أمريكا والثورة: رأسمالية بلا إنسانية !
الدكتور ماهر الجعبري
 
 
خلال السنوات الأخيرة الماضية، كررت العديد من الأصوات الإعلامية التي تسبح في فضاءات الأنظمة وتنطلق من فضائياتها، بأن لا وجود للمؤامرة الغربية على الأمة الإسلامية، وبأنهم يرفضون ما يسمونه نظرية المؤامرة. وخلال الأسابيع الأخيرة علت شعارات جماهيرية تؤكد عمالة الحكام للغرب وتآمر الغرب ضد الأمة من مثل: يا مبارك يا جبان يا عميل الأمريكان ... والقذافي يهودي ... وغيرها من مجموعة شعارات "الشعب يريد إسقاط النظام".
 
وهو مشهد صادع يسحب البساط من تحت أولئك المضللِّين في الإعلام الذين عملوا على نفي وجود أي تآمر غربي على الأمة الإسلامية، وعلى نفي عمالة الأنظمة للغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي، حتى اعتبر البعض ذلك الطرح من باب السباحة في الخيال السياسي.
 
وبعد أن ثبتت لدى الشعوب عمالة الحكام بشكل قاطع، وهي تتابع محاولات أمريكا اللحوحة في استدراك سقوط الراقصين على مسرح القصر الجمهوري المصري قبل أن تفلت المنصة من أيديها، صار من الصعب على تلك الأصوات التي عملت طيلة عقود على تبرئة الحكام أن تكرر تسبيحاتها في ملكوت الغرب، ومن يجرؤ أن يصرّح بغير ذلك فهو إما منتفع أو مخادع أو جاهل.
وفي المقابل يتعامل البعض مع أمريكا كأنها ربٌ يُقدّر، وكأنها محيطة بكل كبيرة وصغيرة فلا يعزب عن خططها السياسية مثقال حبة من خردل، وكأن رجالاتها هم وراء كل مشهد سياسي، حتى ولو كان مشهد صحوة وانتفاضة عزة وتحرك نحو استعادة كرامة مفقودة.
 
في كلا الحالين هنالك فقدان لبوصلة الوعي السياسي، وهنالك عمل ضد مصالح الأمة، وتجديف بعكس تيارها الجارف نحو نهضتها من كبوتها الطويلة.
 
فالغرب يتآمر على الأمة والحكام عملاء، ولكنّ الأمة قد صحت ولن تنام بعد اليوم إلا وقد كنست كل هذه الأنظمة واستعادت وحدتها، وربما يستطيع الغرب، وعلى رأسه أمريكا، أن يعرقل مسيرة الأمة التحررية حينا من الدهر، وقد يستطع أن يعيد مسك الخيوط المتقطعة في بعض البلدان، وقد يستطع أن يستغل بقايا رجاله في فلول الأنظمة وفي الأحزاب التي تسبح بحمده والتي تستمد وجودها من فكره الديمقراطي المخادع، ولكن الجموع التي تصيح بصوت راسخ: "لا إله إلا الله ... والقذافي عدو الله"، والتي تسقط حكومات تشكلت من رجال الاحتياط في الأنظمة بعد انتفاضات الأمة ضد الحكام وإسقاطها في كل من مصر وتونس، لن تقبل بعميل جديد حتى ولو برز في ثياب الناسكين.
 
ولا شك أنه لا زال بين الأمة أحزاب وتيارات سياسية تنطق باسم الغرب، وهنالك مؤسسات مجتمع مدني تنمو من أموال المانحين وتتحرك حسب أجنداتهم، وفي المقابل هنالك شباب مندفع يصر على أن يختار الحاكم ويسترجع العزة والكرامة، وهنالك إسلام سياسي يدب في الأمة ويتخوف منه الغرب الرأسمالي، وهو على وعي راسخ ولن يسمح بصعود عملاء جدد، ولن يمكّن عملاء الفكر من تسلم قيادة الأمة بعد اندحار عملاء السياسة.
 
هنالك أصوات تروّج للديمقراطية كأنها البديل عن الأنظمة المستبدة، وهي أصوات مضللة، بفتح اللام وكسرها، لأن نشر الديمقراطية غاية مبدئية عند الغرب، وهي مصلحة حيوية لأمريكا، بل إنها كانت قد بنت استراتيجية الأمن القومي لأمريكا عام 2006 على أساس نشرها في العالم حسب ما جاء في نصها المنشور على الموقع الالكتروني للبيت الأبيض، والتي تذكر بصراحة أنه من أجل أن "نحمي شعبنا ونرفع قيمنا، يتوجب على أمريكا أن تنشر الحرية عبر الكون من خلال قيادة جهد دولي لإنهاء الديكتاتورية وترويج الديمقراطية الفعّالة". 
 
وكان الرئيس الأمريكي السابق بوش قدّم تلك الإستراتيجية برسالة مؤرخة بتاريخ 16/3/2006، أعلن فيها "حرب أفكار" طويلة الأمد، واعتبر أن البديل الفكري الذي تطرحه أمريكا في صراعها هذا هو الديمقراطية، وقال فيها: "لقد وقفنا من أجل نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير مواجهين تحديات ..."، واعتبر العمل من أجل القضاء على الديكتاتوريات ونشر ما يسمّيه الديمقراطية الفعّالة هو ركن أساس في استراتيجية أمريكا، إضافة إلى ركن آخر يتمثل في وجوب مواجهة تحديات الزمن من خلال قيادة مجتمع نامٍ من الديمقراطيّات. وكان قد دعا في خطاب بتاريخ 6-11-2003 "إلى ثورة في أرجاء العالم من أجل الديمقراطية." واعتبر فيها أن "إقامة الديمقراطية هي إنشاء الجنة على الأرض"، بل ونصّب نفسه مفكرا إسلاميا فأكد أن الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية، وأن مبادئ الدين الإسلامي تدعو للديمقراطية !!
 
هذه هي حقيقة المصالح الأمريكية في ترويج الديمقراطية، وهذه هي حقيقة أمريكا التي لا تعرف غير مصالحها الرأسمالية، ولذلك فإن انتفاضة الأمة ضد الحكام العملاء لا تقف عند إسقاطهم، بل لا بد من إسقاط الأفكار التي تقف خلف أسيادهم، والوقوف ضد المصالح والسياسات التي يروّج لها الغرب من مثل نشر الديمقراطية.
 
إن الأمة الإسلامية هي صاحبة مشروع حضاري يتفوّق على الديمقراطية التي يخادع بها الناس، وإن نشر الإسلام في العالم في مقابل انحسار الديمقراطية هو غاية عند الأمة الإسلامية، وهي في تضاد مع غاية الغرب في نشر الديمقراطية، ولذلك فلا بد من التساؤل هنا كيف يستبيح المضبوعون بالثقافة الغربية نشر الديمقراطية الغربية ويرفضون أن يعلو صوت الأمة مطالبة بتطبيق الإسلام ؟ وأي مصالح يعملون لتحقيقها في سعيهم هذا؟ ثم لماذا تصدر أصوات تطالب بحرية الأحزاب إلا إذا كانت إسلامية؟ إن مثل هذه الأصوات هي أصوات أمريكية ولو تحدثت العربية.
 
إن أمريكا التي تحرّك قواتها نحو ليبيا لأجل أن تأمّن لها موقع قدم لها في كيان ليبيا الجديد الذي ظل في كنف أوروبا وسيدتها القديمة بريطانيا، ولكي تقطع الطريق على كل محاولة مخلصة للمسلمين للتخلص من الدكتاتورية والديمقراطية معا، لم يهمها قتل الألوف بل مئات الأولوف في العراق وفي أفغانستان، وهي التي استأجرت شركات القتل مثل بلاك ووتر، ولا زالت تدافع عن "دبلوماسي" مجرم في باكستان، وتريد أن تكون له حصانة في باكستان بينما يشارك في قتل المسلمين فيها.
 
إن السياسة الأمريكية قاتلة ودعواها شريرة، والساسة الأمريكان مجرمون، ومن يتوجه إليهم طلبا للعون هو كالمستجير من الرمضاء بالنار، ومن يسير في ركاب مشروعهم الحضاري فإنه يسير في مشروع عمالة سواء أدرك ذلك أم كان مخدوعا للصميم.
 
لقد آن لتلك الجوقة التي تسبح بحمد الغرب وتتلو أفكاره صباح مساء وتنفي تآمره، أن تعتزل ميدان العمل السياسي وأن تتركه للمخلصين من أبناء الأمة كي يقودوا مسيرتها نحو التحرر الكامل من كل عمالة للغرب ومن كل احتلال، ولا شك أن الناس ستنفض عن كل من يصر على التطبيل والتزمير للحكام، ومن يرفض أن يرى المؤامرة على حقيقتها، لأن من يصر على ذلك ليس أقل عمالة من الحكام أنفسهم.
 
5/3/2011