الدكتور ماهر الجعبري

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

كانت ساعة مباركة من بعد صلاة الجمعة، حيث تتوافد الأفواج في مدينة الخليل إلى قاعات المناسبات الصيفية، وكنت في رفقة قريب كان قد تقاعد من الشرطة الفلسطينية، عندما أوقفنا شرطي في قلب "دوّار" المرور، حيث يمنع القانون أن توقف السيارة فيه، ولكن يبدو أن الشرطيّ تعلّم "فقه الأولويات"، فقد كانت قافلة من سيارات الأجهزة الأمنية تعبر الجهة الأخرى، مستعرضة مؤكدة قدرتها على عبور شوارع الخليل في لحظة غياب لدوريات الاحتلال، فقدّم الشرطي أولوية ذلك "العبور" على قانون المرور.

ولكنّ قريبي لم يستطع السكوت وهو خلف المقود، فقال للشرطي يخاطبه مستنكرا أو معاتبا ومبينا حق المرور لمن هو داخل "الدوّار"، ثم قال في مرارة طفت على وجهه الأبيض "لم يبق أحد إلا وشتمنا".

كلام لم يرق لشرطي المرور الذي لم يستطع التعرّف على القائل، رغم ما تبدو على وجهه من علامات الثقة وظلال "المناضلين" القدامى، فبادره قائلا بلهجة تهديد: "أركن السيارة هناك". لم يلتفت الشرطي إلى أن هذا الرأس، الذي اشتعل شيبا، كان صاحب الأمر على مثله قبل أن يلتحق هذا الجديد بهذا الجهاز المتجدد.

لم يسكت قريبنا، ولم يسكت الشرطي، ثم توافدت أفراد الشرطة وتراكمت السيارات، وكرر شرطي آخر نفس لهجة التهديد، وكرر قريبي نفس الكلام دون أن تهتزّ ثقته، حتى جاء أحد ضباط الشرطة مسرعا معتذرا ومخاطبا قريبي: "عذرا يا سيادة العقيد"، وأنهى الموقف، بينما كرر قريبي المتقاعد كلماته: "يا عالم: لم يبق أحد إلا وشتمنا!"

لعل ضمير "نحن" في جملة قريبي تعود للشرطة أو للأجهزة الأمنية، ولعله يستحضر في مخيلته تلك القسوة التي تُقتحم فيها البيوت في قلقيلية: لم أسأله ولم يفصح. ولعل البعض يتوقع أنه يقصد بضمير الجمع أؤلئك المتقاعدين من أجهزة الأمن والشرطة، حيث قد يتعرضون اليوم لمثل هذه "التعديات" على أيدي "الدماء" الجديدة التي تلقّت التدريبات المميزة في الأردن قبل أشهر مع رجال الأجهزة الأمنية العراقية. لكنه في كل الأحوال، أكمل الطريق وهو يكاشف من يرافقه في سيارته، وهو يدرك في نفس الوقت أنه من جهة لا تقر هذا المشروع السياسي والأمني، ومع ذلك فكلاهما يوقن أن أخوة الإسلام أكبر وأعمق من التنافر ، وأنه لا يمكن أن ينظر لأفراد الأجهزة الأمنية، رغم اصطفاهم في الجهة الأخرى، إلا أنهم من أبناء الأمة، انحرفوا عن الطريق القويم، لعلّهم يستيقظون يوما.

انتهت القصة ولم يبدأ السؤال: فبغض النظر عن الجهة التي يعود عليها ضمير الجمع في جملة قريبي، وبغض النظر عن مستوى فهم ذلك الشرطي لضمائر الوصل في اللغة العربية، بل وبغض النظر عن مستوى فهمه لموضوع "الضمير!" عموما، هنالك مسألة هامة توجب التوقف عندها من رجال لا زالوا يعلّقون أوسمتهم وصورهم على الجدران وهو يحملون بنادق المقاومة، أو وهم ينشدون شعارهم القديم: "الأرض للسواعد الثورية التي تحررها": مسألة ذلك المصير المظلم الذي ينتظر السلم الأهلي، بعد أن داسته الأقدام، ومرت فوقه سيارات الأجهزة الأمنية: مسألة المشروع "الوطني" الذي حملوه والأيدي التي تلقفته.

ويكبر السؤال: هل صارت الأرض اليوم للسواعد الأمنية التي تلقت التدريب المميز في الأردن على أيدي "الخبراء" الأمريكيين ؟

سؤال لعله يدفع من لا يروقه مفهومه إلى أن يقول لصاحبه من جديد "أركن السيارة هناك"، وإن لم يأت ضابط واع عند تلك اللحظة، قد يدفع إلى ما هو أبعد من ذلك مما تدرّبت عليه تلك الأجهزة. ورغم ذلك، لا بد من السؤال: إن يصمت الجميع أمام هذه الاحتمالات من التهور، فمن للناس والبلاد؟

أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيب !

من يوقف عجلة التهور ؟ ومن يوقف ذلك التدهور ؟

بل من يوقف عجلات تلك السيارات عن العبور فوق أجساد الناس وهي "تطير" في الطرقات في استهتار لأرواح الناس ؟

فمن المؤسف أن تلك التدريبات المميزة في الأردن، لم تستطع أن تخرّج أفرادا من الشرطة يكونون قادرين على السواقة الماهرة: فقد أظل على الخليل حزن خاص صباح أمس عندما كانت إحدى تلك السيارات الأمنية تخرج على رصيف في الخليل فوق جسد طفل ندي في لحظة قيادة متهورة، بينما تصدم أخرى أجساد الناس في حادث مروري قرب قلقيلية: نفس المدينة الحزينة المبكية التي تسيل فيها الدماء تحقيقا للبند الأول من خارطة الطريق الأمريكية.

إذاً، على ماذا يتم التدريب الأمني ؟ وأين هو أمن الناس إذا كانت أجسادهم عرضة للعبور فوقها وإذا كانت كراماتهم عرضة للانتهاك عند أية جملة لا تروق للشرطي؟

بل أين تصب كلمات الوعظ والإرشاد من راعي المشروع الأمريكي ؟ فمن مفارقات الأيام أن يطل اوباما من القاهرة واعظا حول دور أمريكا الجديد نحو المسلمين، ونحو القضية الفلسطينية، بينما يطل "خبراؤه" في شوارع المدن عبر تدريباتهم !

صورة متناقضة تماما، كما عودتنا الرأسمالية الاستعمارية ! ولعل ذكر اسم ذلك الموظف الأمريكي المسئول عن التدريبات والتوجيهات يجعل فرصة صدور هذا المقال اقلّ حظا !

نعم، لعل هذا الكلام ممنوع في وسائل الإعلام ... ولعل هذا المقال لا يرى النور في وسائل إعلام أدركت تماما ما يرضي صاحب الشرطة الأمنية وما يغضبه ... ومن ثم ما يرضي الواعظ اوباما وما يغضبه. ومع ذلك فالعيون محتقنة بدموع الحزن على الأجساد الندية التي تسقط تحت مشوار التهّور الأمني، والله سائل الجميع عن عمله وموقفه، قبل أن تسأله الجهات الأمنية والسياسية عن مقالاته وعن إعلامه.

فلك الله يا فلسطين الندية ! ولكم الله يا أهل فلسطين ... حتى يستيقظ رجال الأمة الأبرار الذين بيدهم أن يعيدوا الأرض للمسلمين وتحت سلطانهم لا أن يعيدوا "أناسا" للأرض تحت سلطان عدوهم.

وإذا صارت الحياة اليوم تعني قبول الصَّغار والذلة فالموت في رفض الصَّغار أحلى طعما! فليرحم الله من ماتوا ومن عاشوا.