الاعتقال على ذمة الرئيس: (1) هل يكون القضاة أداة بأيدي الساسة؟
د.ماهر الجعبري
إذا غاب القانون وفسد القضاء، كيف يمكن التمييز بين العصابات وبين الحكومات في النزاع والصراع؟ سؤال يقفز للذهن عند النظر إلى ممارسات الأنظمة البوليسية التي تجعل الرئيس فوق القانون، وتجعل قراره فوق حكم القضاء.
وهو سؤال يشتد وقعا على مسامع المنظمات الحقوقية التي تعتبر أنها تحمل رسالة إنسانية وتسعى لحفظ حقوق الإنسان، بينما تتابع مشاهد الاعتقال على ذمة الرئيس ولفترات طويلة خارج حكم القضاء، أو يكون القضاء فيها مسخرا تحت أمر الرئيس، كما حصل معي عندما قرر قاضي محكمة الخليل إخلاء سبيلي، بعد 24 يوما من الاعتقال السياسي لدى اللجنة الأمنية في أريحا، ثم تناولتني المباحث على ذمة الرئيس، لأسبوع آخر، على اعتبار أن من يُعتقل من قبل اللجنة الأمنية لا يُخلى سبيله إلا بقرار الرئيس، وذلك كله تحت إشراف رئيس وزرائه الأكاديمي (الذي كان يرأس جامعةً عملتُ فيها كأكاديمي!)، وقد تحوّل إلى سجّان في هذا المشروع الوطني الاستثماري.
ما حصل معي تكرر –بأساليب أخرى- مع عدد من شباب حزب التحرير ومناصريه ممن وقفوا سياسيا ضد التوجهات السلطوية، وفي هذا المقال (على حلقتين) سرد موجز لحكاية شهر من الاعتقال السياسي في سجون السلطة الفلسطينية على خلفية موقف سياسي أزعج الساسة، فحوّلوني للجنة الأمنية المشتركة المكونة من المخابرات والأمن الوقائي والاستخبارات والمباحث، بينما اعتقلوا عددا من شباب الحزب لدى المخابرات وآخرين لدى الأمن الوقائي، وهذه الحلقة تركز على العلاقة الجدلية بين القضاء والسياسة.
بداية الحكاية هي وقفة جماهيرية مشروعة تمّت في الخليل يوم 4/2/2017، تمخضت عن حراك عشائري تصدى به رجالات الخليل من عائلات آل التميمي وكافة عائلات الخليل ومن شباب حزب التحرير، شهدته المدينة ضد إصرار السلطة الفلسطينية على تحدي الإرث الحضاري الإسلامي وبما يخالف قانونها، عبر تمليك الروس ما يقرب من 71 دونم من وقف الصحابي تميم الداري، رغم التاريخ الأسود للإرسالية الروسية في تسريب الأراضي التي امتلكتها في فلسطين لليهود المحتلين، ومنها ما كان في الصفقة المعروفة بصفقة البرتقال.
كانت الوقفة ظهيرة السبت، وكانت أجهزة السلطة الأمنية قد نصبت الحواجز على الطرقات وتناولت عددا من آل التميمي ومن عائلات الخليل ومن شباب الحزب ومناصريه ممن اعتبرت أنهم متوجهون للمشاركة في الوقفة، وكانت قد سخرت إحدى الإذاعات المحلية المعروفة بإثارة الفتنة من أجل الشحن الإعلامي ضد الوقفة السياسية، ومحاولة إثارة الناس ضد المشاركة فيها.
وبعدها أجريتُ بعض المقابلات الإعلامية مع وكالة قدس برس، وعربي 21، ونقلت عني غيرها مثل شبكة قدس الإخبارية... ومن ثم اتصلت بي فضائية القدس للتعليق مباشرة على الأحداث الميدانية في نشرة التاسعة. ولما ترجّلت للمبنى حيث استوديو البث المباشر، أحاط بي مجموعة من المخابرات والأمن الوقائي، تناثروا في الشارع بعدما قفزوا من سيارات عديدة كأنهم في حالة سطو، وخطفوني بلا مذكرة من النيابة وتوجهوا بي لمقر المخابرات في الخليل. وخطفوا قريبا لي من الشباب البارزين في عائلتي كان يرافقني، وتوجهوا به لمقر الأمن الوقائي. وشنّوا حملة اعتقالات واسعة شملت العشرات.
في الليلة ذاتها، حملوني مقيدا في سيارة أمنية إلى أريحا: لم تقف السيارة على أي نقطة تفتيش يهودية، لا عند النقطة الثابتة (قرب أبو أديس)، ولا عند نقطة فجائية (بعدها)، مما يؤكد نجاعة التنسيق الأمني، حتى في إجراءات الاعتقال السياسي. ونقلوا في الليلة ذاتها تسعة من المعتقلين لمخابرات أريحا.
وصلت مقر الأمن الوقائي قبيل فجر الأحد، وبعد جلسة عامة مع اللجنة الأمنية عند الوصول، تمّ وضعي في غرفة مع مجموعة من المتهمين بحيازة وتجارة السلاح، وقد علمت من اللجنة أن جُلّ المعتقلين لديهم كانوا على خلفية قضايا "الفلتان"، ومعظمهم من مخيمات الشمال، وأني أتيتهم –بقضية سياسية- "كفنجان قهوة وقد تعودوا شرب الشاي".
نيابة وقضاء أريحا برسم اللجنة الأمنية
في ضحى الأحد –بُعيد ساعات من الوصول- تم نقلي لمقر محكمة أريحا للعرض على نيابتها، حيث وجّهت لي تهمتين هما: إثارة الفتن والتجمهر غير المشروع: لم أتجاوب في التحقيق مع النيابة، عن موقف لديّ (لم أبينه لوكيل النيابة تماما لأني ادخرته للحديث به أمام القضاء)، ثم رفضت النيابةُ عرضي للقضاء في اليوم نفسه. وفي اليوم التالي تم إعادتي للنيابة، ولم يحضر المحامي (حيث تم تمكيني من الاتصال بأهلي لتوكيل محام)، ومارست الحق بالتزام الصمت عند النيابة، ومن ثم قررت النيابة تحويلي لجلسة القضاء.
أمام القاضي، دحضتُ طلب النيابة تمديد توقيفي لفترة 15 يوما، عبر نقطتين قانونيتين كفيلتين في القضاء العادل -كما يدرك الحقوقيون- بإخلاء سبيلي فورا، وقد لاحظت ذلك الانطباع على وجه القاضي، وتأكيدا على ذلك أفصح قائلا: ها أنت تتحدث مثلنا (يقصد قانونيا).
ترافعت عن نفسي أمام القاضي بالقول إنه تم اختطافي من قبل مدنيين-أمنيين عرفوا عن أنفسهم بأنهم من المخابرات والأمن الوقائي دون مذكرة من النيابة، وما بُني على باطل فهو باطل، وأنني أُفهمت أن التهم الموجة لي تتعلق بالخليل، وأن محكمة أريحا ليست ذات اختصاص/صلاحية للنظر في قضيتي.
نعم، توجب على القضاء العادل عند تلك اللحظة أن يقرر إخلاء السبيل، ولكن كاتبة المحضر قد توجهت للقاضي بصوت خافت-مسموع بكلمة السر: "لجنة أمنية"، وهي تعني أمنيا عنده إقرار التوقيف لمدة 15 يوما بدعوى التحقيق، وهو ما تم، ظلما وعدوانا، يعلمه القاضي كما تعلمه كل منظمة حقوقية، وتعلمه المحاكم العليا والدنيا، ولكنه أمر الرئيس!
كانت النيابة قد بيّنت لي أن محاكمتي ستتم مع التسعة الآخرين (الموقوفين لدى المخابرات)، ولكنها غيرت رأيها (وكأنها اقتنصت فرصة عدم وجود المحامي)، ومن ثم علمت أن المحكمة قررت توقيف التسعة الآخرين لنفس الفترة، في اليوم التالي لمحاكمتي، ومنذ ذلك الوقت ارتبطت محاكمة الآخرين بمحاكمتي، وقضوا فترة شهر من الاعتقال، سبّاقين في أجر الثبات والصدع بالحق، وفي دفع ثمن الموقف السياسي. بينما أفرجت الأجهزة الأمنية في الخليل عن الذين اعتقلوا وأبقتهم لديها في الخليل بعد بضعة أيام.
بعد انقضاء 15 يوما كفترة أولى، تمت إعادتي لجلسة القضاء الثانية، وعندها حضر المحامي وأكّد على مرافعتي السابقة، إثباتا لقانونيتها وفعاليتها، وأضاف حول طبيعة موقعي الأكاديمي... وعندها بدا لي كأن القاضي أعاد ضبط موقفه –ربما بعد متابعات ومراجعات- وتحت وقع الوقفات السياسية التي تمت أمام محكمة أريحا وما حصلت من أصداء ضد توقيفي وتوقيف التسعة الآخرين. ومع أن النيابة كانت قد طلبت التوقيف لفترة 15 يوما أخرى، إلا أن القاضي بعدما أبرز عدم وجود أي إجراءات تحقيق خلال الفترة الأولى، قرر التمديد لأسبوع فقط، وقرر أنه في حالة عدم وجود "تحقيق جاد" يعتبر قرار النيابة لاغيا.
وبالفعل، لم يحصل أي تحقيق في النيابة في الأسبوع اللاحق، ومع انقضائه تم إعادتي لمحكمة أريحا في اليوم المحدد، وأُبقيت في سيارة الأمن الوقائي، فترة من الزمن ثم قيل لي أنه سيتم إرجاعي للمقر دون محكمة، ويبدو أنهم اكتشفوا أن مثولي أمام قاضي أريحا في ذلك اليوم يعني تلقائيا إخلاء سبيلي.
وخلال فترة التوقيف، صدع أهل الخليل في وقفة سياسية حاشدة ضد الاعتقال السياسي وفي رسالة قوية للقضاء، وذلك بدعوة من حزب التحرير ومن عائلة الجعبري ومن العائلات التميمية وغيرها، وكانت الوقفة أشبه بالمعركة السياسية التي تناقلتها وسائل الإعلام، وقف فيها رجالات العشائر ومعهم شباب الحزب ومؤيدوه وقفة حق، رغم التغول السياسي للسلطة الأمنية ورغم أن وسط المدينة قد تحول لما يشبه الثكنة العسكرية، وامتلأت الأجواء بالغاز المسيل للدموع وبأزيز الرصاص الأمني، وتمخضت عن إصابات بالغة، وعن حملة اعتقالات جديده في صفوف الحزب وغيرهم ممن شارك في الوقفة. وصارت قضية المعتقلين كلهم واحدة تحت أمر الرئيس.
في الخليل قضاء أنصف وقرار سياسي نسف
عند العودة للمقر الأمني في أريحا، أعلموني أنهم سيتوجهون بي لمحكمة الخليل، في اليوم نفسه الذي لم تستقبلني فيه محكمة أريحا (حيث انقضت فترة توقيفي "المغطاة بالقانون")، وبالفعل حرص من نقلني على إيصالي لمحكمة الخليل قبل نهاية الدوام، ولا شك أن القاضي في الخليل كان منصفا: إذ رفض طلب نيابة الخليل توقيفي لفترة 15 يوما، رغم أن وكيل نيابة الخليل قد برره على أنه التوقيف الأول في المحكمة ذات الاختصاص. ومن الملاحظ هنا أن نيابة الخليل تذكرت أنها أرسلتني لأريحا لجهة ليست ذات اختصاص، فلماذا فعلت ذلك بداية؟!؟!؟
قرر القاضي في الخليل قبول إخلاء السبيل بكفالة، ومن ثم تم نقلي لسجن الظاهرية، ولما وصلت تبين لهم أنه إجراء خاطئ، إذ لا حكم علي لاعتقالي فيه، فأرجعوني إلى سجن القلعة في الخليل، وبعد سويعات أعلموني أنهم أفرجوا عني، ولكنهم سلموني لمسلحين، تبين لي لاحقا أنهم من المباحث، فنقلوني إلى قبو المباحث في الخليل حيث لا تعرف الليل من النهار، لأقضي أسبوعا جديدا محتجزا بأمر المباحث (نائبة عن اللجنة الأمنية)، رغم قرار إخلاء السبيل، تماما كما حصل في اعتقال الآخرين على الخلفية ذاتها، ومنهم من لم يعرض على المحكمة إطلاقا. لتؤكد السلطة "الوطنية" أن قرارات ساستها فوق قرارات قضاتها، وأنها تدوس قانونها متى شاءت عبر التوقيف في اللجنة الأمنية التي لا تقبل الإفراج إلا بقرار الرئيس، وعبر التوقيف على ذمة المحافظ بأمر الرئيس.
وهذا سؤال مفتوح لعقلاء فتح قبل ضباطها، هل يكون حفظ السلم الأهلي الذي تتحدثون عنه، عبر فتح العقول أم فتح الزنازين؟ ليبقى السؤال مفتوحا برسم الإجابة عمليا لا نظريا. وفي الحلقة القادمة مجريات الاعتقال في المقرات الأمنية.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين