تستخدم علة الضعف في غالب الأحوال كمبرر لتقديم التنازلات وغالبا ما تدفع هذه العلة الطرف الضعيف غير النزيه إلى تقديم المزيد من التنازلات لصالح الطرف القوي، وللتعمية على تلك التنازلات يلجأ الطرفان إلى تغليف التنازلات بهالة من الغموض والمغالطات محاولين إقناع الرأي العام الرافض للتنازلات والساخط منها.
إن هذا لا يحدث مع المتفاوضين الضعفاء إن كانوا مبدئيين ومخلصين ولكن يحدث فقط مع المتفاوضين العملاء ويدعون الإخلاص لذلك حذر القران الكريم المسلمين من الوقوع في هذه المصيدة وقبول التفاوض والصلح مع الأعداء من منطلق الضعفاء والوهن فقال جل من قائل : " فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ".
ومن هنا كان بديهيا من هذا المنطلق الإسلامي رفض المفاوضات وعدم الانخراط بها إن كان الطرف المسلم ضعيفاً.
ولو أخذنا المفاوضات الجارية بين السلطة الفلسطينية الهزيلة وبين دولة يهود كمثال على مفاوضات الضعفاء مع الأقوياء لوجدنا أن الغموض والمغالطات تعتبر فكرة جوهرية في تلك المفاوضات وأنها فكرة تُصاحب السائل المتفاوض عليها باستمرار.
ولو تناولنا أبرز ثلاث مسائل يتناولها المتفاوضون في هذه الأيام لوجدناها مشحونة بالمغالطات والغموض وتلبيس الحقائق بالأوهام.
أما المسألة الأولى فهي فكرة تجميد الاستيطان: فلقد نجح المتفاوضون في تسويق الفكرة على أنها تعني وقف الاستيطان وعلى اعتبار أنها مطلب فلسطيني محض واستخدم ما يسمى بالمجتمع الدولي بممارسة الضغط العلني على دولة يهود ولحمله على القبول بفكرة تحديد تجميد البناء في المستوطنات اليهودية في القدس الشرقية والضفة الغربية بينما يتظاهر زعماء يهود بأنهم يرفضون الفكرة ويتمسكون بإلغاء تجميد الاستيطان واستئناف منح الرخص للبناء في المستوطنات.
وتشير الأحداث في المستقبل المنظور على أن تدخل الوسطاء الدوليين ومنح دولة يهود المزيد من الإغراءات الأمنية المادية سيجبر قادة اليهود على الموافقة على تحديد تجميد الاستيطان لفترة زمنية محدودة من أجل منع انهيار المفاوضات وعندها سيزعم المفاوض الفلسطيني أنه قد أجبر المفاوض اليهودي على وقف الاستيطان وسيستخدم ذلك كمبرر للاستمرار في عملية التفاوض العبثية وفي عدم الانسحاب من المفاوضات وذلك بحجة أن الاستيطان قد توقف مع أن الواقع يقول بأن الاستيطان لم يتوقف مطلقاً في فترة التجميد المعلنة التي امتدت في الأشهر العشرة السابقة.
وقد ثبت وفقا لمصادر فلسطينية أن هذه الفترة قد شهدت بناء ما لا يقل عن خمسة آلاف وحده سكنية فضلا عن المباني والمنشآت العامة.
إن فكرة تجميد الاستيطان فيها إيهام للرأي العام بوقف البناء بينما هو لم يتوقف للحظة واحدة أثناء العمل بها وفي ذلك مغالطة كبيرة.
وهكذا نجد أن المفاوض الفلسطيني العاجز يكتفي بإصدار دولة يهود بياناً عبر وسائل الإعلام بوقف الاستيطان على الورق ولا يهم استمراره على الأرض.
أما المسألة الثانية فهي يهودية الدولة: فإن المفاوض اليهودي يُصر على اعتبار الصبغة اليهودية أساساً لأي حل مستقبلي للقضية الفلسطينية بمعنى أن يُقر المفاوض الفلسطيني بأن تكون الدولة اليهود فقط في المستقبل وهذا يعني بالضرورة رفض حق عودة عودة اللاجئين الفلسطينيين وطرد ما تبقى من الفلسطينيين المقيمين داخل الأراضي المحتلة عام 1948م.
والمغالطة في هذه المسألة تكمن في قبول المفاوض الفلسطيني لفكرة الدولة اليهودية بعد قيام الدولة الفلسطينية حيث يقول رئيس السلطة محمود عباس بأن اسم الدولة هو شأن (إسرائيلي) داخلي وليس شأنا فلسطينياً.
والمغالطة هنا تكمن في أن عباس هذا قد وافق فعليا على يهودية الدولة تحت مبرر أن ذلك يتعلق بالاسم واعتبر أن إطلاق من اسم الدولة من حق قادتها وهو هنا لم يميز بين الاسم والمسمى وتجاهل حقيقة أن لكل اسم مسمى لازم يترتب عليه واقع معين وان مجرد قبوله باسم الدولة اليهودية فهذا يعني بالتبعية قبوله بطرد الفلسطينيين منها وتجريدهم من حقوقهم فيها.
وأما المسألة الثالثة فهي تسليط الأضواء على أن حل القضية الفلسطينية يتمثل بإقامة الدولة الفلسطينية والمغالطة الكبرى هنا تتمثل في أن حل المشكلة الفلسطينية تتعلق بتحرير فلسطين وليس بإقامة دولة فلسطينية فيها فتم إيهام الرأي العام بأن إقامة الدولة الفلسطينية تعني حلا للمشكلة الفلسطينية مع أن الأمر ليس كذلك لأنه قد يُسمح بإقامة الدولة الفلسطينية في مساحة صغيرة من أرض فلسطين ولا تحل قضية فلسطين ولا تعاد الحقوق إلى أصحابها.
فهذه هي ثلاثة أمثلة لثلاثة نماذج في المفاوضات وهي تدل على مدى حجم المغالطات في عملية التفاوض.
ومن الواضح أن المغالطات هنا مقصودة وليست نابعة عن جهل أو خطأ وهي في هذه الحالة تعتبر خيانة أكيدة في حق المسلمين وفي حق أهل فلسطين وليست مجرد نقطة كلامية أو زلة لسان.
للاستماع لنص الخبر والتعليق يرجى زيارة الرابط التالي