إعادة تشكيل الدائرة على هيئة مربع له نفس المساحة باستخدام المسطرة والفرجار هي مسألة من مسائل الهندسة أو الرياضيات التي لا يمكن حلها بخطوات محدودة، رغم بحثها الطويل بعدما تفتقت هذه المشكلة عن عقليات المهندسين القدامى والرياضيين في بابل.
وفي الشهر الماضي تفتقت مجموعة الأزمات الدولية عن تقرير سياسي-أمني بعنوان: "تربيع الدائرة: إصلاح الأجهزة الأمنية الفلسطينية تحت الاحتلال"، وكأن العنوان، إذ يريد المدح في صناعة المستحيل، يشير إلى استحالة هذه المعضلة السياسية في ظل تداخل المتغيّرات التي تضبط أداء الأجهزة الأمنية في السلطة الفلسطينية.
وكذلك فإن القراءة الواعية –لما بين السطور- تفضي إلى استحالة نجاح الحل المفروض دوليا من خلال إيجاد سلطة وطنية تنفذ مشروعا أمنيا يُعتبر أساس وجودها بحسب ما يشير التقرير: لأن قادة الجيش "الإسرائيلي" لن يثقوا بأبناء فلسطين، خشية أن يُعيدوا توجيه بنادقهم وجهتها الصحيحة، كما يستشهد التقرير بما حصل في الانتفاضة السابقة، مما نستدل به على معدن الأمة العقدي، وإلى أنه لا يمكن لمفعول هذه العقيدة -التي يحملها أفراد الأجهزة الأمنية كما حال الأمة- أن يزول، حتى ولو خدّره التدريب الأمريكي المشترك مع القوات العراقية، وستبقى الصحوة من سكرة أموال المانحين، ومن وقع العوز والحاجة، ممكنة تحت همجية الاحتلال ووحشية عدوانه. وستبقى إمكانية هذا التوجيه الصحيح ممكنة رغم كل محاولات الترويض، لأن تحول المناضل إلى حارس لمن ناضل ضده هو أصعب من تحويل الدائرة إلى مربع.
ولعل الاقتراب من دائرة الأجهزة الأمنية، سواء لتربيعها أو لتحليلها، يتضمن محاذير أمنية لكل من يقترب، وخصوصا في ظل ما ورد في التقرير المذكور من انتهاكات صارخة بحق من تستهدفه تلك الأجهزة، وفي ظل ما نشهد ونلمس من لجم "القانون المسطّر" أمام "الأمن الممارس"، كما هي الحال في قضية الرأي العام التي أثارها حزب التحرير خلال الشهرين الماضيين، حول رفض الأجهزة الأمنية إطلاق صراح السجين السياسي محمد الخطيب، رغم صدور قرار من محكمة العدل العليا بإبطال اعتقاله! بل حولته الأجهزة الأمنية إلى محكمة عسكرية بما يخالف أبسط قواعد الفهم: إذ كيف يقف من لم ينتسب للعسكر يوما أمام محكمة العسكر ومن ثم يصمت الجميع من رأس هرم السلطة حتى أبسط شرطي يحرس زنزانة الخطيب ؟ بل ويصمت الناطقون الإعلاميون لحركة فتح أمام هذا الانتهاك فيما تعلو أصواتهم عندما يتعلّق الأمر بسلطة "الأعدقاء !" في غزة.
ومع ذلك، فإن التقرير، وما صرّح به الناطق باسم الأجهزة الأمنية قبل أيام حول عدم الخجل من تنسيق الأجهزة الأمنية مع الاحتلال تحت ذريعة "تنسيق السجين مع سجّانه"، تدفع لهمسة سياسية لعلها تجد آذانا صاغية ممن وجدوا أنفسهم في تلك الدائرة الأمنية التي يستحيل تربيعها !
إن منطق السجين والسجان الذي سبق أن استخدمه دعاة التطبيع في السلطة الفلسطينية من أمثال وزير الأوقاف فيها، متهافت، إذ إن المحتل يفرض بالأمر الواقع ما يريد سواء نسّق معه "السجين" أم لا، وهو يكرر اختراقه للمناطق التي يديرها "السجين" كلما شاء، فما الحاجة للتنسيق معه من خلال تشكيل أجهزة تقوم بأدواره في متابعة المقاومين ؟ وغيرهم من الرافضين لوجوده ؟ وخصوصا في ظل تصاعد الحملات الأمنية بعد عملية الخليل التي نفذتها مجموعة من حماس، وقد قام الاحتلال بتصفية المجاهديْن، بينما كانت ولا زالت تلك الأجهزة تحقق وتعتقل كل من له صلة بهما، حتى لو كان حلّاقا لأحدهما: فأي "سجين" يقبل بهذا الدور مع سجّانه؟
وإن هذا المنطق المعوج ّيتهاوى أمام سؤال: لماذا يتحول السجين تحت الاحتلال إلى سجّان طالما تعترفون أنكم سجناء مثل من تسجنون ؟ هذا هو السؤال البسيط للناطق باسم الأجهزة الأمنية والذي آمل أن يكون جوابه إعلاميا لا أمنيا من خلال رصاصات جديدة تخترق سيارة الكاتب !؟!
إن تقرير الأزمات الدولية إذ يتغنّى بصناعة المستحيل، وإذ يتحدث عن إقرار "إسرائيل والمسئولين الدوليين" بتحسين القدرات الأمنية، لا ينسى أن ينسب هذا النجاح لأهله: فيذكر إنجازات مشروع دايتون الذي قدم الدعم المالي والفني ضمن برامج تدريب وتسليح مكثفة، حيث لعب دايتون وطاقمه دورا محوريا في ذلك، بل إن دايتون هو الذي أطلق هذه المهمة المستحيلة.
لقد كان حضور دايتون المركزي مصدر حساسية للمسئولين في السلطة واعتبروه وصمة عار في صورتهم أمام الناس، مما دفعهم –كما يشير التقرير- للتعرض لدوره من زاوية هذه الحساسية، وقد وصلت الحساسية أوجها عندما ألقى دايتون خطابه الشهير في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، والذي كان أشبه بالفضيحة للأجهزة الأمنية، وقد جرح مضمونه الذي انتشر بين الناس مشاعر العديد من القادة في تلك المهمة المستحيلة، وقد سبق لكاتب هذه السطور، وغيره، التعقيب على ذلك الخطاب الفاضح. ورغم تلك التحفظات الفلسطينية إلا أن المسئولين الفلسطينيين يكبرون دور دايتون في الإصلاح، وفي الوقت نفسه فإن المسئولين الإسرائيليين يعترفون بفضله في تعزيز ثقتهم بالأجهزة الأمنية الفلسطينية.
ويشير تقرير الأزمات الدولية إلى تخفيض دايتون لمستوى حضوره الإعلامي، بعد ذلك الخطاب الفضيحة، وإثارة تلك الحساسيات. ولعل تلك المعلومات تلقي بالضوء على خلفية إحلال الجنرال الأمريكي الجديد مولر محل دايتون، ويبدو أنه سيتعلم من الدرس جيدا، إذ لا زال بلا صوت علني بعد أشهر من تعينه.
ولكن يبدو أنه قد غاب عن مجموعة الأزمات الدولية أن هذا التقرير، بما تضمنه من معلومات ولقاءات رسمية، يمكن أن يمثل فضيحة أخرى بمنطق التعامل مع خطاب دايتون !
وأود أن أشير إلى أن ذلك التقرير، وضمن حديثه حول الانتهاكات، قد تضمن ذكر حادثة إطلاق النار على كاتب هذه السطور، بينما جبنت العديد من مؤسسات حقوق الإنسان المحلية من مجرد الإشارة للحدث، وعلى رأسها الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان التي سارعت إلى جمع سجلات عريضة من الكاتب وحملت توكيلا منه لمتابعة القضية، ومن ثم حاولت إقناعه على أقفال الملف، ولم تذكر الحادثة لا في تقرير شهري ولا سنوي، فكيف ستحافظ على صفة "المستقلة" إذا كانت ستخضع لإملاءات الأجهزة الأمنية فيما تنشر ولا تنشر؟
إن ما ينشر في تلك التقارير من انتهاكات، يمثّل ثغرة في "شهادة حسن السلوك" المطلوبة أمام المانحين، وهو في الوقت نفسه يعيق تحقيق المهمة المستحيلة، لأنه يكشف أن المشروع الأمني لا يحمي المواطن من رصاصات حارس الأمن بل يجعله فوق المحاسبة إن أجرم.
والتقرير يوصي حكومة الاحتلال بتوسيع نطاق تحرّك الأجهزة الأمنية، وبتحديد الاقتحامات، وبلجم المستوطنين، والقراءة الواعية تكشف هدف هذه التوصيات من إقناع الناس بإمكانية تحويل الدائرة إلى مربع. ومن أجل ذلك الهدف "المستحيل"، يوصي التقريرُ السلطة أن تتخذ الإجراءات التي تعزز احترام حقوق الإنسان، وإنهاء التعذيب والمعاملة السيئة، وإبطال الإجراءات التي تتطلب شهادات حسن سلوك من الصحفيين ومنظمات المجتمع المدني، واحترام حرية التنظيمات السياسية.... ومن ثم يعود التقرير نحو الراعي الأمريكي لهذا المشروع ليطلب منه أن يصرّ على احترام حقوق الإنسان ودعم قطاع القضاء والعدل ليتماشى تطوره مع تطور الأمن.
إن توصيات العديد من مؤسسات صنع القرار ومعاهد الاستراتيجيات (think tanks) تتحول إلى سياسات عملية للتنفيذ، ولذلك يمكن للناس أن تستشرف الصورة القادمة في ضوء التوصيات، لأن الأعمال على الأرض تحركها أموال المانحين وتديرها أمريكا مباشرة من خلال مولر الذي استبدل بدايتون.
وتتواتر التقارير، وتبقى الأسئلة بلا إجابات: لماذا نجبر الهندسة على حل ما عجزت عنه الرياضيات ؟ ولماذا نحل معادلاتنا بأدوات أمريكا ومنهجياتها العدائية لنا والموالية لدولة الاحتلال ؟ ألسنا قادرين على أن نصنع مربعاتنا بأدواتنا ؟ وأن نخرج على الدوائر التي يشكلها المانحون أو ترسمها القوى الدولية بمباركة "السجّان العدو" ! وخصوصا أنهم لا ينظرون "للأخ السجّان" فيها إلا كما تنظر الرياضيات للرقم.