فتح والغطاء السياسي للأجهزة الأمنية !
الدكتور ماهر الجعبري
 
كنت باستمرار أحرص على فصل الأشخاص عن المواقف السياسية، وأحرص على فصل الحركات عن النظام السياسي، لأن ذلك أمر هام للحفاظ على حالة السلم الأهلي، وهو بناء مبدئي على أساس العلاقة العقدية الصحيحة التي تربط أهل فلسطين، بغض النظر عن انتماءاتهم الفصيلية أو "الفصائلية"، وبغض النظر عن قبول بعضهم التكسب بالمواقف السياسية أو بالأعمال "الأمنية". وفي حياتي الاجتماعية الكثير من "الأصحاب!" ممن ينتمون لحركة فتح، والكثير منهم ودودون في التواصل الاجتماعي.
 
ولكنّ ذلك الحرص بدأ يتبخّر في نفسي لأول مرة في حياتي أمام صورة ذلك الطبيب "الأمني" الذي يرتدي لباسا عسكريا بنجمتين على كتفه، مع مرافقه ذي النجمة الواحدة، وهو يجادلني جدال الضابط بدل أن يحاورني حوار الطبيب الرؤوف أمام مشهد دمائي التي سالت، وبدل أن يستكشف الجروح في جسدي بلمسة الطبيب الناعمة، وبدل أن يتحقق من وجود كسور في عظمي بأنامل "إنسانية" قبل أن تكون "فلسطينية"، وذلك بعد الاعتداء الوحشي الذي تعرضت له على أيدي أفراد قفزوا من سيارتين مدنيتين ظلتا تتبعان سيارتي، وبعد أن أصاب رصاصهم سيّارتي، وبعد أن صدموها من الخلف لتنحرف عن مسارها المروري، لعل ذلك يسهم في حرفي عن مساري السياسي.
 
 
صور اختراق عيار ناري وتحطيم لسيارة الكاتب من قبل الأجهزة الأمنية – الاثنين 21/12/2009
 
كنت في جدالي مع الطبيب ومع من قبله في مقرّهم الأمني الذي اقتادوني إليه، أطلب تصوير الحالة الدموية التي يشاهدونها قبل أي عمل طبي، وبعدما انتظرت الطبيب لما يقرب من ساعتين، رافضا أن تلمس جروحي قبل التصوير للتوثيق، لم يستجب أحد لطلبي. وخلال ذلك الموقف تذكرت زملاء الدراسة الذين كانوا يرفعون شعارات "النضال"، ويحاججون الساعات الطوال حول سمو "مشروعهم الوطني"، وقلت في نفسي، لا بد أن هذا الطبيب، وعندما كان يدرس في إحدى الجامعات في بلاد الله الواسعة، كان صاحب شعارات "نضالية"، وربما كان من كوادر تلك الحركة الوطنية. أمّا الآن فهو يتحدث لغة "أمنية" أمامي، إذ قد يعتبرني خصما أمنيا لذلك "المشروع الوطني".
 
وقد صرت أكثر إصرارا على موقفي السياسي بأن هذا المشروع الوطني لا يمكن أن يعبر عني، ولا يمكن أن اعترف بما يفرزه، ولا يمكن أن يكون للحفاظ على أمني، وخصوصا بعدما اخترق رصاصه سيارتي بالقرب من حجرة البنزين، لعلها تفجرها بمن حملت، وبما حمل من أفكار "تهدد" ذلك المشروع.
 
تلك الحالة من تصادم المفاهيم وتضاد المشاعر جعلتني خلال المواجهة السياسية في ذلك المقر أتعهد بأن أتوقف عن استخدام تعبير "الشرفاء في فتح" في مقالاتي وفي حديثي. بل وجعلتني أستحضر تعبير الإعلامي ناصر اللحام، حول تكسّر البلور الثوري، وخصوصا وأنا أجد نفسي في قبضة من يعتبرون أنفسهم مناضلين: فأين هو ذلك الكرستال الثوري الذي كان يلمع في عيون البسطاء ليستقطبهم نحو مواجهة الاحتلال بعدما تحولت المواجهة ضد من يرفض الاعتراف بالاحتلال؟
 
سؤال يصعب على الكوادر وعلى القيادات في حركة فتح، وسيستمر القلق الداخلي الذي يجتاح أؤلئك الذين وجدوا أنفسهم ينفذّون ذلك المشروع ويروّجون له بعدما انطفأ كل ما كان يمكن أن يبرق أو يلمع فيه. بل وبعدما صارت الحركة ورقة التوت التي تستر عورة انكشاف البلور الثوري أمام المشروع الأمني.
 
وفي هذا الخضّم، لا يمكن أن يتبرأ الذين اتَبعوا من أفعال الذين اتُبعوا، ولا أن يتبرّأ الذين وفّروا الغطاء السياسي من الذين نفذوا، ولا حتى الذين وفروا الغطاء الاجتماعي من الذين اعتدوا. ومن هنا كان طبيعيا أن أنقل تعهدي بأني سأتوقف عن استخدام تعبير الشرفاء في فتح، لمن زارني ممن أعرف من حركة فتح، مع ما في الأمر من قسوة اجتماعية لم أعتد عليها، بينما أعجبتني وصلة لجملتي أضافها أحد أصدقائي على تعهدي ذاك، بالقول "حتى يأتي غير ذلك"، استنهاضا منه لمن كان له قلب منهم أن لا يصمت.
 
وطارت رسالتي، لتصل إلى اتجاهاتها، ولم يصل الجواب، إلا من باب أضعف الإيمان في بيان شجب واستنكار من نقابة العاملين في جامعتي، لم يجرؤ على الخروج من حدود أسوارها. بينما وضعت نقابة المهندسين ذات الصبغة الفتحاوية أصابعها في آذانها واستغشت ثيابها بعد اتصالي –كمهندس منذ ما يزيد عن عشرين عاما- بنقيبها في الخليل، وتأكيدي له أنني "سأعتبرهم فئويين إن صمتوا أمام الجرم".
 
واستمرت نقابة المهندسين "الفتحاوية" بالتواصل والمراسلة بأحاديث نسوية حول أخبار المهندسين ممن تزوّج وممن أنجب، متناسية أخبار الرجال والأحوال، لتكشف عن عوار حالة الفئوية التي تتجذّر في هذه البلاد أمام تقدّم ذلك المشروع الوطني، ولتبيّن أن لحاقها بالنقابة –الأم- في الأردن أمر بعيد المنال، وأن الرجال ليسوا كالرجال. وها أنا ذا على وعدي للنقيب في الخليل عندما اتصلت به، أكشف ذلك الموقف "الفئوي" للنقابة في أول مناسبة إعلامية لي.
 
وكواحد من أهل هذه البلد الذين يرفضون إلا أن يكونوا فوق ترابها أو تحته، بل كواحد استنشق أول جرعة من هوائه في القدس، التي أصبحت مجرد ملف في هذا المشروع الوطني، سأستمر في العمل لتحقيق مشروع "حضاري" يُرجع مسقط رأسي جزءا من خلافة على منهاج النبوة، تعيد الأمور إلى نصابها، والبلاد إلى أصحابها، وتلقّن كل "أجنبي" ومستعمر ينفق أمواله ليصد عن تحقيق ذلك المشروع الحضاري دروسا في معاني العزة والإباء. ومن ثم لتقتص لي ولغيري - من ظُلم من أبناء المسلمين- ممن ظَلم وجار.