مقاطعة أكاديمية أم مقاومة التطبيع !
الدكتور ماهر الجعبري
 
طالب اتحاد نقابات أساتذة وموظفي الجامعات الفلسطينية من إدارات الجامعات والأكاديميين عدم التعاون أو الانخراط في أي مشاريع مشتركة مع الجامعات "الإسرائيلية" بشكل مباشر أو غير مباشر، وبشكل فردي أو مؤسساتي. وجاء ذلك تعقيبا على قرار اتخذه مجلس جامعة جوهانسبرغ بعدم الاستمرار في علاقة طويلة الأمد مع جامعة بن غوريون في إسرائيل.
 
لا شك أن مد جسور التعاون العلمي مع جامعات العدو هو جريمة سياسية يقوم بها مجموعة من الأكاديميين الذين ينتمون لأهل فلسطين، بينما هم في تنافر مع محيطهم الثقافي، وهي جريمة قبل أن تبادر جامعة جوانسبورغ لأي مقاطعة وبعدها. وقد سبق أن قامت جامعات بريطانية قبل عدة سنوات بمبادرة للمقاطعة الأكاديمية مع الباحثين اليهود، عندما بادر أكاديميان بريطانيان خلال اعتداءات صيف عام 2002، إلى نشر رسالة مفتوحة في صحيفة "ذي غارديان" تحمل ما يزيد عن مئة توقيع لأكاديميين بريطانيين تدعو إلى فرض عقوبات على "إسرائيل" ما لم تلتزم قرارات الأمم المتحدة وتبدأ مسعى جديا في المفاوضات السلمية، ومن ثم تصاعدت الحملة البريطانية بدخول الجمعية الوطنية لمؤسسات الدراسات العليا في بريطانيا ومن ثم جمعية أساتذة الجامعات في بريطانيا على خط المقاطعة.
 
وهذه الخطوة المتجددة من اتحاد نقابات أساتذة وموظفي الجامعات الفلسطينية يجب أن توضع في سياقها السياسي الصحيح من حيث المفهوم ونوع المطالبة السياسية، إذ لا بد من التمييز بين المقاطعة ومقاومة التطبيع، حتى يكون الأكاديميون على بينة من مواقفهم السياسية، وخصوصا أن هنالك خلطا في هذه الأعمال السياسية مع الاختلاف في الغايات، حيث تبدو دعوات المقاطعة وكأنها مقاومة للتطبيع.
 
لم يكن لمصطلح التطبيع وجود في العربية قبل أن يدخل إليها ترجمة لكلمة (Normalization) الإنجليزية، وصار مصدرا لغويا يفيد جعل الشيء طبيعيا، ويعني في السياسة الانتقال في العلاقات بين يهود الغاصبين وبين الأمة، من حالة العداء وما تفرضه من حرب للتحرير إلى مرحلة "طبيعية" تقوم على أساس الشرعة الدولية، وحُسن الجوار والتعاون في الميادين والمجالات كافّة. وقد أدرجت لجنة مقاومة التطبيع النقابية الأردنية في التطبيع كل ما يؤدي إلى "إزالة حالة العداء مع المحتل الصهيوني الدخيل، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة"، ويكرس سيادته على أرض فلسطين، واعتبرت أن المطبّع هم من "يتعامل مع دولة العدو الصهيوني ومؤسساتها (بشكل اختياري)، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو إعلامية أو اجتماعية أو عسكرية أو غيرها، أو يعترف بحق "إسرائيل" بالوجود، أو يساهم بتكريس الاحتلال بأي سبيل من السبل".
 
أما دعاوى "المقاطعة" فهي مجرد إجراءات لوقف العلاقات ومنع التعامل مع العدو بقصد الضغط عليه، وهي تبدأ وتنتهي باستجداء "القانون الدولي"، والتعويل عليه بأن "يعيد للفلسطينيين حقهم في وطنهم". 
 
ولذلك يجب التركيز على التميّز الصارخ بين مقاومي التطبيع وبين الداعين للمقاطعة. ومع أن البعض يجمع بين مقاومة التطبيع والمقاطعة في خطابه السياسي مما قد يُحمل أحيانا على محمل حسن النية، إلا أن حصر الحديث على المقاطعة كوسيلة للضغط دون مقاومة التطبيع والتركيز عليها هو ما يجب كشفه، كما بيّن مثلا الكاتب إبراهيم مكاوي (على موقع أبناء البلد) إذ قال "فالمقاطعة بشكل عام، هي أقرب إلى أن تكون برنامجا تكتيكيا محددا، نتبعه كوسيلة ضغط على كيان نعتبره شرعيا وطبيعيا، ولكنه يتصرف بطريقة لا نقبلها وبالتالي فنحن نقوم بمقاطعته حتى يغير من مواقفه وسياساته التي نعتبرها مجحفة بحقنا ... أما مناهضة التطبيع، حيث كلمة تطبيع مشتقّة من كون الشيء "طبيعي"، فهي مقاومة إستراتيجية شاملة وطويلة المدى لا تعترف بكون الكيان الذي نقاوم وجوده طبيعي وشرعي في وطننا أساساً".
 
وبالطبع، يستهدف الكيان اليهودي من التطبيع محاولة إنهاء حالة الحرب والعداء الفعلي والنفسي معه، وأهم ما فيه هو إزالة الحاجز الفكري والشعوري لدى المسلمين، حيث يقف سدا منيعا أمام تقبل دولته فوق أرض فلسطين، ولكي يحقق الأمن على المستويات الشعبية والحزبية والمؤسساتية. وفوق ذلك يتطلع إلى جعل جامعاته ومراكز أبحاثه مرجعية علمية في محيطها الذي تتنافر مع شعوبه، وكان "بيريس" قد عبّر عن هذا الاهتمام بالجامعات في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" بالقول بأن "القوة في العقود القادمة في الجامعات وليست في الثكنات".
 
ومن المعلوم للمتابعين في هذا المجال، أن هنالك عدة أنواع من المؤسسات والجهات التي تدعم أو تشارك في التطبيع، وهي مفصلة في كتابي "المجتمع المدني والتمويل الأجنبي: آفاق أم تحديات!" الذي صدر حديثا، إذ تضم مؤسسات أهلية في المناطق المحتلة عام 1967، ومؤسسات غير حكومية مشتركة عربية-يهودية في المناطق المحتلة عام 1948، لترويج "التعايش بين الشعبين"، بالإضافة إلى الجهات المانحة وبرامجها التي تقدم الدعم للنشاطات التطبيعية، إذ تشترط في التمويل أن تكون المشروعات (البحثية) مشتركة ما بين عرب "وإسرائيليين"، من مثل برنامج ميرك الأمريكي.
 
ويعتبر مركز بيرس للسلام الذي أسسه بيرس عام 1996 من أشهر المؤسسات الإسرائيلية الناشطة في مجال ترويج التطبيع، ويرأسه أحد مهندسي اتفاقيات أوسلو اليهودي الدكتور رون بونداك، ويذكر موقعه على الإنترنت أن "بناء السلام هو عبارة عن عملية تتيح الفرصة للمجتمع المدني بالقيام بنشاطات تهدف إلى تحقيق السلام الدائم وذلك من خلال المشاريع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية المحلية والتي تقوم على أساس التعاون المشترك بين من كانوا يعتبرون أنفسهم أعداءً في الماضي".
 
ومن يتابع نشاطات ذلك المركز يستغرب من وجود أسماء لأكاديميين فلسطينيين لا يتوقع وجودهم. ومن يناقش هؤلاء "المطبّعين" يجد أنهم يتحدثون عن مبررات مختلفة من مثل أنهم يرفضون تقييد الحرية العلمية والأكاديمية، وأنهم يريدون فتح المجال للإفادة من التمويل من أجل تطوير المؤسسات الفلسطينية، والاستفادة من نقل التكنولوجيا، وكذلك الإفادة من أصوات الأكاديميين "الإسرائيليين النزيهين"، حسب تعبيرهم، في الانتصاف خلال التحاجج مع اليهود.
 
ولكن هشاشة هذه التبريرات واضحة جلية، فمثلا حجة "نقل التكنولوجيا" من خلال الأبحاث التطبيعية تقوم على إدعاء أجوف يكذبه المستوى الملموس على أرض الواقع لهذا التقدم التقني في فلسطين (وحتى في غيرها من البلاد العربية) بعد سنوات عجاف من الأبحاث المشتركة ! وأما حجة كسب "أصوات الأكاديميين الإسرائيليين النزيهين" وحشدهم، فهي مدعاة للضحك والقهقهة ! إذ لا بد من التساؤل هنا: هل يوجد فوق تراب فلسطين من اليهود من هم ليسوا محتلين؟ أليس هؤلاء أصحاب النزاهة هم جنود احتياط في جيش الاحتلال الذي يُجرم بحق المسلمين صباح مساء؟
 
يجب أن يخجل كل أكاديمي يقبل أن ينشر الأبحاث العلمية بالشراكة مع "شارون وييجال" وما إلى ذلك من أسماء تحمل أبجدياتها العداء قبل قلوبها، ممن هم باحثون في النهار وجنود احتلال في الليل، ينكلون بالأكاديميين الشركاء أنفسهم إذا صادفوهم في ساعات طبائعهم العدائية التي تغلب تطبعّهم الأكاديمي.
 
ويجب أن تقوّم مجالس أمناء الجامعات الفلسطينية اعوجاج الكوادر فيها، من التي تصادق هؤلاء "الجنود" الباحثين، وخصوصا أن تلك الكوادر تتمنّع عن التعاون والشراكات مع الجامعات الفلسطينية والعربية فيما تهرول إلى شراكات الجامعات "الإسرائيلية"، وهذا الدور لمجالس الأمناء أولى من ترقية بعض أولئك المطبّعين ورفعهم في السلم الإداري، لمنحهم فرصة صياغة الرؤى الأكاديمية بما يتوافق مع مواقفهم التطبيعية. وحري بمجالس الأمناء أن تحاسبهم إذا أصرّوا على نهج الانبطاح أمام بريق الدولارات الممولة من المانحين في هذه المشاريع التطبيعية تحت ذرائع واهية.
 
خلاصة الموقف أن مقاومة التطبيع تعني بشكل واضح رفض التعامل مع المحتل ورفض الاعتراف بدولة الاحتلال على أي جزء من أرض فلسطين، إلا أن مجرد "مقاطعة إسرائيل" هي عمل سياسي يقوم على الاعتراف بوجودها مع الاحتجاج على تصرفاتها، وبالتالي يُقصد منه تأجيل التطبيع والتوقف المرحلي عن التعامل كأسلوب من أساليب الضغط من أجل تحقيق مطالب سياسية مؤقتة، وهنا حريّ بالأكاديميين أن يجيبوا:
هل هم يرفضون التطبيع بتاتا ؟
أم يريدون مقاطعة أكاديمية مؤقتة لتحقيق مكاسب سياسية إعلامية ؟
 
10/10/2010