بسم الله الرحمن الرحيم
جواب سؤال
واقع إيران بالنسبة للسياسة الأمريكية؟
السؤال:
ما هو واقع إيران بالنسبة للسياسة الأمريكية؟ وبعبارة أخرى هل لإيران مشروع في أحداث المنطقة مستقل عن أمريكا ثم هل نستطيع القول إن لإيران رسالة في المنطقة وهي المذهب الجعفري؟ وأخيراً ما هو موقف أمريكا الحقيقي من السلاح النووي الإيراني؟
الجواب:
للإجابة على ذلك علينا أن نستعرض باختصار واقع النظام الإيراني وسير سياسته منذ اندلاع الثورة وإعلان الجمهورية وعلاقة كل ذلك بأمريكا:
1- إن دور أمريكا في الثورة الإيرانية كان واضحاً منذ بداياتها، فخلال وجود الخميني في فرنسا في "توغل لوشاتو" زاره موفدون من البيت الأبيض وتم الاتفاق على تعاون الخميني مع أمريكا، وقد تحدثت يومئذ الصحف الأمريكية عن ذلك وعن الاجتماعات التي حصلت هناك... وقد كشف ذلك مؤخراً أول رئيس للجمهورية الإيرانية أبو الحسن بنو صدر في تاريخ متأخر وبالضبط في 1\12\2000 مع قناة الجزيرة بأن موفدين من البيت الابيض جاءوا إلى "توغل لوشاتو" في فرنسا حيث يقيم الخميني واستقبلهم يزدي وبازركان وموسوي وأرديبيلي... وكانت هناك لقاءات كثيرة بين الطرفين وأشهرها لقاء أكتوبر الذي جرى في ضواحي باريس ووقعت فيه اتفاقات بين جماعة ريغان وبوش وجماعة الخميني. حيث صرح الخميني بأنه على استعداد أن يتعاون مع أمريكا بشرط ألا تتدخل في شؤون إيران الداخلية". بعد ذلك عاد الخميني في 1\2\1979 على متن طائرة فرنسية ليحط في طهران، فضغطت أمريكا على شاهبور باختيار ليسلم الحكم للخميني وهددت قادة الجيش الإيراني إذا اعترضوا سبيل الخميني، ومن ثم أصبح الخميني هو المرشد وهو الحاكم، وتم إعداد دستور مثل الدساتير الموجودة في البلاد الإسلامية الأخرى وفق الأنظمة الغربية الرأسمالية، فدستور إيران فيه محاكاة للدساتير الغربية، فنظام الحكم جمهوري والتقسيم الوزاري وعمل البرلمان وموضوع فصل السلطات وموضوع الصلاحيات فيها، كله وفق الأنظمة الرأسمالية. أما ما ورد فيه عن أن "الدين الرسمي لإيران الإسلام والمذهب الجعفري الاثنا عشر"، فهو كالموجود في أغلب الدساتير في البلاد الإسلامية وهي لا تعني أن الدولة قائمة على أساس الإسلام أو رسالتها حمل الإسلام، بل تتعلق بالمراسيم والأعياد وما يتعلق بما يقتضي العمل به تجاه الناس بخصوص اعتقاداتهم وعباداتهم وما يتعلق ببعض أمور حياتهم. ولم ينص الدستور الإيراني على أن هذا الدين أو هذا المذهب هو رسالة للدولة أو هدف للسياسة الخارجية التي هي وطنية وقومية، وتسير حسب المنظومة الدولية الحالية من انتساب إلى المنظمات الدولية والإقليمية القائمة على أساس النظام الرأسمالي مثل عضويتها في الأمم المتحدة وفي منظمة التعاون الإسلامي، وكافة العلاقات الدولية لديها لم تقم على أساس الإسلام. ومن هنا فإنه لا يلاحظ على أن للدولة في إيران رسالة خاصة أو مشروعا معينا منبثقاً عن الإسلام، بل يلاحظ على واقع النظام الإيراني صبغته القومية والوطنية، وهي تنعكس على سياسته التي تكمن في الحفاظ على النظام القائم وعلى كيان الدولة وأراضيها. ولقد اتصلنا في بدايات الثورة بالخميني ونصحناه بعدم التعاون مع أمريكا، وبإعلان دستور إسلامي وبيّناه له، ووثَّقناه في كتاب أرسلناه إليه نفصل فيه نقض الدستور الإيراني، ولكنه لم يأخذ بالنصح واستمر بدستور يخالف الإسلام، وفي نظام جمهوري على النسق الغربي الرأسمالي.
2- وأما مسألة المذهب الذي حددته كمذهب رسمي للنظام فلم تحدده كرسالة ومشروع تحمله، وهي لم تؤسس نظامها على هذا المذهب، ولم تضع دستورها على أساسه، وليست مواده مأخوذة منه، بل إن المواد الأساسية التي تتعلق بنظام الحكم والسياسة الخارجية وما يتعلق بالجيش والأمن مأخوذة من النظام الرأسمالي، فهي تشبه النظام السعودي الذي يستغل المذهب المنتشر في بلاد الحجاز "المذهب الحنبلي" ونجد لتحقيق مصالح النظام. غير أن إيران تستغل الناحية المذهبية لكسب الأتباع والمؤيدين لها أو المستعدين للعمل معها، وتثار لديهم النعرة العصبية المذهبية وبذلك يسهل استخدامهم لمصالحها الوطنية وليس لخدمة المذهب الجعفري أو خدمة الشيعة بدليل أنها لا تنصر الشيعة أو المذهب الجعفري إلا حيث المصالح الوطنية الإيرانية، وإذا كانت العلمانية تخدمها فتضع الإسلام والشيعة والمذهب وراء ظهرها، فهي تدعم النظام العراقي والنظام السوري وهي أنظمة علمانية وتابعة لأمريكا، وبما أن الشيعة يتواجدون بشكل رئيسي في المحافظات الشرقية في المملكة العربية السعودية، ولكون تلك المناطق تحتوي أيضاً على حقول النفط السعودية، فقد دعمت إيران في عدد من المناسبات انتفاضات هناك من أجل إضعاف السعودية. واستخدمت سياسة مماثلة في البحرين ما دعا السعودية لإرسال قواتها إلى البحرين...
ولا تهتم إيران بالناحية المذهبية إذا تعارض ذلك مع مصالحها الوطنية، فأذربيجان منذ أرادت أن تتحرر من قبضة الاتحاد السوفياتي في نهاية عام 1989 وقام الناس بكسر الحدود مع إيران للوحدة معها، وجرت لهم مذابح في بداية عام 1990 من قبل المهاجمين الروس الذين دخلوا باكو لمنع إقامة نظام غير تابع لهم هناك والإتيان بعملائهم من الشيوعيين القدامى إلى الحكم، ومع ذلك فلم تقم إيران بمساعدة أهل أذربيجان في وجه هذه الهجمة الروسية التي تنتهك حقوق المسلمين الذين أرادوا التحرر من النير الروسي ومن براثن الشيوعيين، مع العلم أن أغلبية سكان أذربيجان مسلمون من أتباع المذهب الرسمي لإيران. ولم تساعد أذربيجان في وجه الأرمن الذين ساندهم الروس في احتلال حوالي 20% من أذربيجان عام 1994 وهجروا أكثر من مليون أذاري من أراضيهم وما زال هذا الوضع المأساوي قائما هناك. بل إن إيران طورت علاقاتها مع أرمينا على حساب أذربيجان! ولم تكتف إيران بذلك بل دعمت تيارات ليست لها علاقة بالإسلام مثل تيار ميشيل عون أو حركات علمانية كحركة نبيه بري وغيرهما في لبنان من السائرين في ركاب أمريكا.
3- جميع الأعمال السياسية في المنطقة التي قامت بها إيران كلها واقعة بتوافق وانسجام مع المشاريع الأمريكية:
أ- ففي لبنان أسست حزبا لها من أتباع مذهبها وسلحته فأصبح جيشا خاصا هناك منفصلا عن الجيش اللبناني، واعترف النظام اللبناني به وبسلاحه، مع العلم أن النظام اللبناني نظام علماني يتبع السياسة الأمريكية. ولم يسمح النظام اللبناني لغيره من الأحزاب بحمل السلاح أو لم يعترف بسلاح الأحزاب الأخرى. وقام حزب إيران في لبنان بدعم النظام السوري المرتبط بأمريكا كما فعلت إيران، ولم تمنع أمريكا النظام اللبناني من السماح لحزب إيران بالتدخل في سوريا لإسناد نظام بشار أسد العلماني فيها، بل هناك موافقة أمريكية ضمنية على تدخل هذا الحزب في سوريا دون أن يعترضه الجيش اللبناني.
ب- وعندما احتلت أمريكا العراق لاقت مقاومة لم تتوقعها فأدخلت إيران إلى العراق لتساعدها بالتأثير على المنتمين لمذهبها لتؤثر عليهم وتحول دون تحركهم ضد الاحتلال، بل تجعلهم يقفون ضد المقاومة، ويتصدون لها ويعطون مشروعية للاحتلال وللنظام الذي أقامته هناك، وخاصة بعد عام 2005 عندما سمحت أمريكا بوصول ائتلاف الأحزاب المؤيدة لإيران للوصول إلى الحكم برئاسة إبراهيم الجعفري ومن ثم المالكي، وهذه الحكومات مؤسسة من قبل أمريكا ومرتبطة بها، وقد وقعت حكومة المالكي التي تساندها إيران الاتفاقيات الأمنية والاستراتيجية مع أمريكا للحفاظ على نفوذها بعد انتهاء احتلالها للعراق بصورة رسمية، ما يدل على الرضى الأمريكي عن الدور الإيراني الذي اعترف مسؤولوه بالتعاون مع أمريكا في احتلال العراق وفي العمل على تأمين الاستقرار للنفوذ الأمريكي في العراق. وقد فتحت إيران لها سفارة في العراق مباشرة بعد الاحتلال، وما أن انتخب الجعفري حتى قام وزير خارجية إيران حينئذ كمال خرازي بزيارة بغداد عام 2005 وهي في ذروة الاحتلال. وأدان الجانبان أعمال المقاومة للاحتلال تحت مسمى إدانة الإرهاب في العراق. وزيارة الجعفري لإيران وتوقيع اتفاقيات عديدة منها اتفاقية تعاون في المجال الاستخباراتي بينهما لإرساء الأمن ومراقبة المعابر والحدود وربط البصرة بشبكة الكهرباء الإيرانية وإنشاء خط أنابيب نفط بين البصرة وعبدان. وقام الرئيس الإيراني نجاد بزيارة للعراق في بداية عام 2008 وهي تحت حراب الاحتلال المباشر. وكثيرا ما كان أحمد نجاد يثير زوبعة بتصريحاته ضد أمريكا وضد كيان يهود، ولكنها لم تتجاوز مجرد القول الذي لا يتبعه الفعل. وفي ذات الوقت كان نجاد من أكثر الرؤساء الإيرانيين تقاربا في السير في الخط الأمريكي من زياراته للعراق وهي تحت الاحتلال الأمريكي وقبل أن يغادر الحكم بأسبوعين جدد زيارته للعراق لتجديد الدعم لنظام المالكي التابع لأمريكا والذي يحافظ على النفوذ الأمريكي فيها. وكذلك قام نجاد بزيارة أفغانستان عام 2010 وهي في ظل الاحتلال الأمريكي وقدم الدعم لنظام كرزاي خادم الاحتلال الأمريكي.
ج- وفعلت ذلك في اليمن حيث كسبت جماعة الحوثي وسلحتهم وقاموا ضد نظام علي صالح عميل الإنجليز، وتدعم القائمين على الحراك الجنوبي العلماني في اليمن من دعاة الانفصال وهم من عملاء أمريكا أيضا لإيجاد نظام علماني في جنوب اليمن موال لأمريكا.
د- أما علاقة إيران بالنظام السوري فهي قديمة منذ اندلاع الانتفاضة الأولى في بداية الثمانينات من القرن الماضي، حيث أيدت النظام السوري في قمعه لأهل سوريا المسلمين في تلك الحقبة، وذلك للمحافظة عليه ضمن المشروع الأمريكي الداعم للنظام بقيادة عملائها آل الاسد، وهي تعلم أنه نظام علماني بعثي قومي صنو نظام صدام الذي كانت تحاربه وليس له علاقة بالإسلام، بل يحارب الإسلام وأهله، وهي تدرك أنه مرتبط بأمريكا، فلم تتول الدفاع عن حقوق المسلمين، بل فعلت العكس فحاربتهم ونصرت نظام كفر إجراميّاً وما زالت تفعل ذلك. والنظام الإيراني يحافظ على علاقات وثيقة مع القيادة السورية، وشملت هذه العلاقات العسكرية والاقتصادية والسياسية. وقد نقلت إيران أسلحة كثيرة لدعم نظام الأسد وقدمت له النفط والغاز بأسعار مخفضة نظرا لعدم وجود احتياطيات للطاقة في سوريا، ويمكن ملاحظة العلاقات السياسية بشكل خاص في التدخل الإيراني في الانتفاضة السورية عندما كان نظام الأسد على وشك الانهيار، ولولا التدخل الإيراني من خلال إرسال قوات من الحرس الثوري، وقوات حزب إيران ومليشيات المالكي التابعة لإيران، لولا ذلك لانهار بشار ونظامه، ومجازر القصير وحمص واليوم مجازر الغوطة الكيماوية وغيرها شهود على ذلك التدخل.
هـ- وفي أفغانستان دعمت إيران الاحتلال الأمريكي ودعمت الدستور الذي وضعته والحكومة التي شكلتها برئاسة كرزاي وذلك خدمة لأمريكا، وقد قامت إيران بتأمين شمال البلاد عندما فشلت أمريكا في هزيمة طالبان. وقد ذكر رئيس الجمهورية الإيرانية السابق رفسنجاني "لو لم تساعد قواتنا في قتال طالبان لغرق الأمريكيون في المستنقع الأفغاني". (جريدة الشرق الأوسط 9\2\2002). وذكر محمد علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني السابق خاتمي للشؤون القانونية والبرلمانية في مؤتمر الخليج وتحديات المستقبل الذي عقد في إمارة أبو ظبي مساء يوم 13\1\2004 قال: "لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة. لكننا حصلنا على مكافأة وأصبحنا ضمن محور الشر"! (إسلام أون لاين نت 13\1\2004). وكان الرئيس أحمد نجاد قد كرر مثل ذلك وهو في زيارته لنيويورك لحضور اجتماعات الأمم المتحدة في لقاء له مع صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 26\9\2008 حيث قال: "إن إيران قدمت يد العون للولايات المتحدة فيما يتعلق بأفغانستان وكانت نتيجة هذه المساعدات توجيه الرئيس الأمريكي تهديدات مباشرة لشن هجوم عسكري ضدنا. كما أن بلادنا قدمت مساعدات لأمريكا في إعادة الهدوء والاستقرار إلى العراق".
4- وأما مسألة البرنامج النووي فهي تراوح مكانها منذ سنين رغم أن كيان يهود بدعم وتشجيع أوروبي هدد أكثر من مرة عبر هذه السنين بضرب هذا البرنامج، إلا أن أمريكا وقفت في وجه كيان يهود ومنعته من تحقيق ذلك. وما زالت حتى اليوم تمنع هذا الكيان... فقد قام رئيس الأركان الأمريكي الجنرال مارتن ديمبسي في 12\8\2013 بزيارة لكيان يهود لهذا الغرض، فنقلت وكالة كونا الكويتية في 12\8\2013 عن إذاعة جيش كيان يهود قولها بأن: "زيارة ديمسي تأتي بعد أيام من زيارة مماثلة سرية استمرت أسبوعا كاملا قام بها قائد سلاح الجو الأمريكي مارك ويلتش "لإسرائيل" والتي امتنع الطرفان عن الحديث تماما عن طبيعة ما دار فيها من مباحثات. وظلت زيارة ويلتش طي الكتمان بطلب من الجانب الأمريكي وذلك وسط التوتر في المنطقة وعلى خلفية التهديدات الإسرائيلية بضرب إيران". وأضافت وكالة كونا: "ويعتقد محللون أن قائد الجيش الأمريكي سيحاول إقناع مضيفيه بالامتناع عن اتخاذ قرارات دراماتيكية في المستقبل القريب ضد إيران لإعطاء الديبلوماسية فرصة بعد تنصيب حسن روحاني رئيسا لإيران". فأمريكا سمحت لكيان يهود بضرب المفاعلات النووية العراقية التي كانت قيد الإنشاء على عهد صدام عام 1981، ولكنها تمنع هذا الكيان من ضرب مفاعلات إيران النووية التي بدأت بتخصيب اليورانيوم حتى وصلت نسبة التخصيب 20%، ما يدل على أن من مصلحتها الحفاظ على النظام الإيراني الذي يعمل لصالحها في المنطقة، وتريده أن يبقى بُعبعا يخيف دول الخليج حتى تركز نفوذها في هذه الدول، وتعمل على استخدامه للحفاظ على نفوذها في منطقة العالم الإسلامي.
وبالرجوع إلى الخلف قليلاً نجد أن واقع المحادثات النووية منذ بدايتها في عام 2003م هو أنّ أمريكا كانت تركز على العقوبات دون اتخاذ أي إجراء فعلي ضد المنشآت النووية، وأحبطت الاتحاد الأوروبي وأغضبت دولة يهود، وفي كل مرة يتم إجراء المحادثات تعرض أمريكا العقوبات الإضافية كحل للمسألة دون أي إجراء عسكري. وقد تدخلت أمريكا مراراً لتهدئة المخاوف "الإسرائيلية"، فأمريكا تريد النظام الإيراني قائماً، وأن تبقى القضية النووية مثارة بحيث لا تصل إلى القنبلة النووية وفي الوقت نفسه لا تحسم نهائياً، بل تبقى كما قلنا بُعبعاً يخيف دول الخليج توطئة لاستمرار قوات أمريكا العسكرية في الخليج، بالإضافة إلى استغلال أمريكا لها في نصب الدرع الصاروخي في تركيا، وفي أوروبا الوسطى بحجة ردع السلاح النووي الإيراني والحماية منه! هذا فضلاً عن تبرير زيادة ميزانية وزارة الدفاع.
5- أما بالنسبة لما يظهر من عداء على السطح بين أمريكا وإيران فيمكن أن يفهم كما يلي:
أ- كانت الأجواء مشحونة، والرأي العام محشوداً ضد أمريكا قبل الثورة وبعدها، واعتبرت هي المسؤولة عن مآسي الشعب واتهمت بدعمها للشاه ولمظالمه ووصفت بأنها الشيطان الأكبر، ولذلك لم يستطع حكام إيران أن يعلنوا عن استئناف المحادثات بين الطرفين بشكل مباشر ومن ثم استئناف العلاقات الدبلوماسية، وبخاصة وأن اتصالات أمريكا بالخميني في باريس، وضغط أمريكا على الجيش الإيراني لكي لا يتدخل ضد ثورة الخميني... كل ذلك لم يكن سراً، ولهذا كان النظام الإيراني بحاجة إلى أحداث ساخنة مع أمريكا لإيجاد مبررات الجلوس معهم، فكانت حادثة الرهائن في السفارة الأمريكية في 4\10\1979 ما ترتب عليها قطع العلاقات الديبلوماسية بين إيران وأمريكا لتقوي من موقف الخميني وتضرب معارضيه وتغطي على حقيقة العلاقات بين الطرفين، وقد ذكرت فيما بعد مصادر أمريكية بأنها كانت مسرحية أمريكية مرتبة، وكذلك ذكر الحسن بنو صدر في مقابلته مع الجزيرة المشار إليها أعلاه بأن "ذلك كان اتفاقا مع الأمريكيين ومن تخطيطهم وأنه قَبِل ذلك بعدما أقنعه الخميني به". وقد وقع الطرفان على ما عرف باتفاق الجزائر في 20\1\1981 وأفرج بموجبه عن الرهائن، وحصل ذلك في اليوم الذي تولى فيه الرئيس الأمريكي ريغان مقاليد الحكم في أمريكا، وقد اعترفت أمريكا ضمنيا بالنظام الجديد بقيادة الخميني عندما نص هذا الاتفاق على إلزام الطرفين بالاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون كل طرف والحفاظ على مصالح البلدين من خلال تعيين وتوكيل طرف ثالث ومن ثم إعادة 12 مليار من الدولارات التي طالب بها النظام الجديد من الأرصدة المجمدة لإيران..
ب- وقد عمل الحكام في إيران منذ زمن على تهيئة الأجواء لاستئناف هذه العلاقات، مع أن الاتصالات السرية جارية بينهما والتعاون جار بينهما كما كشف المسئولون الإيرانيون أنفسهم، واستمروا على ذلك... وكأنَّ الإبقاء على هذا الوضع بين البلدين يفيدهما؛ حيث تظهر إيران كأنها معادية لأمريكا فتغطي على تعاملها وعلى سيرها معها ضمن مشاريعها الاستعمارية، وتكون عاملا مساعدا لتنفيذ تلك المشاريع، وتظهر أمريكا كأنها معادية لإيران وتعمل ضدها فتضبط الأوروبيين ويهود، وتخدع الرأي العام المعادي لإيران في أمريكا والغرب لتحقيق مصالحها في المنطقة. وقد اتُّهِم بعض الحكام الذين تولوا المناصب على أثر إعلان الجمهورية من قبل الإيرانيين بالعمالة لأمريكا مثل رئيس الجمهورية بني صدر فأُسقِط بسبب وجود تيار قوي معارض يومئذ للعلاقة مع أمريكا فعمل على إسقاطه. ولكن رئيس الجمهورية رفسنجاني وقد تكشفت حقائق عن علاقته بأمريكا مثل إيران غيت وإيران كونترا، ولكنه لم يسقط لأنه لم يعد مثل هذا التيار آنئذ موجودا. وقد تعاقب رؤساء جمهورية عديدون يوصفون أحيانا بالإصلاحيين والمعتدلين، وأحيانا بالمحافظين والمتشددين ولكن لم يشاهد تغير في السياسة الإيرانية رغم تشدد الخطاب أحيانا ولينه أحيانا أخرى، ويبقى عبارة عن أقوال لا تتبعها أفعال ولا تنطبق على الوقائع. وكذلك الموقف الأمريكي تجاه إيران لم يتبدل رغم تشدد الخطاب أحيانا من قبل الجمهوريين ووضعها في قائمة دول محور الشر أو لينها من قبل الديمقراطيين، ولكن لم تتخذ أمريكا تجاه إيران أية خطوات حاسمة وجادة. وعندما شكّل الرئيس الإيراني الجديد روحاني الحكومة قال: "إن حكومته ستتبنى في سياستها الخارجية منع التهديد والقضاء على التوترات" (رويترز 12\8\2013). واختار "محمد جواد ظريف لمنصب وزير الخارجية وهو سفير سابق بالأمم المتحدة تلقى تعليمه في الولايات المتحدة وكان مشاركا بشكل أساسي في جولات عدة من المفاوضات السرية لمحاولة التغلب على تدني العلاقات بين واشنطن وطهران" (رويترز 12\8\2013). وقد صرح روحاني بعد انتخابه بشكل أكثر صراحة عندما قال: "نحن لا نريد رؤية المزيد من التوتر بين إيران والولايات المتحدة. تخبرنا الحكمة أن كلا البلدين يحتاج لأن يفكر أكثر في المستقبل وأن يحاول الجلوس لإيجاد حلول لقضايا سابقة واعادة تصحيح الأمر" (رويترز 17\6\2013). فرد عليه الرئيس الأمريكي أوباما قائلا: "تبقى الولايات المتحدة مستعدة للانخراط في محادثات مباشرة مع الحكومة الإيرانية بهدف التوصل إلى حل دبلوماسي يتعامل بشكل كامل مع قلق المجتمع الدولي حول برنامج إيران النووي" (المصدر نفسه)، ما يعني أن إيران تريد أن تنهي مرحلة سيرها السري مع أمريكا، وتبدأ بمرحلة السير العلني معها، ولكن بأشكال مختلفة حيث تظهر كأنها دولة مؤثرة إقليميا يجب إشراكها في قضايا المنطقة.
6- وبناء على ما ذكرناه أعلاه فإننا نخلص إلى ما يلي:
إن مسألة المذهب الذي حددته إيران كمذهب رسمي للنظام فلم تحدده كرسالة ومشروع تحمله، وهي لم تؤسس نظامها على هذا المذهب، ولم تضع دستورها على أساسه، وليست مواده مأخوذة منه، بل إن المواد الأساسية التي تتعلق بنظام الحكم والسياسة الخارجية وما يتعلق بالجيش والأمن مأخوذة من النظام الرأسمالي، فهي تشبه النظام السعودي الذي يستغل المذهب المنتشر في بلاد الحجاز "المذهب الحنبلي" ونجد لتحقيق مصالح النظام. وأما السياسة الخارجية لإيران فهي منسجمة مع المصالح الأمريكية في المنطقة، وكذلك في الشرق الأوسط الكبير والبلدان الإسلامية، فمثلاً قامت طهران بمساعدة واشنطن في تحقيق الاستقرار للاحتلال الأمريكي في العراق وأفغانستان على مدار العقد الماضي أو نحو ذلك، وقامت أيضاً عن طريق حزبها في لبنان لرسم المشهد السياسي في لبنان، وفي الآونة الأخيرة تعاونت للحفاظ على الهيمنة الأمريكية في سوريا من خلال دعم الأسد. وبالتالي، فإنّ إيران تعمل في أفغانستان وسوريا ولبنان والعراق لخدمة المصالح الأمريكية. أما خارج المنطقة فيمكن القول بأنّ أمريكا نجحت في استغلال سلوك إيران في الترويج لبرنامج الدرع الصاروخي الخاص بها وربط دول مجلس التعاون الخليجي في اتفاقات أمنية غير متوازنة، وكذلك بيع دول الخليج أسلحة بمليارات من الدولارات خوفا من إيران!
فإيران تسير مع أمريكا وهي تدرك معنى سيرها هذا وتعرف حدودها، فلا تتجاوزها ولو رفعت من نبرة الخطاب للتضليل أو للتغطية على الحقيقة كما حصل في فترة نجاد التي شهدت خدمة كبيرة لأمريكا في أفغانستان والعراق وسوريا، ولذلك فإن أمريكا ترى النظام في إيران خادماً لمصالحها بدرجة كبيرة حتى إن دوائر صناعة القرار في أمريكا لا ترى من داع للعمل على تغيير النظام، وهذا ما صرح به في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2008م، روبرت غيتس في مؤتمر أمني دولي في البحرين حول العلاقات بين أمريكا وإيران وما يجب أن تكون عليه، وقال: "لا أحد يسعى إلى تغيير النظام في إيران... وما نحن بصدده هو إحداث تغيير في السياسات والسلوك، بحيث تصبح إيران جارة جيدة للدول في المنطقة، بدلاً من أن تكون مصدراً لعدم الاستقرار والعنف."
14 من شوال 1434
الموافق 2013/08/21م