أنهى رئيس وزراء يهود بنيامين نتنياهو زيارته لواشنطن على وقع حادثة مجدل شمس في الجولان المحتل والتي راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى، بعد زيارة كانت حافلة إعلاميا بخطابه التاريخي أمام الكونجرس والذي استمر لـ53 دقيقة وسط تصفيق حار ومتكرر بعشرات المرات من النواب والحضور في الكونغرس، وبعد لقائه بالرئيس الأمريكي جو بايدن، ونائبة الرئيس، والمرشحة لانتخابات الرئاسة كامالا هاريس، وبعد لقائه أيضا بالمرشح الجمهوري دونالد ترامب، تلك الزيارة التي جاءت بناء على دعوة من الكونغرس الأمريكي منذ ما يقارب الشهرين.

 

وبالطبع رحب نتنياهو بتلك الدعوة واعتبرها فرصة تاريخية، فهذا هو الخطاب الرابع لنتنياهو، الأمر الذي لم يحظ به قائد أجنبي آخر في تاريخ الولايات المتحدة، ولا حتى رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل الذي خطب أمام الكونغرس ثلاث مرات. وبدا واضحا على نتنياهو حرصه الشديد على إعداد الخطاب الذي كان مسرحيا، ومنتقى بعناية بما يوافق أهواء وأمزجة السياسيين في المجتمع الأمريكي، فقال نتنياهو مثلا في خطابه إن انتصار كيان يهود سيكون أيضا انتصارا للولايات المتحدة، داعيا البلدين إلى "البقاء متّحدين" بعد تسعة أشهر على اندلاع الحرب مع حركة حماس.

 

وقال نتنياهو على وقع تصفيق حار في الكونغرس: "لكي تنتصر قوى الحضارة يجب أن تبقى الولايات المتحدة و(إسرائيل) متحدتين". وأضاف: "في الشرق الأوسط يواجه محور الإرهاب بقيادة إيران، أمريكا و(إسرائيل) وأصدقاءنا العرب. هذا ليس صراع حضارات. إنه صراع بين الهمجية والحضارة". فاعتبر نفسه مع الولايات المتحدة مدافعا عن الحضارة وضد الهمجية والتخلف والإرهاب، وكل ذلك ليدغدغ مشاعر الحضور ويحظى بقبولهم واستحسانهم.

 

ولكن ذلك المشهد المسرحي الذي تم إعداده بعناية لم يكن لينعكس إيجابا على الموقف الرسمي سواء من قبل الرئيس الأمريكي أو نائبته والمرشحة للرئاسة كاميلا هاريس أو حتى المرشح الجمهوري دونالد ترامب.

 

فنتنياهو أراد من الزيارة والخطاب تعزيز مكانته السياسية في داخل كيان يهود وتخفيف حدة المعارضة لحربه، فالتصفيق والوقوف على الأقدام هما ما أراده نتنياهو من الخطاب؛ لأن ذلك يُظهره بصورة تختلف عن صورته الحالية؛ "المنبوذ" في بلده، والذي يُعد فاشلاً ومسؤولاً عن أخطر إخفاق أمني، فكانت الرسالة أن رئيس الوزراء غير المحبوب، لا يزال قادراً على التلاعب بالعلاقات مع أهم حليف لكيان يهود، ولا يزال بإمكانه جمع حشد من الجمهوريين والديمقراطيين لتشجيعه. وهذا ما يريد أن يذكره اليهود له عندما يعود، مؤمّلاً أن يرتفع رصيده لديهم، فترتفع أسهمه في استطلاعات الرأي.

 

وهذا الأمر كان مدركا ومتصورا من قبل الكثير من السياسيين، فقد صرح السيناتور كريس فان هولين للصحفيين: "بالنسبة لنتنياهو، الأمر كله يتعلق بتعزيز الدعم له في (إسرائيل)، وهو أحد الأسباب التي تجعلني لا أرغب في الحضور... لا أريد أن أكون جزءا من دعم سياسي في هذا الخداع. فهو ليس الحارس العظيم للعلاقة بين الولايات المتحدة و(إسرائيل)". كما قال النائب الجمهوري في مجلس النواب توماس ماسي أيضا إنه لن يحضر. وكتب على منصة إكس: "الغرض من مخاطبة نتنياهو الكونغرس هو تعزيز مكانته السياسية في (إسرائيل) وتخفيف حدة المعارضة الدولية لحربه. لا أشعر بأنني من أنصار هذا، ولذا لن أحضر".

 

ولذلك حاول وزراء حكومة نتنياهو استغلال ذلك المشهد، وتلك المسرحية على النحو الذي أرادوه وبشكل صريح، فأشاد الوزير اليميني المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، بالخطاب قائلاً إن "القلب اليهودي مليء بالفخر برئيس الوزراء، والحفاوة التي حظي بها، والتي تُبين كم هي الشراكة قوية مع أمريكا". وكتبت ميري ريغيف، وزيرة المواصلات، قائلة: "أعداؤنا هم أعداؤكم، نضالنا هو نضالكم، انتصارنا هو انتصاركم. كم في هذه الكلمات من عظمة وحكمة وحزم يتسم بها رئيس حكومتنا؛ نتنياهو. لقد حظينا بقائد تحسدنا عليه الدول. علينا تقويته واحتضانه والوقوف خلفه. حماه الله ليواصل قيادتنا".

 

أما من جانب الأمريكيين، وحتى من صفقوا لنتنياهو فهم ليسوا بتلك السذاجة التي قد يظنها البعض وإن كانوا كلهم ليسوا بذلك العمق أيضا، ولكنهم يفرقون بين أمرين؛ كيان يهود وصورته العالمية، وشخصية نتنياهو. فقد أقر كثير من المحللين بأن هناك شعوراً واضحاً لدى العديد من أعضاء الحزب الديمقراطي وربما بعض الجمهوريين، بالحماس لتشجيع كيان يهود، لكنهم كانوا يفضلون أحداً غير نتنياهو، فمثلا "كان هذا هو الحال بالنسبة لزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، الذي دعا نتنياهو للتنحي وتجنب مصافحته يوم الأربعاء، وكان ديمقراطي آخر من نيويورك، النائب جيري نادلر، قد وصف نتنياهو قبل يوم بأنه أسوأ زعيم في التاريخ اليهودي، لكنه مع ذلك صفّق للخطاب في الوقت المناسب".

 

فالسياسيون يفرقون بين كيان يهود وبين نتنياهو، فهم أرادوا أن يظهروا الدعم الكبير والقوي لكيان يهود ومن ذلك مسرحية التصفيق، ولكن ذلك ليس دعما لشخص نتنياهو وإنما تعبير عن اتحاد المصالح والتبني القوي لكيان يهود من قبل أمريكا. ولذلك تجنب نتنياهو الدخول في تفاصيل الحرب والغايات والمفاوضات واقتصر على ذكر الأشياء والمصالح المشتركة التي تدعمها أمريكا، بل هي من كانت وراءها منذ البداية، مثل القضاء على المجاهدين وحكم حماس، وتحرير الأسرى، وتأمين الكيان، ومنع التهديد المستقبلي. وفوق ذلك ذكر نتنياهو ما أرادته أمريكا من أول يوم وهو العدول عن فكرة البقاء في غزة أو الحكم العسكري، ولذلك دعا نتنياهو في كلمته إلى أن تكون غزة "منزوعة السلاح وخالية من التطرف بعد الحرب، على أن تكون المنطقة تحت إدارة الفلسطينيين"، وهو عين ما تريده أمريكا. هذا فضلا عن عبارات المغازلة التي أطلقها نتنياهو للمستمعين التي دغدغ بها مشاعرهم من مثل وحدة الغايات ومحاربة الهمجية والدفاع عن الحضارة.

 

لكن على صعيد المواقف الجدية وذات العلاقة بالحرب فقد جاءت على لسان بايدن وهاريس وترامب، ولم يكن بينهم تفاوت يذكر، حتى إن ترامب قد أكد على أنه لا بد من إنهاء الحرب سريعا. وتلك كانت رسالة من ترامب والحزب الجمهوري بأنه لن يسمح لنتنياهو بأن يذهب إلى آخر المشوار في أحلامه.

 

أما بايدن ونائبته هاريس فقد كانا أكثر حدة وأقل لطافة مع نتنياهو؛ إذ أكدوا على غير ما كان يهوى ويحب، وشددا على ضرورة إنهاء الحرب والتوصل إلى اتفاق هدنة، وحل الدولتين، وبلغ الأمر بأحد المرشحين لمنصب نائب كامالا هاريس أن يهاجم نتنياهو ويصفه بالخطير والمهدد للسلام، في تعزيز لموقف هاريس والحزب الديمقراطي.

 

وهكذا يتفق المجرمون على مصالحهم في تصفية المجاهدين وسحق غزة والمسلمين. وإن اختلفوا في التفاصيل وكيفية الإخراج ولكنهم مجمعون على أهمية كيان يهود وحفظ أمنه وحفظ مصالحه وضمان مستقبله، وقادة أمريكا مستعدون في لحظة ما أن يضحوا بأشخاص كنتنياهو من أجل مصلحة كيان يهود، فكيان يهود مصلحة مقدسة لديهم، فهو الخنجر المسموم في خاصرة الأمة ويريدونه أن يدوم ويستمر.

 

إن قضية فلسطين ستبقى رهينة هؤلاء المجرمين، وسيبقى أهل فلسطين ضحية لأطماع هؤلاء وأحلامهم، والأمة الإسلامية هي الوحيدة القادرة على وضع حد لمأساة فلسطين وغزة، فعليها أن تتحرك عاجلا لتفشل مخططات يهود وأمريكا وتعيد فلسطين درة بلاد المسلمين.

 

 

 

 

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)

 

بقلم: المهندس باهر صالح

 

 

المصدر: جريدة الراية