمريكا مجمل مقدرات الأمة الإسلامية ومواردها الطبيعية مثل النفط والمعادن، وتخوض في ذلك صراعا مع أوروبا كلما حاولت الاستحواذ على شيء من كعكعة تلك الخيرات، بينما يبقى المسلمون يعانون الفقر والحرمان، ولا يجدون لقمة العيش الكريم.
تاريخ عدائي يتجدد
إن هذا العدوان الأمريكي ليس جديدا على عقلية "الكاوبوي" الأمريكي، الذي أقام مشروعه الرأسمالي على جماجم الهنود الحمر بعد عملية الإبادة الجماعية البشعة لأهل أمريكا الشمالية على يد الغرب الاستعماري. وهو عدوان يتخذ مع الأمة الإسلامية بعداً أكثر شراسة لأنها تحمل فكرة ربانية تتحدى الفكرة الرأسمالية وديمقراطيتها.
هي اذاً حرب عقائدية بين الرأسماليين-الديمقراطيين الذين يريدون تأليه الفرد وإطلاق حرياته بلا قيد، وهم يستلهمون تاريخ آبائهم الصليبيين، وبين الربانيين الذين يريدون تحرير الإنسان من أية عبودية لغير الله، وتعبيده لله الواحد القهار، وهم يستلهمون تاريخ الخلافة على مدار ثلاثة عشر قرنا.
صحيح أن الساسة الأمريكان علمانيون، ولكنهم لا ينفصلون عن تاريخهم الصدامي مع المسلمين، ولذلك لم يكن مستغربا أن يصنّف بوش الابن غزو أفغانستان عام 2001 على أنه "حملة صليبية"، عندما قال "هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب ستأخذ بعض الوقت". وكان تصريحه ذاك تعبيرا صادقا عن عداء مستفحل، ولذلك ظهرت عبارة الحملة الصليبية العاشرة كتعبير سياسي عن حالة الربط بين "الحرب على الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية والحملات الصليبية التاريخية".
صحيح أن البيت الأبيض كان قد أعلن في وقت لاحق أن بوش شعر بالأسف لاستخدامه ذلك التعبير، إلا أن التعبير البشع عاد مجددا في حملة بوش الانتخابية عام 2004 (العربية نت 14/4/2004)، مما يشير إلى أنه لم يكن هفوة ندم عليها ساسة الأمريكان، بل هي المكنون الحقيقي لأمريكا في عدائها للأمة الإسلامية. ومن ثم لم يكن مستغربا أن يركّز بوش في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي عام 2006 على ما أسماه "حرب الأفكار"، وتحدث فيها عن "التحديات التي تواجهها أمريكا نتيجة بروز ظاهرة الإرهاب المشتعل بأيديولوجية عدائية تقوم على الكراهية والقتل"، حسب تعبيره.
ولا شك أن تلك العدائية أكثر وضوحا عند ساسة الحزب الجمهوري الأمريكي، ولدى من يسمونهم "المحافظين الجدد"، الذين يتخذون من قاعدة القوة الصلبة والصدام العسكري وسيلة لتحقيق مصالح أمريكا، ومع ذلك فهي عدائية موجودة أيضا لدى الديمقراطيين الذين تربّعوا على رئاسة أمريكا بعد بوش، ولكنّها –في حالتهم- عدائية الأفعى الملساء، التي تنساب في عباءة الأمة الإسلامية وتلدغ جسدها في كل مكان بينما تحتك بجسدها بنعومة خطاب أوباما في القاهرة، والذي استهل به رئاسته الأولى. وقد حاول أوباما إغراء المسلمين في خطابه الناعم الشهير، ولكنه لم يغير من الواقع شيئا، وظل أمن دولة اليهود من أمن أمريكا، وظلت الدماء تراق في العراق والشام بل وفي اليمن وفي ليبيا على مذابح المصالح الأمريكية، ولذلك فإن عدائية الساسة الديمقراطيين تقوم على استخدام القوى الناعمة من الدبلوماسية والألاعيب والمؤامرات السياسية والمعونات الاقتصادية، وتغيب أو تقل فيها التصريحات الصدامية الحادة، بينما يبقى الفعل العدائي واحدا.
ولذلك كان الصحفي الأمريكي البارز جو شيا سبّاقا في الاعتراف بهذه المواجهة بين أمريكا (أو الغرب) والخلافة كما ذكر في مقاله الذي نشرته مجلة التقرير الأمريكي (American Reporter) بتاريخ 19/1/2010 تحت عنوان: "الحرب ضدَّ الخلافة"، وقال فيه "إنَّ المعركة بين الإسلام والغرْب معركة حتميَّة لا يمكن تجنُّبها، وهي ذاتُ تاريخ قديم".