الهباش ومنظمة التحرير وجماعة المسلمين
*د.ماهر الجعبري
على الرغم من التاريخ السياسي الأسوَد لمنظمة التحرير الفلسطينية، وعلى الرغم أن قادتها ظلّوا يُدحرجون قضية فلسطين في منحدرات التخاذل والتنازل والتقزيم، تواقحوا على تصوير ذلك الانبطاح على أنه كفاح... ولم يكن ذلك مستغربا على علمانيين جعلوا "الحياة تنازلات"... أما ما تجرأ عليه محمود الهباش مستشار رئيس السلطة الفلسطينية للشؤون الإسلامية في خطبة الجمعة فقد فاق الخيال، إذ تناقلت وسائل الإعلام يعتبر فيه أن "جماعة المسلمين التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باتباعها هي منظمة التحرير الفلسطينية".
تناسى الهبّاش الذي اعتلى منبر الجمعة -كما تجاهل الذين أصغوا إليه ممن يوصفون بالقيادة الفلسطينية- أن منظمة التحرير هي وليدة الأنظمة العربية التي أنجبتها، كما وصفها رئيسها الحالي محمود عباس الذي كان يُصغي لخزعبلات الهباش في الخطبة، (وذلك في كتابه طريق أوسلو، ص 23)،وأكمل عباس في وصفها: "إن ما تمخضت عنه الأنظمة العربية لا بد أن يكون على شاكلتها يحمل في بطنه جينات عجزها، ويرث عنها كل مواصفاتها وكل أسباب وهنها، وأنها بقيت أسيرة مواقف الأنظمة". وتناسى قادة فتح –ممن حضروا خطبة الهباش- أن حركتهم كانت قد احتجّت في حينه-حسب الموقع الرسمي للحركة- على تأسيس المنظمة باعتبارها أداة للدول العربية أقيمت لاستباق صحوة الشعب الفلسطيني.
ثم تناسى المطبلون للمنظمة ولوليدتها السلطة –التي انجبتها من سفاح سياسي محرّم- أن المنظمة ألغت ميثاقها من أجل القبول بسلطة تحت الاحتلال كانت تعتبرها خيانة عظمى، كما تشهد أدبياتها التاريخية، وحسب بيان منظمة التحرير الأول الذي أصدرته لجنتها التنفيذية عام 1965،وهو ما أكدته قرارات المجلس الوطني الفلسطيني-الدورة الرابعة (حسب موقع وكالة وفا الرسمية)، تحت بند "الدعوات المشبوهة لإنشاء كيان فلسطيني مزيف"، والذي جاء فيه: "تسعى الحركة الصهيونية والاستعمار –وأداتها إسرائيل- إلى تثبيت العدوان الصهيوني على فلسطين، وإلى تعزيز الانتصار العسكري الإسرائيلي في سنة 1948م، وإقامة كيان فلسطيني في الأراضي المحتلة بعد عدوان 5 حزيران. كيان يقوم على إعطاء الشرعية والديمومة لدولة إسرائيل، الأمر الذي يتناقض كلياً مع حق الشعب العربي الفلسطيني في كامل وطنه فلسطين، فإن مثل هذا الكيان المزيف وفي حقيقة حاله مستعمرة إسرائيلية يصفي القضية الفلسطينية تصفية نهائية لمصلحة إسرائيل... هذا بالإضافة إلى خلق إدارة عربية فلسطينية عميلة في الأراضي المحتلة بعد 5 حزيران، تستند إليها إسرائيل في التصدي للثورة الفلسطينية".
وقف الهباش يتقول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في "مثل هذا الكيان المزيف"، وفي تلك "المستعمرة الإسرائيلية"، وتحت تلك "الإدارة العربية الفلسطينية العميلة في الأراضي المحتلة" حسب بيان المنظمة، ويدّعي أن تلك المنظمة هي الجماعة التي أوصى النبي باتباعها.
يزكي الهباش –شرعيا- تلك المنظمة التي انخرطت المنظمة في وحْل التفاوض مع المحتل على دولة هزيلة في الضفة وغزة، وهي التي كانت قد تأسست قبل احتلالهما، عام 1964. يزكي تلك المنظمة التي حددت هدفها بتحرير الأراضي الفلسطينية التي كانت قد احتلّت عام1948، بينما يعتبر الهباش اليوم –ومن معه من قيادته- تلك الأرض "دولة" خاصة لليهود، وبينما شارك رئيسه قبل أسبوع في تأبين أحد الزعماء المؤسسين لتلك "الدولة" (شيمعون بيرز).
إن الهباش الذي يتقول على دين الله، يضلّل المسلمين، إذ يمجّد منظمة التنازل الفلسطينية التي أضاعت الهدف الذي ادّعته في أزقة التاريخ بعدما تبدلّت الجغرافية التي تحدده، وتبدلت الطرابيش وماتت القلوب التي خفقت لأجل فلسطين، وبردت الدماء التي تضخها، ثم تمكّــــن الاحتلال اليهودي من تقزيم مشروع أمريكا لحل الدولتين عبر تأسيس بلدية كبيرة سماها سلطة فلسطينية، وصارت كعكتها محل نزاع بين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وأخواتها من الذين لحقوا بها. وتقزمّت معها مطالب المنظمة، وتحوّلت إلى استرجاع ما احتل عام 67، وصارت الـ67 تمثل رمزية ومرجعية فيما يسمونه المشروع الوطني. وصارت فلسطين–عند قادة تلك المنظمة- هي الجغرافيا التي خطها الحد الذي تجاوزها لاحتلال بعد إنشاء المنظمة!
ثم عدّلت قادة المنظمة ميثاقها ليتوافق مع الدور الأمني للسلطة الوليدة، ولتمرير الاتفاقيات الأمنية لحماية أمن الاحتلال اليهودي، وصارت–المنظمة التي ادعت الكفاح المسلح نهجا- تعتبر اقتناء سلاح المقاومة جريمة، التزاما بالبند الأول من خارطة الطريق الأمريكية، وتقيدا بتعليمات "زعيم" فلسطين العسكري، دايتون.
وبينما رفعت المنظمة شعار "الأرض للسواعد الثورية التي تحررها"، صارت السلطة-التي أوجدتها المنظمة-تمارس سياسة كسر العظام لتلك السواعد الثورية، وصارت ممارسات السلطة تتمثل في "الأرض للسواعد الأمنية التي تقمع أحرارها". وتمكنت من تنفيذ الشعار الجديد بعد حملة "تطهير سياسي" لأجهزتها الأمنية من كل ساعد بقيت فيه نزعة ثورية، فتمخضت عن سابقة تاريخية غربية تحولت فيها منظمة "ثورية تحررية!" إلى جهاز أمني لحماية الاحتلال الذي ادعت أنها قامت للتحرر منه.
لهذه الأسباب، كنت قد اقترحت من قبل تبديل اسم المنظمة ليتوافق مع الدور الأساس (أوالوحيد) الذي تمارسه، والذي تَطلُب حصرَه بها وحدها، وهو التفاوض، لتصبح منظمة التفاوض الفلسطينية (PNO) بدل (PLO).
إنه على الرغم من بطلان اسم المنظمة ورسمها، وعلى الرغم أن القائمين على المنظمة قد تخلّوا عن الهدف المدّعى، وعن الشعار المغنّى، وعن الميثاق "التاريخي"، ومن ثم تخلّوا معه عن طريق الكفاح المسلّح، ما زالوا يدّعون النضال ويستخفون بعقول الناس، ثم يستخفّ عرابهم الملتحي بالإسلام وبالمسلمين بدعوى أن تلك المنظمة الباطلة هي جماعة المسلمين التي دعا الرسول لالتزامها.
إن الإسلام الذي حثّ على التكتل السياسي، حصر مشروعيته في حمل الخير وهو الإسلام، وفي الوقوف مع الحق ومع غايات الأمة الإسلامية، وهي الوحدة والتحرير وتحكيم الشريعة، وإن الرسول الذي حث على التزام جماعة المسلمين في قوله "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قد ربطها بالأمير الذي يحكّم الشريعة ويوحّد الأمة تحت الخلافة، أما منظمة التفاوض الفلسطينية التي تتلهّى بدولة "ميكي ماوس"، فإنها تقف على النقيض من هذه الغايات، بل هي تحارب من يعمل لتحقيقها في الأمة، وإن الهباش يفقه جيدا قول الله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ". وهو يدرك أنه بهذا التجرؤ قد تقوّل على دين الله وعلى رسوله، وبهذا الاثم لا ينجو من عقاب الله في الآخرة، بعد خزي الدنيا.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين