بسم الله الرحمن الرحيم
جواب سؤال
بوركينا فاسو والانقلابات التي تسارعت مؤخرا فيها
السؤال: نشرت الجزيرة.نت على موقعها في 4/2/2023 أن قائد المجلس العسكري في بوركينا فاسو إبراهيم تراوري أكد (أن بلاده لن تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع فرنسا)، فكيف نفهم هذا مع ما صرح به المتحدث باسم الحكم الانتقالي في بوركينا فاسو بتاريخ 21/1/2023: (حكومة بوركينا فاسو قررت إنهاء الاتفاق العسكري مع فرنسا والذي يتيح لقواتها الوجود على أراضي واغادوغو رغبة منها أن تتولى قواتها الدفاع عن نفسها، وطلبت مغادرة القوات الفرنسية خلال شهر)؟ ثم لماذا اتخذ الحكم الانتقالي في بوركينا فاسو هذا القرار؟ علما أن الحكم الانتقالي أُعلن بعد انقلاب على انقلاب. فمن كان يقف وراء هذا الانقلاب؟ وما علاقة كل ذلك بالصراع الدولي؟ ثم هل بوركينا فاسو بلد إسلامي؟ وكم نسبة المسلمين فيه؟
الجواب: سنستعرض واقع بوركينا فاسو والانقلابات التي تسارعت مؤخرا فيها، وأبدأ بكونه بلداً إسلامياً:
1- إن بوركينا فاسو هي دولة في غرب أفريقيا، وهي بلد إسلامي، فحسب إحصاء 2006 أكثر من 60.5% من سكانها مسلمون، ونحو 23% من النصارى، ثم تقاليد أخرى... وقد كانت ضمن ممالك إسلامية تكونت بعد تفتت مملكة مالي، حتى خضعت أخيراً للاستعمار الفرنسي أيام تقدمه في أفريقيا وفق معاهدة سنة (1314هـ-1896م)، وضمت لمستعمرة السنغال العليا، ثم أصبحت مستعمرة منفردة في سنة (1335هـ-1916م)، وعرفت بفولتا العليا. وعندما قام المسلمون في فولتا العليا بمحاولات لنيل استقلالهم (فتتوا) أرضهم فوزعت على ساحل العاج ومالي والنيجر، وفي سنة (1385هـ-1947م)، استعادت فولتا العليا وحدة أرضها في مستعمرة واحدة، ثم نالت استقلالها في سنة (1380هـ-1960م). وفي 4 آب/أغسطس 1984 قام الرئيس توماس سانكارا بتغيير اسم الدولة إلى "بوركينا فاسو" والتي تعني "بلد الناس النزيهين (الطاهرين)"، من اللغتين الرئيسيتين في البلاد: موري (بوركينا، أي الناس النزيهين أو الطاهرين) وديولا (فاسو، أي دار الأب أو البلد).
وتبلغ مساحتها 274,200 كم2، ويبلغ عدد سكانها 21,510,181 نسمة وتعتمد على الزراعة في اقتصادها، وتعتبر مدينة واغادوغو أهم مدن البلاد وهي العاصمة...
2- في أوائل السنة الماضية وقع انقلاب كانت وراءه فرنسا، وأصدرنا حينها جواب سؤال في 30/1/2022 حول الانقلاب الذي وقع في بوركينا فاسو يوم 24/1/2022، وقد بينا أن ذلك الانقلاب ورئيسه دامبيا كانت فرنسا تقف وراءه. فقلنا ("فهذه النشأة "لقائد الانقلاب دامبيا" وفي بلد تهيمن عليه وعلى جيشه بشكل عام فرنسا وتبريراته الواهية للانقلاب، مع ظهور ما يدل على عدم انزعاج فرنسا من الانقلاب، بل ظهور ما يدل على رضاها عنه... كل ذلك يؤكد أنه قام بهذا الانقلاب بدعم من فرنسا"... ولهذا عارضت أمريكا قيامه بهذا الانقلاب"). وقد أدرك الناس هناك فيما بعد أن فرنسا المستعمر القديم والمستمر هي التي تقف وراءه.
3- بعد نحو تسعة أشهر حدث انقلاب على الانقلاب! فقد أعلن عن وقوع انقلاب مساء يوم الجمعة 30/9/2022 في بوركينا فاسو وتضمن الإطاحة برئيس المجلس العسكري قائد الانقلاب السابق بول هنري دامبيا وتعيين قائد الانقلاب الجديد إبراهيم تراوري. وحصلت احتجاجات وهجمات على مؤسسات فرنسا هناك من سفارة وقنصلية ومدارس ومراكز احتجاجا عليها عندما شاعت أخبار بأن دامبيا قد فر إلى قاعدة عسكرية فرنسية. وأعلن قائد الانقلاب الجديد إبراهيم تراوري وهو رئيس وحدة مكافحة المتشددين في منطقة كايا شمال البلاد في بيان تلاه أحد جنوده على شاشة التلفزيون الرسمي للبلاد: "إن مجموعة من الضباط الذين ساعدوا دامبيا في الاستيلاء على السلطة في كانون الثاني (الماضي) قرروا عزل زعيمهم بسبب عجزه عن التصدي لتمرد المتشددين" وهذه الذريعة نفسها هي التي استخدمها الانقلابيون قبل شهور لقلب الرئيس السابق روك كابوري. وقال في البيان: ("إن دامبيا رفض مقترحات الضباط بإعادة تنظيم الجيش، واستمر بدلا من ذلك بالهيكل العسكري الذي أدى إلى سقوط النظام السابق. أقنعتنا تصرفات دامبيا تدريجيا بأن طموحاته كانت تبتعد عما شرعنا فيه من البداية. قررنا اليوم الإطاحة بدامبيا") وأضاف البيان ("ستتم دعوة أصحاب المصلحة الوطنية قريبا لاعتماد ميثاق انتقالي جديد، وتعيين رئيس مدني أو عسكري آخر. تم تعليق الدستور وإلغاء الميثاق الانتقالي وإغلاق الحدود إلى أجل غير مسمى، وتعليق جميع الأنشطة السياسية وأنشطة المجتمع المدني"... الغد 2/10/2022). يدل هذا الكلام على أن العساكر الذين قاموا بالانقلاب غير راضين عن توجهات قائد الانقلاب السابق بول هنري دامبيا السياسية، وأن لديهم توجهاً سياسياً آخر، وهذا يعني أن قائد الانقلاب السابق دامبيا يتبع سياسة مغايرة لقائد الانقلابيين الجدد...
4- ويؤكد ذلك أنه عندما وقع الانقلاب الأخير حصلت هجمات على المؤسسات الفرنسية، حيث أشار قائد الانقلاب الأخير إبراهيم تراوري أن دامبيا قد لجأ إلى قاعدة عسكرية فرنسية. فبعد هذا القول جاءت الهجمات على المؤسسات الفرنسية وأضرمت النيران ببعضها. وقد أظهرت فرنسا استياءها الشديد على هذه الهجمات. فقالت الأنباء إن محتجين غاضبين أضرموا النيران مساء يوم السبت 1/10/2022 في مباني السفارة والقنصلية الفرنسيتين في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو عقب تردد أنباء عن لجوء دامبيا إلى قاعدة عسكرية فرنسية، علماً بأن السفارة الفرنسية في واغادوغو نفت ذلك.. وكان الناس حول السفارة يهتفون ضد فرنسا مؤيدين لقائد الانقلاب الجديد وقد انتشرت صور اشتعال الحرائق في المباني الفرنسية على مواقع التواصل (الاجتماعي). وقالت المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية آن كلير لوجاندر ("ندين بأشد العبارات استهداف سفارتنا في واغادوغو. وإن سلامة رعايانا أولوية لا مجال للتلاعب بها."... فرانس24، 1/10/2022). حيث تتمركز قاعدة عسكرية فرنسية مهمة في العاصمة واغادوغو ويوجد بها مئات الجنود الفرنسيين، أغلبهم من القوات الفرنسية الخاصة تحت ذريعة مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي. فهذا الانقلاب استهدف الوجود الفرنسي في البلاد، وكل ما حصل يشير إلى أن الانقلاب حصل ضد فرنسا.
5- يضاف إلى ذلك أن الاتحاد الأوروبي أظهر معارضته للانقلاب متذرعا بالمحافظة على الاتفاق المتعلق بتسليم السلطة فقال مسؤول الخارجية في الاتحاد جوزيب بوريل: ("الاتحاد الأوروبي يأسف أيضا لتدهور الوضع الأمني والإنساني في البلاد"... فرانس24، 1/10/2022) وهو يشير إلى الهجمات التي استهدفت المؤسسات الفرنسية في بوركينا فاسو، فمسؤول الاتحاد الأوروبي يعلن معارضته للانقلاب باسم فرنسا، لأن الاتحاد الأوروبي يهمه مصالح فرنسا في أفريقيا، فنفوذ فرنسا هناك يعتبر جزءا من نفوذ الاتحاد الأوروبي ويعزز قوته اقتصاديا وسياسيا.
6-أما الموقف الأمريكي فيظهر أنه ليس ضد الانقلاب، بل إنه مع الانقلاب ضمنيا ولم يصفه بالانقلاب. فقد "دعت الولايات المتحدة إلى عودة الهدوء وضبط النفس من قبل الأطراف المعنية"... فرانس24، 1/10/2022) وهذه الصيغة تدل على عدم معارضتها للانقلاب، وإيراد الوكالة الفرنسية للموقف الأمريكي بهذا الاقتضاب يدل على امتعاض الفرنسيين من الموقف الأمريكي وإدراكهم أن أمريكا تقف وراء هذا الانقلاب. سيما وأن رئيس المجلس العسكري السابق في بوركينا فاسو عميل لفرنسا، ولم تدن أمريكا الانقلاب الحالي عليه، بينما أدانت انقلابه ضمنيا في بداية العام الجاري، إذ أظهرت عدم رضاها عن الانقلاب وطالبته باحترام الدستور وإرجاع عميلها الرئيس السابق كابوري. فيرجح أن يكون هذا الانقلاب بقيادة إبراهيم تراوري من صنع أمريكا.
7-ولذلك كانت النتيجة أن أعلن المتحدث باسم الحكم الانتقالي في بوركينا فاسو يوم 21/1/2023 عبر التلفزيون الرسمي البوركيني أن "حكومة بوركينا فاسو قررت إنهاء الاتفاق العسكري مع فرنسا والذي يتيح لقواتها الوجود على أراضي واغادوغو رغبة منها أن تتولى قواتها الدفاع عن نفسها، وطلبت مغادرة القوات الفرنسية خلال شهر. فقالت إذاعة آر تي بي الرسمية البوركينية: "أمام فرنسا شهر واحد لسحب قواتها من البلد". وقبل إعلان القرار بأيام قليلة نزل المتظاهرون إلى الشوارع في العاصمة واغادوغو يطالبون بطرد السفير الفرنسي وإغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية، وقد وعدهم الرئيس الانتقالي أنه سيحدث شيئا بترتيب العلاقات مع إحدى الدول ولم يسمها. علما أنه منذ انقلاب 30 أيلول الماضي تتكرر احتجاجات على الوجود الفرنسي وتطالب بطرد الفرنسيين وإغلاق قواعدهم من البلاد.
8-وبناء عليه قالت متحدثة باسم الخارجية الفرنسية إنها "تلقت الثلاثاء (24/1/2023) طلبا من المجلس العسكري الحاكم في بوركينا فاسو لسحب قواتها الفرنسية من البلاد. وستلتزم بالموعد النهائي المطلوب وهو شهر. وإن فرنسا ستحترم شروط الاتفاق من خلال تنفيذ هذا الطلب"... صفحة فرانس24 الرسمية، 25/1/2023). وادّعى الرئيس الفرنسي أن هناك غموضا كبيرا ويريد توضيحات. ولهذا صدرت عدة تأكيدات من بوركينا فاسو ورسائل لفرنسا توضح ذلك. وجاء الرد عليه من حكومة بوركينا فاسو باسم المتحدث جان إيمانويل ويدراغو يوم 23/1/2023 بالقول: ("نحن ننهي الاتفاق، لكنها ليست نهاية العلاقة الدبلوماسية بين بوركينا فاسو وفرنسا. إن إنهاء الوجود العسكري الفرنسي طبيعي وقد لحظته شروط الاتفاق، ولا نرى في الوقت الحاضر طريقة أخرى لجعل الطلب أكثر وضوحا". (فرانس برس، العربي الجديد، 25/1/2023).
9-أما كيف يُفهم إعلان قائد الحكم الانتقالي إبراهيم تراوري بأن بلاده لن تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع فرنسا رغم إنذاره لها بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي، فذلك لأن نفوذ فرنسا امتد عشرات السنين ولفرنسا أعوان في داخل بوركينا فاسو، والحكم الحالي يركز على إبعاد القوة العسكرية الفرنسية والاكتفاء بذلك دون الاستفزاز السياسي بقطع العلاقات الدبلوماسية، وليس مستبعداً أن تدرك فرنسا ذلك وتماطل في الانسحاب العسكري إلا إذا غُلبت على أمرها بمساعدة مادية أمريكية للحكم الحالي..
10-وهكذا تستمر دوامة الانقلابات في بوركينا فاسو وفي غيرها من البلاد الإسلامية، وليس لتغيير الأوضاع نحو الأحسن وإحداث انقلاب حقيقي على المستعمر وطرده وإزالته من جذوره وتطهير البلاد من براثنه كما ينبغي أن يكون، إلا أن الأمر ليس كذلك، وإنما هو تبديل وجوه عملاء لدولة مستعمرة إلى دولة مستعمرة أخرى، فهي نتيجة صراع دولي. فالتغيير الحقيقي ينبني على فكر الأمة وبناء دولة متكاملة على أساسه ودستور منبثق من عقيدتها ومصادره كتاب الله سبحانه وسنة رسوله ﷺ. ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾.
وإننا لنسأل الله القوي العزيز أن تعود بلاد المسلمين في دولة واحدة، الخلافة الراشدة، فيعز الإسلام والمسلمون ويذل الكفر والكافرون، وينتشر الإسلام في بقاع الأرض بعز عزيز أو بذل ذليل، وإن هذا لكائن بإذن الله؛ أخرج أحمد في مسنده... عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقُولُ: «لَيبلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بلَغَ اللَّيْلُ وَالنهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزّاً يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلّاً يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ».
وأخرجه الحاكم في المستدرك بلفظ... سمعت المقداد بن الأسود الكندي رضي الله عنه، يقول: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: «لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ بَيْتِ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، يُعِزَّهُمُ اللَّهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ يُذِلُّهُمْ فَلَا يَدِينُوا لَهَا» وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
السادس عشر من رجب 1444هـ
7/2/2023م