التاريخ الهجري 23من ذي القعدة 1434
التاريخ الميلادي 2013/09/29م
رقم الإصدار: 1434هـ/ 95
كتاب مفتوح
إلى عمدة أنفيرس وميخلين وفيلفورد ومازايك
وإلى المفكرين والسياسيين في بلجيكا
بعد جهد ومشاورات مع أطراف عدة -كما قيل-، ظهر "ملف" موجَّه إلى مديري المدارس والمعلمين والشرطة والنوادي الرياضية والجمعيات الشبابية وغيرها بعنوان "التحكم في استقطاب المسلمين للراديكالية" (Beheersenvan Moslimradicalisering) أشرف على إعداده عمدة أنفيرس وميخلين وفيلفورد ومازايك. ويتضمن هذا الملف دراسة حول الراديكالية وأساليب استقطاب المسلمين لها، كما يتضمن أساليب عملية لمعرفة الميول الراديكالية عند المسلمين ومراقبتها وتتبعها للقضاء عليها.
والحقيقة، أنّ هذا الملف هو فضيحة بما تعنيه الكلمة، ووصمة عار في جبين ما يسمى بالفكر الحداثي الديمقراطي الذي زعم أصحاب هذه المبادرة الدفاع عنه وحمايته من تهديد الراديكالية. وهو يُصدق ما قاله الفيلسوف الفرنسي تودوروف(Tzvetan Todorov) الذي أكّد على "أن العدو الأساسي للديمقراطية أصبح الديمقراطية ذاتها"، وأنّ أزمة الديمقراطية هي أزمة داخلية وليست خارجية؛ لأنّ "أعداء الديمقراطية الحميميين" - كما سماهم تودوروف - هم الذين يتشدقون بالديمقراطية قولا ويتنكرون لقيمها المزعومة عملا. فقيم الديمقراطية عند هؤلاء الذين يتربعون على عرش النظم البسيدوقراطية (الديمقراطية الزائفة) ليست أفكارا يؤمنون بها بل أدوات يعملون بها؛ فهي عندهم قيمة بلا قيمة، أو قيمة تُفقد مع تعصبهم وفشلهم كل قيمة. ولهذا، لا يستغرب في النظم البسيدوقراطية (الديمقراطية الزائفة) أن يُستعبد الناس باسم الحرية، وأن يحارَبوا في أفكارهم ومشاعرهم ومظهرهم بحجة الراديكالية التي تهدد المجتمع الحرّ الذي يقوم على قواعد من مثل حرية التعبير والتدين والمساواة. فباسم حرية التعبير على المسلمين أن يمتنعوا عن التعبير، وباسم حرية التديّن على المسلمين أن يتخلوا عن دينهم، وباسم المساواة على المسلمين أن يخضعوا للسيد الذي يحدد لهم فيمَ يفكرون وكيف ومتى!
إنّ هذا الملف الذي أشرف على إعداده عمدة أنفيرس وميخلين وفيلفورد ومازايك نموذج رائع لنظام بوليسي استخباراتي في مجتمع "ديمقراطي مثالي!". فهو يَعدُّ على المسلمين حركاتهم وسكناتهم، ويراقب أفكارهم ومشاعرهم في البيت والمدرسة والشارع والمسجد والمقهى... إلخ، بحجة محاربة الراديكالية التي تمثّل خطرا على المجتمع الديمقراطي. ولكن ما هي الراديكالية وكيف عرّفها كاتب الملف؟
لم يُذكر في الملف تعريفٌ محدد للراديكالية، واكتفى الكاتب بعبارات عامة فضفاضة لا معنى لها تنطبق على أي فكر وعلى أي جماعة في بلجيكا كالنصارى واليهود والأحزاب القومية اليمينية. وهذا يعلمه الكاتب جيدا وليس ببعيد عنه؛ لذلك قال (ص8): "الراديكالية في حدّ ذاتها ليس بالضرورة أن تكون مشكلة". وهنا يأتي السؤال: إذا كانت الراديكالية في حد ذاتها ليست مشكلة، فأين المشكلة إذن؟
يجيب الكاتب قائلا (ص8): تتحول الراديكالية إلى مشكلة عندما يُنطلق من مفاهيم راديكالية لتقييد أو منع حرية الأشخاص أو الجماعات في المجتمع، أو عندما تؤثر المفاهيم الراديكالية في مظاهر أو سلوكيات يعاقب عليها القانون. ولأن الكاتب "دقيق جدًّا!" في تعريفه، فهو يعطينا أمثلة عملية "مقنعة جدا" تمثل "ظاهرة مجتمعية متكررة مشاهدة محسوسة لا تخفى على أحد" فيقول (ص8): "مثال ذلك - أي مثال على تحول الراديكالية إلى خطر على المجتمع - السخرية من جزار لأنه لا يبيع اللحم الحلال، أو مشاكسة النساء اللاتي لا يرتدين خمارا، أو تكسير زجاج مقهى لأنه يقدم الخمر."
ويزيدنا الكاتب شرحا فيبين لنا السلوكيات الدالة على تحول الراديكالية إلى خطر على المجتمع حتى تتم مراقبتها، فيضرب أمثلة (ص8) منها أشخاص في أمكنة عامة يدعون إلى الإسلام، أو أشخاص يرفضون المشاركة في الانتخابات ويدعون إلى مقاطعتها، أو أشخاص يلزمون أطفالهم بالتعاليم (والمقصود بالطبع تعاليم الدين الإسلامي).
ومع أنّ الكاتب في هذا السياق التمهيدي لبحثه يتحدّث بصفة عامة مجرّدة عن مسألة التحوّل الراديكالي إلى خطر على المجتمع، إلا أنه لم يذكر إلا أمثلة "سلبية" تتعلّق بالإسلام والمسلمين، فلم يذكر مثلا ما تراه المسلمات المحجبات يوميا من احتقار وسخرية كالبصق على الوجه والإشارة بحركة الإصبع وغير ذلك من إهانات، ولم يذكر مثلا الأشخاص الذين يبشرون بالدعوة للنصرانية بين المسلمين، ولم يذكر مثلا اليهود الذين يعيشون يهوديتهم في أكلهم ولبسهم ومظهرهم وتعليمهم بكل حرية؛ لأنّ "الراديكالية غير الإسلامية" التي تصدر عن غير المسلمين ليست راديكالية ممنوعة بل مشروعة!
وبعد هذا التمهيد "الموضوعي جدا" للبحث، يدخل الكاتب مباشرة في لبّ الموضوع فيعرّف لنا خطر الراديكالية الإسلامية فيقول (ص9): المراد بتحول المسلمين إلى الراديكالية - التي تمثّل خطرا على المجتمع - تنامي الاستعداد للسعي إلى تغيير عميق للمجتمع أو المساعدة في ذلك، سواء أكان ذلك عبر طرق ديمقراطية أم غير ديمقراطية. هذا هو لبّ الموضوع الذي بني عليه مشروع عمدة أنفيرس وميخلين وفيلفورد ومازايك، فهو يتعلّق بالمسلمين فقط، وينطلق من منطلق مؤامرة يدبرها المسلمون لتغيير المجتمع تغييرا جذريا.
والحقيقة، أنّ هذا الخطر المزعوم لا وجود له إلا في مخيّلة أصحاب هذا الملف الذين عبثت بعقولهم الأهواء؛ فلا وجود حقيقيًّا له، وليس المقصود منه حقيقة مقاومة الراديكالية والإرهاب "الإسلامي"، إنما المقصود منه غايات أخرى. ولنوضح الأمر من خلال النقاط التالية:
1. يؤكد الملف (ص19) أنّ الغالبية العظمى من المسلمين في بلجيكا كانت دائما ضد الراديكالية، ولهذا فنحن نسأل: إذا كانت الغالبية العظمى من المسلمين ضد الراديكالية، فأين الخطر إذن؟ وهل تمثّل قلة قليلة من المسلمين ترفض دعوتهم غالبيةٌ عظمى - على حد قول الكاتب - خطرًا حقيقيًٍّا على المجتمع؟ قد يقال: إنّ هذا الملف إستراتيجية استباقية لمنع تفشي خطر القلة. وهنا يرد سؤال: إذا كانت الراديكالية ليست حكرا على الإسلام والمسلمين - كما قررتم (ص8) - فهذا يعني أنّ هناك قلة نصرانية أو يهودية أو يمينية قومية عنصرية راديكالية تسعى إلى تغيير المجتمع وفق رؤيتها وظهرت منها أعمال راديكالية - كما لا يخفى عليكم -، فهل ستهتمون بخطرها المستقبلي، وهل ستصدرون ملفا يتحدث مثلا عن خطرهم وطرق مكافحتهم؟
2. يتحدّث الملف عن "تغيير عميق في المجتمع"، ولكن عن أي مجتمع يتحدّث الكاتب؟ هل هو المجتمع البلجيكي (الفلامي)؟ إذا كان الحديث يتعلّق بالمجتمع البلجيكي، فلا توجد جماعة إسلامية تسعى إلى تغيير المجتمع في بلجيكا. فحزب التحرير (وضع شعاره في الملف تلبيساً ضمن خانة الجهاديين) لا يسعى لإقامة دولة إسلامية في البلاد الغربية كما بيّن في ثقافته، وأما ما يسمى بـ"الشريعة لبلجيكا"، فبغض النظر عن حقيقة دعوتهم، فهي ليست جماعة بالمفهوم السياسي للكلمة، بل هم أفراد وقعت محاكمتهم ومنعت "جماعتهم" وأصبحوا غير موجودين. وهذا لا يخفى على أحد، فقد ذكرت صحيفة "دي ستاندرد" (De Standaard) في خبر لها (بتاريخ 11\03\2013م) معلومات عن المخابرات البلجيكية مفادها: أنّ "الشريعة لبلجيكا" أصبحت رسميا غير موجودة، ولكن بعض الأعضاء السابقين والمتعاطفين معها يقاتلون الآن في سوريا ضد نظام الأسد. وعليه، فلا وجود لجماعة تسعى إلى تغيير عميق في المجتمع البلجيكي.
3. يتحدّث الملف عن "تغيير عميق في المجتمع"، ولكن ما معنى هذا التغيير العميق في المجتمع البلجيكي؟ هل سعى المسلمون لامتلاك السلطة في البلد؟ هل ضربوا علاقات الحكام في بلجيكا بمواطنيهم، وهل عملوا على إسقاط الحكام في بلجيكا وتغييرهم، هل عملوا ذلك بأعمال مادية كأن سعوا مثلا إلى انقلاب عسكري عليهم، أو بأعمال سياسية كأن دعوا مثلا إلى عصيان مدني أو مظاهرة لإسقاط الحكومة في بلجيكا؟ هل حصل من المسلمين هذا، أو هل فكر المسلمون في هذا؟ لا، لم يحصل ولم يفكر فيه أحد من المسلمين. فلماذا إذن يتحدث عمدة أنفيرس وميخلين وفيلفورد ومازايك عن تغيير عميق في المجتمع يدبّره المسلمون وتخطط له الراديكالية الإسلامية، إذا كان المسلمون أنفسهم لم يفكروا فيه ولم يقوموا بأي عمل يدلّ عليه؟ بل كيف يمكن للمسلمين أن يسعوا إلى تغيير عميق في المجتمع البلجيكي وهم لم ينجحوا في تغيير قرار مدرسة منعت بناتهم من لبس الخمار أو ملاحقة مدرسة ثبت تحرش بعض معلميها بأطفالهم؟
إنّ "التغيير العميق" الذي يتحدث عنه الملف ليس هو ما يريد المسلمون تحقيقه في المجتمع البلجيكي - فهم لا يفكرون فيه ولا يمتلكون أدواته - بل هو "تغيير عميق يريد عمدة أنفيرس وميخلين وفيلفورد ومازايك تحقيقه بين المسلمين وفيهم. فالملف يضع استراتيجية وخطة عملية لتحجيم وجود الإسلام ككل في بلجيكا. وبعبارة أخرى فإنّ المراد هو فرض القيم الغربية العلمانية الديمقراطية ونمط العيش الغربي على المسلمين، وليس المطلوب أن يخضع المسلمون للنظام العام والقانون المسيّر للمجتمع، إنما المطلوب هو أن يعتنق المسلمون هذه القيم ولو بالقوة. فالمطلوب إذن أن يعتقد المسلمون العلمانية وأن يظهر اعتقادهم في سلوكياتهم ومظهرهم، ولتحقيق هذا فإنّ هذه السلطة "الديمقراطية" ستعتبر كل ما يخالف هذا راديكالية تجب مقاومتها. فالتكني تبعاً لرأيهم بكنية "أبو فلان"، ولبس الخمار، وتغيير اللباس، والدعوة إلى الإسلام، ونقد الفكر الغربي، وحضور محاضرة تنقد الفكر الغربي فكريا، والمشاركة في مظاهرة (مرخصة قانونيا) ضد الاستعمار الأمريكي للعراق كل ذلك يعد من مظاهر الراديكالية، بل ذكر عبارات من صميم الثقافة الإسلامية مثل "الله أكبر" أو "الولاء والبراء" أو "البدعة" أو "الدعوة" أو "الجاهلية" أو "الكفر" أو "الخلافة" أو "الشهادة" أو "التوحيد" أو "السنة" سيعد من مظاهر الراديكالية؛ لأنها مفردات راديكالية. وكذلك، من أقنع غير مسلم باعتقاد الإسلام فقد تلبّس بالراديكالية، وأما من أقنع مسلما بالردة عن الإسلام فقد مارس حقّه الديمقراطي. ومن نقد الحداثة فكريا فقد تلبّس بالراديكالية، وأما من سبّ الإسلام واستهزأ بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد مارس حقّه الديمقراطي. ومن طلب اللحم الحلال فقد تلبّس بالراديكالية، وأما من طلب "الكوشير" فقد مارس حقّه الديمقراطي. ومن لبست الخمار فقد تلبّست بالراديكالية، وأما من ترهبنت فقد مارست حقها الديمقراطي!
والنتيجة أنه لا يحق للمسلمين في ظل "السلطة الديمقراطية" التفكير والتعبير والمحافظة على هويتهم وخصوصيتهم الثقافية والتميز بسلوك ومظهر يوجبه عليهم دينهم؛ فما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين..."، وما ورد في إعلان مبادئ بشأن التسامح: "... أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم. والتسامح يعني الإقرار بأن البشر المختلفين بطبعهم في مظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، لهم الحق في العيش بسلام وفي أن يطابق مظهرهم مخبرهم، وهي تعني أيضا أن آراء الفرد لا ينبغي أن تفرض على الآخرين"، وهي نصوص يدعي الديمقراطيون أنها من قيمهم وأنهم ملتزمون بها، يبدو أن هذه النصوص لا تشمل المسلمين، فعند عمدة أنفيرس وميخلين وفيلفورد ومازايك ملعونة تلك "الحرية" التي تتيح المجال لمسلم أن يحافظ على دينه أو يمارسه ويدعو إليه.
إننا ندعو عمدة أنفيرس وميخلين وفيلفورد ومازايك أن يتعلموا من سياسة دولة الخلافة مع رعيتها التي تتمثّل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم».
كلمة أخيرة نوجهها إلى المثقفين في هذا البلد، الذين يعلمون علم اليقين أنّ المسلمين في هذا البلد يطلبون حقهم في احترام هويتهم وخصوصيتهم الثقافية، ويعلمون علم اليقين أن المسلمين لا يسعون إلى تغيير المجتمع وتغيير النظام فيه، نقول لهؤلاء: الساكت عن الحقّ شيطان أخرس. فأنتم ترون حجم الظلم الواقع على المسلمين، وترون اضطهادهم وقمعهم وكبت أصواتهم حتى بلغ الأمر إدانة مفردات من صميم عقيدتهم ودينهم، ومع ذلك فلا ينطق الواحد منكم بكلمة ولا ينبس ببنت شفة ولو معذرة إلى مبدئكم. فلا تتعجبوا إذن من عزوف الناس عن قيمكم إن كنتم أنتم أوّل خائن لها.
أما نحن، فلا نخاف على ديننا، ولا نخاف على المسلمين؛ لأنّ الإسلام دين إذا ترك دون مكافحة غزى القلوب وامتدّ، وإذا حورب تأصّل في القلوب واشتدّ.
المكتب الإعلامي المركزي
لحزب التحرير