يختبئ النظامُ التونسيّ وراء عباراتٍ دَرَجَ من سبقوه على الاختباء خلفها أولَ أمرهم، ثم لا يَلبَثون أن يصبحوا طواغيت لا يردهم عن حدود الله رادٌّ، وبعد طول الأمد يصدِّق هذا النظام -كمَثَل غيره- ما قاله، ثم يَحمِلُ الناس بالإكراه والتضليل والخداع بل بقوة القانون الجائر البغيض أحيانًا أخرى. ليقولوا عن النظام الذي يكبل الأمة بأنه نظامُ الثورة!! بحجة أنه نظامٌ تعامَلَ مع حكم الطاغية بن علي بالبراءة منه، وقدمه وعائلته الفاسدة قربانا وحاسب بعض رموزه، وبقي هذا النظام يختبئ وراء عباءة الثورة وتبني مطالبها شكلا التفافًا على الناس ومخادعةً لهم، في الوقت الذي يحاول فيه إخماد جَذوتها والإساءة إليها بدفع المندَسّين ليكثر القتلُ في الناس ثم يلصقه بالأمة فيجد المبرر لحربها بذريعة الحفاظ على الأرواح والدماء!، وهو كلما ثار الناس وأَيِسَ من سُكونِهم قدَّم لهم قربانًا جديدًا من قرابين النظام، ولن يكون الغنوشي آخر هذه القرابين التي تُقَدَّمُ للناس ليشعروا أنهم يغيرون، لكن الناس يعلمون أنهم لا يُغيّرون النظام باستقالة الغنوشي ومَن جيء بهِ بعده، بل بتغيير النظام كله الذي استبد بهم أمدًا طويلا فأفسد كل وجوه الحياة في البلد وسرق الثروات وأنفقها في كل وجوه الطغيان والفساد والإفساد، وحارب الأمة عقودًا طويلة، فليكفَّ هذا النظام عن الزعم بأنه يحتضن الثورة أو يتجاوب معها ويستجيب لمطالبها لأنها إنما كانت ثورة على بغيه وظلمه واستبداده وإجرامه.
وليس النظام في تونس بدعة بين النظم في بلاد المسلمين، فهو في مصر نظام ثورة هو الآخر!! ثورة على أي شيء؟! ثورة على الأمة نفسها، وهو يسارع في أول خطواته لتثبيت المعاهدات مع الدولة التي تغتصب المسجد الأقصى ويمدها بالغاز، ويمنعه من غزة وهي في ظلِّه، ويخنق أهل مصر بالموت البطيء ويقدم "البدائل" التي تحافظ على النظام الذي أسس له سابقوه من أساطين الفساد، والقذافي هو الآخر قائد "ثورة الفاتح"، وفي الوقت الذي يخرج عليه غالب الناس يقولون له كفَّ عنا وَجهَك، لم يتخلَّ عن شعوره بأنه لا زال هو قائد الثورة!! فراح يتظاهر مع الجماهير، لكن ضدَّ من؟!! من أجل سوء أوضاع الناس، وهي فعل يديه أو ثمرةُ كسبِه!!!، ولم يستطع ولن يستطيع أحد أن يقنعه بأنه ليس قائد الثورة لأن الناس خضعوا لهرطقاته وهَوَسِهِ ومزاجيَّتِه الثقيلة دهرًا، حتى صار لا يستطيع أن يراهم وهم يخرجون عليه إلا جرذانا مهلوسة.
إن الثورة في كل الدنيا هي تغيير شامل للأوضاع السياسية والاقتصادية وسائر وجوه الحياة، هي انتقال من حال سيء إلى حال حسن، هي استرجاع لحقوق الأمة وهيبتها وأموالها التي سرقها الفاسدون، واسترجاع لشخصية الأمة وهيبتها المهدورة، فليس ثائرًا ولا عاقلا مَن يُخرج بن علي الذي انتهك حرمات الناس وسرق أموال البلد ويُبقي حزبه ونظامَهُ يَحكم الناس متسترًا وراء التضحية ببعض رموز النظام، ليس ثائرا ولا عاقلا من يقبل من هذا النظام الفاسد المرتبط بالغرب ذلك، أويعُدُّهُ في زمرة الثوار، وليس ثائرًا ولا عاقلا من يخلع أذناب الاستعمار المستبدين بالأمة ويطالب بأفكار الغرب التي تسمح بالكفر الصراح، حربًا على الله، ويظاهر الكفار على المسلمين، ويضع في رأسه دين الغرب الذين يحاربون الأمة ودينها ليل نهار.
الثورة تكون في تغيير الأوضاع القائمة تغييرا جذريا شاملا يقوم على أساس ملة الأمة التي بينها الله في كتابه فيُحكمُ الناس بكلمة الله، يحكمُهُم أميرُ المؤمنين، يُقيمُ فيهم العدل ويمنع فيهم الفواحش، يمنع فيهم الشرك والزنا والربا والغش والكذب والزور والدجل وقتل النفس وأكل المال بالباطل، وموالاة الكفرة والعمالة لهم، ويحوطهم بالرعاية فيدفعهم لفعل الخيرات ونصرة الضعيف وإغاثة الملهوف وتعليم الجاهل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعدل في القول والقسط في الحكم ويقودهم في ساحات العز والجهاد في سبيل الله، وليس في سبيل أوروبا وأمريكا، وابتلاعها لخيرات العالم، يحبه الناس ويحبونه ويحيون جميعا في محبة الله لهم وتوفيقه ورحمته، ولا يعيشون متفرقين يقتل بعضهم بعضًا ويستحل بعضهم مال أخيه وعرضه. ثورة لا تجعل لصندوق النقد الدولي، وهو يد أمريكا والغرب سلطانًا على قوت الناس، ولا تجعل ثروات الأمة نهبًا للكافرين المستعمرين بل متاعًا للمسلمين ومن ساكَنَهُم من الذميين، يعيشون معا تحت حكم الإسلام وعدالته. تحت حكم دين حرَّمَ الله فيه الظلم على نفسه! وجعله محرما بين عباده. ثورة تُعلِّمُ الناسَ الخضوعَ والركوعَ لله، وليس للعملاء الطواغيت من أشباه الناس، وتُعَرِّفُ الناسَ بهيبةِ الله وعظيمِ سلطانِهِ، وتجعل الحاكمية لدين الله في كل شأن.