غالبا ما تتسم الروايات الرسمية الحكومية بسمات، أبرزها الكذب، أو كثير من الكذب، مع التدليس، وكذب الحكومات أخطر من كذب الأفراد بكثير، وذلك لما يرتبط به أيضا من التوظيف السياسي، والتجييش وإثارة النعرات، إذ عادة ما تلجأ الأنظمة عند أزماتها إلى اصطناع أزمات تصرف الأنظار، فتعمد إلى إطفاء الحريق ولو بانفجار.
وهذا الأمر ليس جديدا، ففرعون موسى عندما جمع قومه للبطش بدعوة موسى عليه السلام، أبدى مخاوفه من أن موسى عليه السلام يسعى إلى تبديل الدين، والفساد في الأرض " إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ"، ولم ينس فرعون كذلك، في حالة عجيبة من الشورى وهو الذي قال للناس أنا ربكم الأعلى، أن يبدي مخاوفه على الأرض و"الوطن" بقوله عن موسى أنه " يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ".
في الأردن مؤخرا، ظهرت القضية التي عرفت ب" قضية الخلية"، حيث صنع النظام من تلك القضية أزمة، إذ أن إخراج الملف لقضية هي قيد المتابعة منذ سنوات، وفي وقت ترتفع فيه حرارة الشارع لما يجري في الأرض المباركة من أحداث دامية ومجازر، وما يتطلبه ذلك من استحقاق يواجهه النظام بالخذلان التام، قد أظهر الصناعة دون البراعة لتلك الأزمة من قبل النظام، لتخفيف الضغط وصرف النظر عن أزمة النظام نفسه، وقد حصل التجييش من النظام وإعلامه، والاستنفار تحت مسميات "الوطنية" و"أولوية الوطن"، وإثارة للنعرات بين الناس، واستباق لقرار القضاء بل وقبل انتهاء التحقيقات، وكل ذلك للتدليس، في قضية جوهرها تقديم الدعم والنصرة لأهل المباركة.
في سياق هذه الأزمة التي اصطنعها النظام في الأردن، برزت شعارات برعايته خلاصتها أولوية "الوطن"، في إشارة واضحة إلى أن من يسعى إلى مناصرة فلسطين وأهلها ب "السلاح" إنما يعبث بأمن "الوطن"، وأن من يسعى لانخراط الأردن في معركة فلسطين حيث تراق دماء أهلها وينتهك أقصاها، إنما يستجلب الخراب "للوطن".
هذا المنطق، وإن كان ليس جديدا، ولا هو خاص بالأردن وحدها، إذ هو منطق كافة الأنظمة في تأطير وتبرير الخذلان وخصوصا تلك الأنظمة في جوار فلسطين، ومع ذلك تبرز هنا بعض الأسئلة التي تفرض نفسها:
كيف حصلت المفارقة العجيبة بأن يصبح أمن الأوطان مرتبطا ومتطابقا مع أمن الكيان؟ وأن يكون أمن الأوطان هو بالكف عن الكيان ولو أجرى الدماء في فلسطين أ
ما هو الأخطر حقا على أمن الأردن؟ هل هي " الخلية" أم هي النعرات التي يثيرها النظام وأدوات النظام في البلد الواحد؟ وهل يظن الحكام فعلا أنهم يحمون عروشهم بإيجاد التناقضات بين الناس أم أنهم يتيحون للعدو فرصة اللعب بنفس التناقضات؟
ثم ما هي الرسالة التي يريد أن يوصلها النظام في الأردن لكيان يهود عندما ينشر الهلع ويظهر الجزع من "خراب البلد" بمجرد أن يتحمس بعض أبنائه لنصرة أهلهم غرب النهر؟ أليس الكيان هو الأولى بالهلع؟ وما الرسالة التي سيلتقطها الكيان المتغطرس؟ ألن يزيد هذا من شر الكيان وغطرسته وخطره وهو يرى الأنظمة ترتعب، وترعب أبناءها من التفكير بالمساس به؟
ثم ما الذي سيؤول إليه الوضع بأسوأ مما هو قائم في ظل هذا العجر والذل والجبن والخنوع، بينما يقف كيان الشر على الأسوار؟ أليس هذا وصولا لقاع القاع وإهدار للكرامة؟ أم هو الحرص على الدنيا وهو عين ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم "بالوهن"؟
وإلى الذي قد يقول، لن نعطي العدو ذرائع، فهل الكيان ينتظر الذرائع؟ وهل انتظرها عندما نزع من الأردن ضفتها الغربية؟ وهل فلسطين إلا الأردن غربا والأردن هي فلسطين شرقا وتبا للتسميات إن فرقت؟ هل هذا إلا منطق من قال الله فيهم " فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ"؟
ثم ألا يعد الجبن والهلع من مواجهة الكيان أقوى الذرائع لاستجلاب طمعه وغطرسته وإجرامه؟ وهل سحب الذرائع منه هو بتركه يذبح بقية الأهل غرب النهر؟
إن الخطير في إدارة الأنظمة لأزماتها، هو إمكانية تحويل وجهة الأزمات إلى دوما إلى الداخل، وخصوصا أزمات الكيان مع الأمة، ويبقى الخط العريض الأكثر انطباقا مع الأنظمة في سردها ورواياتها، قول الرسول عليه الصلاة والسلام لكعب بن عجرة " أعاذك الله يا كعب من إمارة السفهاء " قال: وما إمارة السفهاء يا رسول الله؟ قال: " أمراء يكونون بعدي، لا يهدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون على حوضي..." أخرجه أحمد.
الأستاذ يوسف أبو زر