نكبة فلسطين، بل نكبات تتوالى دونما انقطاع... والحل واحد
م. باهر صالح*
ليس هناك ثمة شك أنّ نكبة فلسطين 1948م قد أفجعت قلوب المسلمين وأهل فلسطين، إذ لم يكن الحدث عبارة عن مجرد عملية تهجير ما يقارب المليون مسلم (957 ألفاً، أو 800 ألف بحسب تقديرات أخرى)، وما رافق ذلك من عشرات المجازر والفظائع وأعمال نهب وهدم لأكثر من 500 قرية وتدمير المدن الفلسطينية الرئيسية، بل يتعدى الحدث ذلك إلى أبعاد سياسية عقدية ارتبطت بالنكبة وشكلت جوهر القضية لدى المسلمين وأهل فلسطين.
أبعادٌ لطالما حرص الحكام على إخفائها، وتآمر معهم الإعلام على تغييبها، أبعادٌ تتعدى الآهات الفردية والمآسي الاجتماعية التي سلطوا عليها الضوء وجعلوا منها بؤرة الحدث ومركز الاهتمام، فالنكبة حدث ارتبط بمسرى رسول الله r؛ ذلك المكان الذي يحتل مكانا عميقا في قلوب المسلمين جميعا، تماما كما بقي عبر العقود والقرون الماضية، فنكبة فلسطين قد عنت للمسلمين احتلال قبلتهم الأولى ومسرى نبيهم r، وانتزاع بلادهم من حضنهم إلى حضن يهود، أعداء الله وألد خصوم المسلمين، لذلك كانت عقديةً بالدرجة الأولى، وهي كذلك سياسية لأنها عنت بناء كيان سرطاني ليهود في وسط العالم الإسلامي وخاصرته، ليحول دون وحدته وليصبح لاحقا جسرا للغرب يمر من عليه ليحافظ على بقاء استعمار العالم الإسلامي إذا جد الجد وبدأت تغيرات حقيقية نحو التحرر.
ونكبة فلسطين 1948م لا يمكن النظر إليها في سياق منعزل عما سبقها من أحداث ومؤامرات، وما تلاها من مؤامرات وخطوات سعت إلى تثبيت هذا الاحتلال وتقوية أركانه.
فقبل النكبة كان وعد بلفور في 2/11/1917م، الذي أعطت فيه الحكومة البريطانية وعداً ليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، ثم كان هدم الخلافة العثمانية على يد رجل بريطانيا مصطفى كمال في الثالث من آذار عام 1924م، ثم أتى بعد ذلك قرار التقسيم بتاريخ 29/11/1947، وصولا إلى نكبة 1948م والتي سبقها تسهيل لهجرة اليهود وبناء عصاباتهم الإجرامية في فلسطين.
والناظر فيما سبق النكبة يدرك أن بيضة القبان كان هدم دولة الخلافة، إذ لولاها لما تحول وعد بلفور من الورق إلى الواقع، ولما أصبحت فلسطين محلا لقرارات مجلس الأمن وهيئاته، ولما تمكن يهود من أن تطأ لهم قدم أرض فلسطين محتلين غاصبين لها، فهو مشهد اختزله السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله بكلماته القليلة التي وجهها إلى هرتزل: "انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، فإني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية، ولقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حيّ فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من دولة الخلافة، وهذا أمر لا يكون. إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة". ففلسطين ما كانت لتضيع لولا هدم دولة الخلافة التي كانت تدرك مكانتها وقدسيتها لدى الأمة الإسلامية كاملة.
ثم إنّ ما تلا النكبة من محطات قد رسخ حقيقة المؤامرة العظيمة التي حاكها الغرب ضد فلسطين بأدواته الحكام في المنطقة، إذ أكمل يهود احتلالهم لأرض فلسطين عام 1967م ومعها الجولان وسيناء في مسرحية هزلية سميت بحرب حزيران أو حرب الأيام الستة، والتي ما كان ليقوى فيها جيش يهود على احتلال شبر واحد لولا تآمر الحكام وتواطؤهم تماما كما في عام 1948م.
وتجلت بعد ذلك وتجسدت مؤامرات الحكام على فلسطين في المحطات والمواقف السياسية التي رسخت كيان يهود، وأخذت القضية من ساحة المعارك والأعمال العسكرية إلى الساحة السياسية والأعمال الدبلوماسية، لتأتي اتفاقية أوسلو وكامب ديفيد وواي ريفر، ومبادرة السلام العربية، ومحادثات السلام الماراثونية المتواصلة منذ سنوات، لتذهب كلها بالقضية إلى حيث أراد الغرب ويهود، قضية نزاع على قضايا شكلية تتعلق بالحدود واللاجئين والتفاصيل، بعيدة كل البعد عن جوهر الصراع وأصله.
فإن كانت نكبة 1948م قد أفجعت قلوب المسلمين، وهي كذلك، فإن ما تلاها من محطات سياسية تآمرية من حكام العرب والمسلمين وسلطة فلسطينية هزيلة ليدمي القلوب من هوله وفظاعته في حق فلسطين وأهلها، فهي نكبات ونكبات تلت نكبة 1948م، فأنْ يأخذ يهود هكتارا بالقوة "إن جاز التعبير، حيث لم تكن المسألة تفوق عسكري ليهود على جيوش المسلمين بل مسرحيات عسكرية" أهون من أن يأخذوا شبرا باتفاقيات لا يمكن وصفها بأقل من خيانية.
وأن يصبح ليهود حق في دولة في فلسطين، يعيشون فيها بأمن وأمان، بحراسة مغاوير السلطة ورجالها، وتنسيق أمني "مقدس!"، ويحظون بتطبيع وسعي حثيث من حكام المنطقة لترسيخ أركانهم، لهو النكبات الحقيقية بل الفاجعات.
وستبقى فلسطين على موعد كل يوم مع حلقة جديدة من مسلسل النكبات، ما لم يخطوا المسلمون خطوات جدية نحو السبيل العملي لوضع حد لهذا المسلسل، وذلك بالعمل على انتزاع القضية من أحضان أعدائها، أمريكا والغرب وحكام المسلمين والسلطة الفلسطينية، وإعادتها إلى حضن الأمة الإسلامية التي عليها أن تتخلص من حكامها المجرمين حتى يتسنى لها أن تحرك جيوشها بقيادة خليفتها لتحرير فلسطين، الأرض المباركة.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين