قضية فلسطين-5
السادات يحارب لتحريك المسيرة السلمية !
الدكتور ماهر الجعبري
يتناول هذا المقال مجريات قضية فلسطين في منتصف السبعينات، ويناقش حرب أكتوبر التي مهدت لاتفاقية السلام، ويرصد مشهد تحريك المسيرة السلمية في تلك الفترة، وذلك ضمن سلسلة "قضية" فلسطين.
بعد مرحلة الحروب "الصُوَرية" التي خاضتها الأنظمة العربية كأداة لدفع الرؤى الاستعمارية لفلسطين إلى أرض الواقع، والتي مكنّت اليهود من إنشاء كيانهم، ومن التدجيل الإعلامي بأنهم قوة لا تقهر، بدأ الخطاب السياسي لدى الأنظمة العربية يتكشف عن لهجة دبلوماسية ومصطلحات قانونية ضمن تصريحات رسمية حول الحلول السلمية، وذلك بموازاة تسليم القضية للفلسطينيين تحت شعار دعم المقاومة المسلحة، فيما كانت غاية الأنظمة ترويض الفلسطينيين ودفعهم للقبول بتلك الرؤى السلمية أو الاستسلامية. وفي ذلك السياق لمع نجم العمل الفدائي، الذي شارك فيه المخلصون ممن تعطشوا لقتال الكيان اليهودي، وقفزت التنظيمات الفلسطينية المرتبطة بالأنظمة العربية إلى مسرح العمل السياسي على الساحة الإقليمية، حتى صارت جزءا من الصراع على النفوذ بين القوى الدولية، ثم التقت المصالح على ضرب الفدائيين في الأردن ولبنان.
مع نهاية الستينات ومطلع السبعينات، لم يعد شك في أن الأنظمة العربية قد تكشفت عن التخلي عن فكرة تحريك الجيوش من أجل تحرير فلسطين، وأخذت تُفصح عن توجهاتها نحو قبول "إسرائيل" ككيان سياسي على أرض فلسطين، وذلك في سياق تنافسها على تحقيق المصالح الغربية. فيما كانت "لاءاتها" ضد المفاوضات والصلح والاعتراف في مؤتمر الخرطوم عام 1967 موجهة –في حقيقتها- للتحركات "المنفردة" لا للمبدأ، فقد كانت أعمالها وأقوالها تناقض ذلك المبدأ المدّعى، وخصوصا بعد الموافقة على مشروع روجرز الأمريكي القائم على قرار التقسيم.
بعد رحيل جمال عبد الناصر، جدد السادات قبوله علنا بالاعتراف "بإسرائيل" وبقبولها في المنطقة: ففي كانون الثاني 1971، "قدّم أنور السادات لمبعوث الأمم المتحدة غونار يارينغ، الذي أدار المفاوضات بين مصر وإسرائيل حسب خطة روجرز الثانية، شروطه للوصول إلى تسوية سلمية بين مصر وإسرائيل وأهمها انسحاب إسرائيلي إلى حدود 4 يونيو 1967" (حرب تشرين التحريرية قوة المستقبل)، وجدد الرئيس الأمريكي نيكسون المساعي لتنفيذ مبادرة روجرز عام 1972، حيث زار موسكو في أيار 1972 للتنسيق معها، وتم الاتفاق على السير بهذا الحل دون حرب مصطنعة.
ولكن بريطانيا رغم ضعفها المتزايد لم تُسّلّم بالطبع، وظلت تُجدّف -فوق قاربها المتهشم- ضد الرياح الأمريكية، إذ أعاد بورقيبة التحرك بمشروعه مع تعديل لافت يضم الأردن للدولة الفلسطينية (الموحدة) التي اقترحها، وقد نشرت جريدة النهار اللبنانية بتاريخ 6/7/1973 مقابلة مع بورقيبة قال فيها "إن إمارة شرقي الأردن خلقتها بريطانيا لإرضاء الأمير عبد الله"، واعتبر الكيانَ الأردني قضيةً مصطنعةً، بينما اعتبر أن فلسطين هي الأصل والأساس، وكان ذلك التوجه السياسي قائما على توسعة مفهوم "فلسطين"، (ومن المعلوم أن مصطلح "الحدود التاريخية لفلسطين" ليس له أصل، كما تبين في المقال الأول من هذه السلسلة).
وحسب مشروع بورقيبة المعدّل تتم إقامة الدولة العلمانية (الموحدة) في فلسطين وشرق الأردن. ولم تعارض أمريكا فكرة إنشاء دولة للفلسطينيين في الأردن، بل أيّدتها لبعض الوقت، حتى يتولّى الفلسطينيون مفاوضات حل الدولتين في فلسطين. ولذلك تتابعت الأحداث والصراعات حول تولي الفلسطينيين شرق الأردن، سواء من سار من "قياداتهم" مع المشروع الأمريكي أو من سار منهم مع المشروع البريطاني.
وظلت بريطانيا تضع العصا في العجلة الأمريكية وتحاول جاهدة منافستها على النفوذ، وخصوصا في مصر بعد وفاة جمال عبد الناصر، واهتزت ثقة أمريكا بالسادات في مواجهة التحديات على النفوذ. وأدرك الساداتُ تأرجحَ مركزه في الحكم، فتبلورت فكرة خوض حرب محدودة تسهم في تثبيته.
خلال الخمسينات والستينات، كانت أمريكا ضد اتخاذ الحرب كأداة لتحقيق مصالحها وأصرت على الوسائل الدبلوماسية والسياسية، فيما كانت سياسة بريطانيا تعتمد الحرب كأداة وتصرّ عليها كما حصل في الحروب السابقة. ولذلك يعتبر توافق أمريكا مع السادات على خوض حرب محدودة، كمقدمة لدفع الحل السلمي مع مصر، تغيّرا في الأدوات الاستعمارية الأمريكية في حينه. ولذلك لم تساعد بريطانيا "إسرائيل" في هذه الحرب بل إنها "أوقفت صفقة الدبابات التي كانت متعاقدة عليها" معها كما يبين موشى ديان في مذكراته (ديّان يعترف).
في تلك الأجواء من الصراعات، حصلت الحرب التحريكية عام 1973 المسماة "حرب أكتوبر" أو "حرب تشرين" ويسميها كيان اليهود "حرب الغفران" (حرب أكتوبر)، واشتعلت الجبهتان السورية والمصرية يوم 6/10/1973، واجتازت القوات السورية والمصرية خطوط وقف إطلاق النار، وحققت القوات المصرية نصرا مظفّرا.
وذكر موشى ديان وزير حرب الكيان اليهودي في مذكراته (ديّان يعترف) صعوبة الموقف الذي وقعوا فيه، حيث كان اليوم الأول "يوما شاقا علينا خسرنا فيه كثيرا من رجالنا، وفقدنا أراض ومواقع غالية القيمة"، ثم يؤكد خطورة الموقف العسكري على الجبهة المصرية بالقول "ولم تعد مواقعنا الحصينة سوى فخاخا للموجودين فيها ...". ويقول "وفي الساعات الأربع والعشرين الأولى من نشوب الحرب، أصبحنا لا نملك سوى قوة ضئيلة من المدرعات على الجبة المصرية"، ثم يكشف قلقهم من بيان أمريكا حول الحرب بأنه "مدعاة للقلق". ثم تحدث عن أن الموقف على الجبهة السورية كان خطيرا للغاية في اليوم التالي للحرب، وأنه كان يسمع صوت الانفجارات في الشمال وهو في طائرته فوق تل أبيب.
وكانت خطة الحرب أن تكون محدودة، من أجل تثبيت أنظمة الحكم في مصر وسوريا المنفِّذة للأجندة الأمريكية (السادات والأسد)، في مقابل زعزعة متانة العلاقة وقوة الارتباط ما بين ساسة اليهود وبريطانيا، وذلك من أجل تعبيد الطريق نحو تنفيذ الحل السلمي المتوافَق عليه من خلال مشروع روجرز. وهذا ما يفسر ما كشفه ديان في مذكراته عن ردود فعل أمريكا الباهتة في بداية الحرب وعدم استجابتها لدعم "إسرائيل"،
ويبين ديّان أن الأزمة الحقيقية للكيان اليهودي تمثلت في الحصول على الدعم الأمريكي العسكري والسياسي إذ يقول: "تصرف الأمريكيون ببرود بالنسبة لطلباتنا العاجلة للحصول بسرعة على كمية كبيرة من إمدادات السلاح"، ثم يتابع "وظللنا نرسل البرقيات حول احتياجاتنا السريعة للفانتوم، وأخير تلقينا ردا ايجابيا يوم الثلاثاء 9 أكتوبر" ... وعلمنا أننا سنحصل على السلاح في حالة واحدة، إذا ما ساء موقفنا للغاية" (ديّان يعترف).
وأرادت أمريكا من ذلك التباطؤ أن تطوّع "إسرائيل" لمشروعها السياسي، وأدرك قادتها ذلك، إذ يقول ديّان "وكنت أكره مجرد التفكير فيما كان يمكن أن يحدث لو أن الولايات المتحدة أوقفت مساعدتها لنا، أو ماذا كنا نفعل لو أنها أدارت لنا ظهرها في هذه الأيام". وهذه المشاعر تكشف طبيعة الكيان اليهودي من حيث أنه لا تقوم له قائمة إلا بحبل من الناس، متمثل بدعم الغرب.
ثم أمدت أمريكا اليهود بالسلاح، كما يبين ديّان بالقول "بدأت الولايات المتحدة في النقل بجسر جوي استمر بين 14 أكتوبر و14 نوفمبر لمدة شهر"، ويكشف ديّان عن فحوى لقائه مع كيسنجر لدى زيارة الثاني "لإسرائيل" أثناء الحرب، حيث استنتج تخوف أمريكا من سقوط "النظم العربية المعتدلة لتحل محلها نظم متطرفة".
ولم يتلق اليهود كل ما طلبوا من أسلحة وتعويضات، مما أزعجهم، كما يؤكد ديّان، ولكنه يوضح أن كيسنجر وجههم –في لقائه المذكور أعلاه- أنه لا بد لقادة اليهود في أمريكا من "أن يُعبّروا على التقدير لا أن ينتقدوا الموقف الأمريكي كما يفعلون دائما"، ولذلك يقول ديان أنه غادر اللقاء "بأحاسيس مختلطة"، حيث اعتقد أن احتفاظ أمريكا "بالعلاقات العربية سوف تتم على حساب إسرائيل عن طريق مزاولة الضغط".
وكانت الحرب فرصة لبريطانيا لفرض حضورها ومحاولة تثبيت مركزها الدولي. ثم إن الجيش المصري دخل حربا لتحرير سيناء، واندفع جنوده بإخلاص وقوة مشحونين بمشاعر قوية لغسل عار هزيمة النكبة. ويصف ديان مشاعره الصعبة بعدما يقول "وكانت قواتنا قد تكبدت خسائر فادحة في الرجال والمال"، "لم أمر بلحظة قلق تشابه هذه اللحظات في حياتي من قبل"، حتى وصل ديّان لمرحلة "الغضب حتى على الموت"، وذلك بعد الأيام الثلاثة الأولى من المعركة، فيما يقارن بين هذه الحرب الرابعة التي يخوضها وهو يشعر بمزيج من القلق الشديد والحزن والمجهود الضخم، وبين حرب 1948 حيث كان العمل سهلا "وضحكت كثيرا" يقصد خلال الحرب الأولى، وأن حرب 1956 وحرب 1967 لم تكونا بالحروب الصعبة. ويصف مستوى قتال الجنود العرب بالقول "أنهم لم يهربوا كما كانوا يفعلون في الماضي" حيث "كان الهروب أحد الملامح الهامة في شخصية الجيوش العربية" (ديّان يعترف). وهذا الكلام يكشف تآمر الأنظمة العربية على جيوشها في الحروب السابقة (الصُوَرية)، وأن الدولة اليهودية لم تكن قد خاضت حروبا حقيقية فيها، وأن أبطال جيوش المسلمين عندما يخوضون الحروب دون تآمر مسبق من الحكام على هزيمتهم فإنهم يلقنون اليهود دروسا لا ينسوها.
وفي ظل تلك التطورات العسكرية والسياسية، تصعّب وقف الحرب على أمريكا، وتعذّر –في البداية- صدور القرار المطلوب. وقد كادت تلك التطورات أن تؤدي لأن ينفلت الموقف من يد أمريكا، وحصل بعض الارتباك لدى أمريكا وروسيا، وصدرت تهديدات بالتدخل المباشر في حرب الشرق الأوسط لوقف الحرب. ويشير ديان إلى ذلك بالقول "وكان التوتر على المسرح الدولي قد بلغ مداه، وخاصة بين روسيا وأمريكا اللتين كانتا تزودان المتحاربين بالأسلحة".
ثم تمكنت أمريكا وروسيا في 22/10/1973 من الاتفاق على مشروع قرار بشأن النزاع في الشرق الأوسط، وصدر عن مجلس الأمن قرار رقم 338، ويُبيّن ديّان أنه بعد قرار وقف إطلاق النار اتضح أن "أمريكا وروسيا قد نسقتا كل الأمور بينهما، وتحولت الأزمة لتصبح بين إسرائيل والولايات المتحدة". وتضمن القرار "وقف إطلاق النار بصورة كاملة، وإنهاء جميع الأعمال العسكرية فوراً ..."، ودعوة جميع الأطراف المعنية إلى البدء بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 (1967) بجميع أجزائه، والدخول في مفاوضات بين الأطراف المعنية تحت الإشراف الملائم بهدف إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط" (قرار الأمم المتحدة 338 / أكتوبر 1973). مما اعتبره ديان "نصرا للعرب، إذ يتم تجميد المكاسب التي حققوها".
ويبين ديّان كيف أن الرئيس الأمريكي أوصاهم بقبول قرار مجلس الأمن وأن مجلس وزرائهم "قرر الاستجابة لطلب الرئيس نيكسون". ويقول ديّان "وقيل لنا أنه كان لا بد من إزالة عدة عوائق قبل أن يتم التوصل إلى هذا القرار". وهو ما كانت أمريكا تريده من ترويض "إسرائيل" بالحرب القاسية عليها.
وبعد الحرب، يفهم موشى ديّان توجهات أمريكا في المنطقة، ويوضحها بالقول "وكانت الولايات المتحدة مشغولة في تحركات سياسية ثلاثة في منطقة الشرق الأوسط، كلها في النهاية لا تخدم إسرائيل"، وذكر موضوع البترول، وتقوية موقف ونفوذ أمريكا في مصر والسعودية، والثالث "حل الصراع بين العرب وإسرائيل".
وعندما عاد ديّان إلى القدس كان القادة يتلهفون لسماع تفاصيل زيارته حول "رؤية أمريكا للموقف"، فأجابهم أن الأمريكان "يتلهفون على الوصول إلى نهاية للصراع في الشرق الأوسط، ولذا فهم يطلبون منا أن نوافق على الحد الأقصى الذي يطلبه العرب حتى ولو كان ذلك على حساب إسرائيل"، وقال أنهم "يتوقعون منا مزيدا من التقدم نحو السلام وأن هناك وقتا قد يضطرون فيه لممارسة الضغط علينا".
وفي الجبهة الأخرى، كان السادات قد ألقى خطابا أثناء المعارك استعد فيه لوقف إطلاق النار، وعرض فيه نقاطه من أجل السلام. وقبلت القيادة السياسية في مصر بالقرار الدولي، ونفّذته اعتبارا من مساء نفس اليوم، بينما خرق الجيش اليهودي وقف إطلاق النار، فأصدر مجلس الأمن الدولي قرارا آخر في اليوم التالي يُلزم جميع الأطراف بوقف إطلاق النار.
وتبيّن بوضوح أن تلك الحرب كانت جسرا للعبور نحو "السلام" والصلح.
وبعد شهر تقريبا، انعقدت القمة العربية العادية السادسة في الجزائر، وتماشت علنا مع التوجهات للحلول السلمية، فدعت إلى "الانسحاب الإسرائيلي من جميع الأراضي العربية المحتلة بما فيها القدس".
وحاول الرئيس الأمريكي نيكسون استكمال خطة الحرب للوصول إلى الحلول السلمية، مع إشراك منظمة التحرير الفلسطينية في المفاوضات، وتحرّك ميدانيا نحو الشرق الأوسط خلال العام 1974، عبر زيارات دبلوماسية متكررة لدول منطقة الشرق الأوسط من قِبَله شخصيا، ومن قِبَل وزير خارجيته كيسنجر: منها ما كان لاستكشاف الأجواء وتقويم مدى الجاهزية للمسيرة السلمية، ومنها ما استهدف التحرّك الفعلي، وإقناع قادة "إسرائيل" بقبول التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية.
ولكن نيكسون واجه حقيقة تراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط وحقيقة فشل قدرته على تحريك المسيرة السلمية، وذلك من جهة عدم تجاوب الشعوب مع الحلول السلمية، حيث ظلت مستندة إلى ثقافتها وتراثها وتاريخها الرافض لقبول الاحتلال، ومن جهة عدم انصياع قادة "إسرائيل" وعدم تسليمهم بالمصالح الأمريكية، وعدم تمشّيهم مع الرؤية لدولتهم كقاعدة أمريكية، إذ أرادوها "قاعدة يهودية" حسب أجندتهم الخاصة بهم، ورد اليهود على التحركات الأمريكية بطرح ما سمي مشروع إيغال ألون (وزير خارجية "إسرائيل")، حيث طرحه إيغال ألون على كيسنجر، ورفض من خلاله التماشي مع الطرح الأمريكي. وكان حزب الليكود "الإسرائيلي" قد تأسس في العام 1973 ورفع شعارات أكثر تطرفا وتصريحا بالعدائية من حزب العمل الذي ظل متفردا بالحكم منذ نشأة الكيان اليهودي، وتماهت شعارات الليكود مع الرؤية التوسعية للدولة اليهودية (حزب الليكود).
إضافة لتلك التحديات الخارجية، ظلّ نيكسون يواجه تحديات داخلية في تنافس حزبه الجمهوري مع الحزب الديمقراطي، تتوجت بفضيحة "ووترجيت" الشهيرة التي أطاحت به، فاستقال في آب من العام 1974 دون أن يكمل فترته الرئاسية الثانية (Watergate Story)، وتضعضع موقف أمريكا في المنطقة، وبذلك تراجع العمل على استكمال خطة المسيرة السلمية، ولم تفضي الحرب للسلام مباشرة.
وجاء الرئيس الأمريكي فورد، وصارت أمريكا تركّز على إعادة تثبيت نفوذها في المنطقة، وأعلنت أمريكا أنها ستعيد النظر في سياستها في الشرق الأوسط وستُجري تغيرات، بينما فرضت قضية لبنان واقعها على مسرح الشرق الأوسط:
وفي سياق تحريك الأجواء للمسيرة السلمية، دفعت أمريكا نحو مزيد من الاعتراف الإقليمي والعالمي بمنظمة التحرير الفلسطينية، وحثّت على إشراكها في المفاوضات، فاعتمد مؤتمر القمة في الرباط في تشرين الأول 1974 منظمة التحرير "ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني" (تاريخ القمم العربية).
وتماشى مؤتمر الرباط مع التوجه نحو الحلول السلمية (في ظل تبلور استخدام "اللغة القانونية")، ولكن دون أن تكون التحركات "منفردة"، ودار على إنهاء حالة الحرب بين الأنظمة العربية والدولة اليهودية في مقابل انسحاب جزئي من سيناء والجولان، وأكّد على "ضرورة الالتزام باستعادة كامل الأراضي العربية المحتلة في عدوان يونيو 1967"، فنسج المؤتمر للسادات العباءة التي أرادها من الأنظمة العربية لتغطية تحركه نحو استكمال "خطة السلام"، بعدما كانت حرب أكتوبر خطوة من خطواتها.
وكان مؤتمر الرباط ممهدا لصدور قرار هيئة الأمم المتحدة بأكثرية ساحقة لدعوة منظمة التحرير الفلسطينية للحديث في الجمعية العمومية، وللمشاركة بصفة مراقب في جميع مؤتمرات هيئة الأمم (موقع الجمعية العامة للأمم المتحدة)، وتماشت منظمة التحرير مع المخطط الأمريكي، وبدأت تفصح عن الاعتراف بالدولة اليهودية، والموافقة على مفاوضاتها.
وخطب ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتحدث عن "النضال السياسي والدبلوماسي"، وعن تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني، مشيرا إلى قرار القمة العربية، وطالب "بإقامة السلطة الوطنية"، وظلّت مقولته التي تفتح باب السلام ترن في الآذان: "فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي" (خطاب ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة).
لكن منتصف عقد السبعينات ظلّ حافلا بالتوترات السياسية وظلّت أجواؤه الإقليمية غير مستقرة، وخصوصا مع تصاعد القلاقل المستمرة في لبنان، مما وجّه الجهود والأنظار السياسية نحو لبنان أكثر من فلسطين، وأدى إلى انشغال المنطقة بقضية لبنان بشكل متكرر. وانشغل السادات خلال العام 1975 بتثبيت نفوذ أمريكا، وقام بزيارات دولية وعربية لخدمة مصالحها، ولتقوية النفوذ الأمريكي، فتباطأ العمل في المسيرة السلمية، ولم تستطع أمريكا تحقيق تقدم ملموس في قضية فلسطين.
وفي هذه الأجواء من لهث السادات نحو تعزيز النفوذ الأمريكي وتطلّعه لتحريك مسار الحل السلمي، ومع استمرار القلاقل في لبنان، ومع انشغال الجامعة العربية بالملف اللبناني، تقدّم السادات للجامعة العربية باقتراح منح منظمة التحرير الفلسطينية العضوية الكاملة (كأنها دولة)، وبالفعل أقر مجلس الجامعة ذلك الاقتراح كقرار في 6/9/1976، للمساعدة في سعي الجامعة لحل قضية لبنان، واستفاد السادات منه في تحسين صورته المعنوية الهابطة أمام الأمة على اعتبار أنه "يساند الفلسطينيين في قضيتهم".
وكان قرار الجامعة العربية ذاك تمهيدا لقرار جديد أصدرته الجمعية العمومية للأمم المتحدة (قرار رقم 31/20 بتاريخ 24-11- 1976 - قضية فلسطين)، والمؤيد لتوصيات "تقرير اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف". وقد نص القرار على الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية، وعلى تنفيذ التوصيات المذكورة حول الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة (على أساس حدود 1967 "الخط الأخضر")، وتنفيذ ذلك قبل حزيران من العام 1977, ونص أيضا على نشر قوات دولية مؤقتة لحفظ الأمن، وعودة اللاجئين إلى ديارهم.
وكان ذلك القرار الجديد حول إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة ناسخا لقرار تقسيم فلسطين رقم 181 من حيث المساحة، وموافقا له من حيث إنشاء دولة فلسطينية، حيث كانت الدولة الفلسطينية حسب القرار الأول تضم الجليل ويافا واللد والرملة. وفي سياق تضليلي، صوتت أمريكا "وإسرائيل" ضد هذا القرار الجديد، ولذلك رُوّج على أنه "تقدم" لمصلحة الفلسطينيين، مع أنه أعطى الدولة اليهودية مساحة أكبر وركّزها فوق الأرض. وبالطبع فإن القرار رقم 242 للعام 1967 لم يكن يدور حول الدولة الفلسطينية بل حول "سحب القوات المسلحة من أراض احتلتها في النزاع".
وبعد هذا القرار، ومع نهاية العام 1976 صار الحديث عن عقد مؤتمر جنيف للسلام في الشرق الأوسط يتزايد، وصدر قرار رقم 31/61 بتاريخ 9/12/1976 (الحالة في الشرق الأوسط) من أجل "الاستئناف المبكر لمؤتمر السلام للشرق الأوسط باشتراك جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية"، وأكّد حصر الانسحاب ضمن حدود 1967 كأساس للمسرة السلمية، وصار السادات مستعدا لخوض المسيرة السلمية بشكل متسارع، وهو ما يفصله المقال اللاحق ضمن هذه السلسة.
وهكذا اتسمت مرحلة منتصف عقد السبعينات فيما يتعلق بقضية فلسطين، بالمعالم السياسية التالية:
1) ظهور السادات كلاعب يحاول كسب الاعتراف الأمريكي به كزعيم يحقق مصالحها، ويحاول تثبيت نفسه على حكم مصر من خلال الحرب ومن خلال تعزيز النفوذ الأمريكي في المنطقة.
2) تغيّر في السياسة الأمريكية الاستعمارية، حيث استخدمت أمريكا الحرب كأداة لتحقيق مصالحها، بعدما ظلّت تُصرّ على الوسائل الدبلوماسية والسياسية، وتآمرت مع السادات على خوض حرب محدودة، كمقدمة لتحريك المسيرة السلمية.
3) دفع أمريكا لمنظمة التحرير الفلسطينية على الساحة الإقليمية والعالمية كأنها دولة.
4) عدم استقرار النفوذ الأمريكي في المنطقة في ظل التحديات الخارجية والداخلية التي واجهها نيكسون، إضافة إلى تصاعد القلاقل في لبنان، مما أدى إلى تباطؤ المسيرة السلمية.