الدكتور ماهر الجعبري – عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
 
يكتسب المسجد الإبراهيمي كغيره من مساجد المسلمين مكانته في العقلية الإسلامية من كونه محل الصلاة التي هي عمود الدين، وهو أيضا معلم غائر في تاريخ المسلمين، ولكن الذي ضيّع الدين وعمل ضد مصالح المسلمين أنّى له أن يتباكى على مسجد من مساجد الله ؟ سؤال موجّه إلى رموز السلطة الفلسطينية وإلى قادة المشروع الوطني وقد تعاقبوا على الشاشات يتباكون على قرار يهودي بتحويله إلى معلم أثري يهودي، وكأن حجارة الآثار والتنافس على خدماتها أهم عندهم من المضامين العقدية والثقافية التي تفوح بها تلك الحجارة !
 
إن اليهود قد احتلوا فلسطين منذ أكثر من ستة عقود، وقد دمّروا وغيّروا معالم الكثير من مساجد المسلمين، ووضعوا أيديهم على العديد منها في الأرض الفلسطينية التي احتلت عام 1948، فهل يجرؤ أولئك القادة والرموز أن يصرخوا مدافعين عن تلك المساجد ومطالبين الأمة بالقيام بواجبها في استعادة تلك المساجد لعودة عمود الدين فيها ؟ أم أن تلك المطالبات تعتبر تمردا على ثقافة أوسلو التي "يحرم" عندهم رفع الصوت ضدها حتى ولو تعلّقت بمساجد المسلمين وبعمود الدين ؟
 
إن الذي ضيّع الدين ويعمل ضد مصالح المسلمين لا يمكن أن يكون حريصا على مساجد المسلمين، وبالتالي فتلك الغضبة السلطوية مفتعلة، وهي تصب في صراع "إداري" سطحي لا يخرج على حدود أوسلو وأخواتها، ولذلك لا يتمكن المتحدثون الرسميون للسلطة الفلسطينية أن يجيبوا على السؤال الجوهري عندما يوجّه إليهم في الإعلام: ما العمل ؟ وما هي الإجراءات التي ستتخذونها ؟ إلا أن يتراقصوا بالكلمات حول دور المجتمع الدولي والضغط العربي، أما الدور الطبيعي للجيوش في استعادة الحق فلا يمكن أن يكون على ألسنتهم.
 
وما لا يتحدث به رجالات السلطة أن المسجد الإبراهيمي مقسوم بإرادة عسكرية، وانبطاح سلطوي إلى قسمين مفصولين بجدر وحواجز: قسم مخصص لليهود، حيث يمارسون، في مسجد الله، طقوسهم الباطلة على عين السلطة وبصرها وعلى عيون حكام المسلمين، وآخر للمسلمين الذين لا يدخلونه إلا عبر بوابات التفتيش الأمني من قبل الاحتلال، بل ويمنعون من دخول حتى هذا الجزء في مناسبات يهودية سنوية، حددتها اتفاقات الذل التي وقعتها السلطة التي تتباكى على المسجد.
 
وإن لم يكن كل ذلك التقسيم والاقتطاع والتحكم الأمني والمنع الكامل في مناسبات يهودية تهويدا ما هو التهويد إذن ؟ أم أن السلطة لم تفطن للتهويد إلا عند تهديد سيطرتها الوهمية على أعمال الصيانة في مرافق الصرف الصحي للمسجد، وفي بعض الأعمال الشكلية والديكور ؟ يبرز هذا التساؤل لدى متابعة المتحدثين الرسميين من قبل السلطة الفلسطينية، حيث تجد أن المشكلة عندهم هي في طبيعة علاقة وزارة الأوقاف بالأمر، وهم يخشون أن يسحب القرار اليهودي البساط من تحت أقدامهم في ذلك السلطان الوهمي.
 
وكأن وزارة الأوقاف الفلسطينية حريصة على إقامة عمود الدين وعلى المساجد ! وهنا لا بد أن يستحضر الإعلام الحرب التي شنتها وزارة الأوقاف قبل أسابيع قليلة على منابر المساجد في الضفة الغربية، عندما قررت أن تكون منصات للدفاع عن رئيس السلطة، ولا بد أن يذكر ما كان وزير الأوقاف، الذي يتباكى على المسجد الإبراهيمي، قد توعد به أئمة المساجد من أن "الذي يأكل من مغرفة السلطان يتوجب عليه أن يقاتل بعصاه". بل في المسجد الإبراهيمي نفسه، أنزل المصلّون الإمام الذي انتدبته السلطة للخطابة دفاعا عن رئيس السلطة، كما حصل في غيره من المساجد.
 
إذن، فمن البدهي أن الاحتلال يجرم بحق المساجد، ويكرر إجرامه في كل مناسبة، فهو احتلال غاصب وعدو حاقد، ولكن هل السلطة بريئة بحق المساجد ؟ إن الغضبة التي تدّعيها السلطة الفلسطينية ووزارة أوقافها هي جوفاء وفارغة من المضمون الحقيقي ومن أفق العلاج. فهل يمكن -مثلا- أن يتصور أحد أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية ستعلن الحرب على المستوطنين الذين يدنسون المسجد الإبراهيمي ويهودونه ؟!؟
 
سؤال يحق طرحه من باب المحاسبة السياسية، وخصوصا من قبل الذين امتدت إليهم أيدي تلك الأجهزة بالعدوان الوحشي - ككاتب هذا المقال ؟ أم أن السلطة وأبواقها تريد لأطفالنا أن يتحمّلوا مسؤولية التعبير عن الغضب بأجسادهم الندية بينما ينعمون هم في الغرف الفارهة وهم محاطون بالحماية التي يرعاها الاحتلال نفسه !
 
إن الصدور العارية التي تتلقى الرصاص بكل شجاعة في كل مواجهة مع الاحتلال تعبر عن مواقف بطولية وتبرز المعدن النفيس في أبناء فلسطين كما بقية أبناء الأمة، ولكن تلك المواجهات لا يمكن أن تكون الطريق الموصل للتحرير الفعلي واجتثاث كيان اليهود من جذوره وتحرير كل مساجد المسلمين وعودة الآذان لما هُجر أو استلب منها إذا لم تتحرك جيوش المسلمين.
 
وبينما يؤكد قادة كيان الاحتلال اليهودي أنهم يقومون على اليهودية، ويفرضون بالقوة دولة يهودية، ويحاربون باسم اليهودية، يحذّر ساسة السلطة من الحرب الدينية. كما يحذّر حكام المسلمين في كل مناسبة، لأنهم يخشون من تحرّك المسلمين على أساس عقيدتهم، إذ إن ذلك التحرك يعني -فيما يعنيه- كَنْس أولئك الحكام عن عروشهم في الطريق لاجتثاث يهود، ولا يمكن عند إعلان تلك الحرب أن تبقى سلطة تحت الاحتلال، ولا يمكن حينها أن يتمتع رجالات تلك السلطة بالمكاسب التي يرتعون بها.
 
إن الحرب بين يهود والمسلمين ليست صراعا يقوم على التحاجج حول الأحقية التاريخية بالأرض، رغم بطلان إدعاءات اليهود حول ذلك، وليست صراعا إداريا ونزاعا رمزيا على من يقدّم الخدمات، بل هي -كما تمارسها دولة يهود- حرب عقائدية، وهي حرب وجود.
 
ولذلك فإن مطالبة المجتمع الدولي والدعوة للضغط السياسي من قبل الأنظمة العربية في المحافل الدولية هي من باب التضليل والتفريط، وهي دعوة الضعيف لمواجهة المخرز بالكف الفارغة. وهي دعاوى المفلسين، الذين لا يملكون الحلول، أو الذين لا يجرؤون على التعبير عن الحلول الحقيقية، وخصوصا أن ذلك القرار اليهودي يأتي تأكيدا على إصرار الاحتلال على منطق الاستخفاف بالأمة الإسلامية وبحكامها.
 
إذاً غضبة السلطة هذه فارغة من مضمونها الإسلامي، وهي غيرة على حجارة لا على ما تعنيه تلك الحجارة، وهي غيرة على دور إداري لوزارة الأوقاف التي هي نفسها تحاصر المسلمين في صلوات الجمعة في المساجد عامة وفي المسجد الإبراهيمي خاصة. وهي ليست غضبة على ثقافة وحضارة ترتسم فوق معالم تلك الحجارة.
 
وإن مساجد فلسطين، وتاجها المسجد الأقصى، تئن لأمة إسلامية تمتد من اندونيسيا إلى المغرب مستنصرة من احتلال خبيث، لتحرير الإنسان من ثقافة الخيانة، وتحرير المساجد من تدنسيها من قبل المحتل، ومن خطباء السلاطين الذين يروجون لثقافة قبول المحتل وسلطة تحت الاحتلال.
 
والأمة يجب أن تعبر عن غضبة حقيقية تهز أركان الأنظمة التي تحمي وجود الاحتلال، ومن ثم تلقن الاحتلال البغيض أن كل قراراته لا تساوي الحبر الذي كتب بها، وأن الأمة الحية تصنع قراراتها بحبر من دمائها.