معالجة العنصرية بين النظرية والتطبيق: مقارنة بين الإسلام والغرب
د. عبد السلام أبو العز
لاقت الأحداث العنصرية في الولايات المتحدة الأميركية أصداءً عالمية واسعةً كان أبرزها؛ أن أميركا التي تزعم نشر الحرية والعدالة والأمن في أرجاء المعمورة لا تستطيع توفير ذلك لمواطنيها من غير ذوي البشرة البيضاء... وأن وصول أوباما إلى سدة الرئاسة لم يُترجم بالضرورة إلى انتهاء التفرقة العنصرية في أميركا... وصولاً إلى المقارنة مع الإسلام الذي لا يفرق بين أبيض وأسود إلا بالتقوى. غير أن السؤال الذي يغيب عن هذا "النقاش العالمي" يتمحور حول الأصول الفكرية للتفرقة العنصرية... مع أن تلك الأصول الفكرية هي صاحبة الأثر الأكبر في الشعور بالتميز العرقي وما يترتب عليه من الأفضلية في توزيع الثروة والفرص والمعاملة اليومية...
أزعم أن هذا البحث يفسر فشل الغرب في علاج التفرقة العنصرية بالرغم من كل الشعارات المرفوعة. ولكن قبل الدخول في مقارنة بين الإسلام والغرب أود التنويه بأن العالم الإسلامي لا زال يعيش حالة الاستعمار الغربي له وآثارها في الفكر والشعور وفي شتى مناحي الحياة... ولذلك لا أحب أن يقفز للذهن أنني أقارن بين حال المسلمين اليوم وحال العالم الغربي... فحالتنا ليست مثالية، وفي الغالب ليست إسلامية، وعلى العموم متأثرة بالاستعمار الغربي وارثة للكثير من مشاكله وإشكالياته.
لا شك أن هنالك تشابهاً ظاهرياً في نظرة الإسلام ونظرة الغرب إلى الاختلاف العرقي. فالموقف المبدئي هو المساواة الأصلية بين البشر بصرف النظر عن العرق والقبيلة واللغة ولون الجلد وما إلى ذلك، وفي ذلك جاء قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، وقول الرسول الكريم: "لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى." (رواه أحمد وصححه الألباني). وعند الغرب جُعل شعار المساواة أساساً للثورة الفرنسية والأمريكية وغيرهما، ونصت العبارة الأولى في وثيقة الاستقلال الأمريكية على أن جميع الناس قد خُلقوا متساوين.
هذا من حيث المبدأ، أما من حيث التطبيق فقد يحصل تمييز عرقي أو صراع على أساس عرقي، وهذا لم يكن بعيداً عن بعض الممارسات الخاطئة لبعض المسلمين في التاريخ (العرب مقابل الشعوبيين) ولا في ممارسات العصر الحديث التي يغذّيها الاستعمار (دارفور مثالاً)... ولكن السؤال هو: هل القول بتفوُّق عرق على آخر يمكن أن يتفرع عن المبدأ كنتيجة طبيعية؟ بكلام آخر: هل هنالك أصول فكرية للتفرقة العنصرية؟؟
فأما في الإسلام فلا.
وأما عند الغرب الرأسمالي فنعم، لأن المبدأ الرأسمالي قد تفرعت عنه بشكل طبيعي فكرتان عنصريتان وهما: القومية والاستعمار.
فالقومية نشأت في أوروبا عصرِ النهضةِ المستقلةِ حديثاً عن سلطة البابا، كأساس لإنشاء الدول، باعتبار أن تعريف الدولة عندهم أنها شعب متجانس وقطعة أرض وسلطة. فنشأ مفهوم الدولة القومية جنباً إلى جنب مع العلمانية والديمقراطية والرأسمالية، ونشأت على إثر ذلك صراعات على الأرض والثروات والطرق التجارية امتدت لعدة قرون، وكان من آخر نتائجها قتل عشرات الملايين من البشر في الحربين العالميتين.
كما نشأت في أوروبا مذاهب عنصرية متعددة منها: النازية والفاشية واللاسامية والصهيونية، جميعها نشأت في أوروبا كنتائج طبيعية لفكرة القومية والصراعات المترتبة عليها. ولا زلنا نشاهد بروز المشاعر العنصرية في أوروبا وأميركا تجاه اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط وأفريقيا، وما ترتب على تلك المشاعر من تصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وازدياد شعبية الأحزاب اليمينية في بلدان أوروبية وصولاً إلى شعبية دونالد ترامب في أميركا.
وفكرة الاستعمار جاءت كذلك نتيجة طبيعيّة للمادية النفعية الجشعة التي جعلها المبدأ الرأسمالي مقياس الأعمال ووجهة النظر في الحياة... وكان من "إبداعات!" المستعمِرين أن نظَّروا للتفوُّق العرقي الأوروبي على الشعوب المستعمرة، مثال ذلك ما قاله جولز هارماند أحد مهندسي الاستعمار الفرنسي: "من الضروري إذاً أن نقبل كمبدأ أو أساس للانطلاق في البحث أن هناك تسلسلاً هرمياً من الأجناس والحضارات، وأننا ننتمي إلى العنصر الأسمى والحضارة الأرقى... وأن المبرر القانوني الأساس لإخضاع الشعوب الأصلية هو الإيمان بأفضليتنا عليهم."
ولا ريب أن هذا المفهوم أدّى لانعدام الشعور بالذنب عند قتل الرجال والنساء والأطفال من الشعوب المستعمَرة، ومعاملتهم معاملة العبيد الخدم للمستعمِر.وهكذا أمعن الانجليز والفرنسيون والهولنديون والطليان والدانمارك والاسبان والبرتغاليون في قتل الشعوب الأخرى في سبيل إخضاعها للإرادة السياسية والاقتصادية للسيد المستعمر، ومن ثمّ محاولة جلب تلك الشعوب "البدائية" إلى حظيرة الحضارة الغربية عن طريق التنصير والتعليم الغربي وإنشاء الدول الحديثة "المستقلة" على صورة أوروبا الغربية، مع الحرص الشديد على حرمان الشعوب من الحقوق السياسية التي ينعم بها الأوروبي فضلاً عن الحق في استغلال الثروات والممرات المائية والتصنيع العسكري إلخ.
وكان لأميركا نصيب عظيم من الشعور بالتفوق العنصري يبرز في كتابات الآباء المؤسسين. بالرغم من أنهم كتبوا عبارة "أن جميع البشر خُلقوا متساويين" في وثيقة الاستقلال، إلا أنهم لم يؤمنوا بالعيش المشترك بين البيض والسود والهنود الحمر. مثلاً يقول توماس جيفرسون: "عندما يتحرر العبيد، تجب إزاحتهم بعيداً عن فضاء الاختلاط (بالبيض)"... وذهب أبعد من ذلك فقال: "أن أميركا بأكملها –الشمالية والجنوبية- لا بد أن يسكنها (أوروبيون) منحدرون من الولايات المتحدة" وأنه "لا يمكن أن نفكر بالقبول بمساحات مقسمة ولا مختلطة على هذا المسطّح"... أي أنه لم يكن يفكر بتجمعات منفصلة للأعراق المختلفة ولا باختلاط الأعراق، بل كان يريد إزاحة السود والهنود من القارتين الأميركيتين بأكملهما. وكان من آثار هذه الأفكار إنشاء "جمعية التوطين الأميركية" التي عملت على توطين العبيد المحررين في أفريقيا، ونتج عن ذلك إنشاء جمهورية "ليبيريا" الأفريقية في القرن التاسع عشر.
التفرقة العنصرية –إذن– لها جذور فكرية عند الغرب أهمها فكرتا القومية والاستعمار، وترتّب على تلك الجذور الفكرية حواجز شعورية كثيفة وممارسات وحشية بين الأوروبيين أنفسهم ثم بحق الأجناس غير الأوروبية. لا عجب أن الغرب فشل في تحقيق العيش المشترك الحقيقي بين البشر، وسيستمر فشله في المستقبل المنظور.
أما الإسلام فلم يسمح بالتفرقة على أساس اللون والعرق والقبيلة. بل ذهب أبعد من ذلك وحلّ مشكلة العبيد والإماء بالمساواة البشرية قبل التحرير. ففي صحيحي البخاري ومسلم حديث: "ولا يقل أحدكم عبدي أمتي، وليقل فتاي فتاتي." وأيضاً حديث: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمل عليكم عبد حبشي، كأنّ رأسه زبيبة"... تخيّل أن العرب المفتخرين بأنسابهم وقبائلهم، يخاطبهم الرسول بأن العبد الحبشي (المفرط في السواد –كأن رأسه زبيبة) قد يكون يوماً حاكماً، وعليهم السمع والطاعة. وفتح الإسلام أبواب التحرير ليكون بالتدريج وبجهد العبد نفسه في كثير من الأحيان، مما أدى للاندماج الطبيعي في المجتمع. كما أغلق أبواب الاسترقاق فكان الباب الوحيد هو المعاملة بالمثل في حالة أسرى الحرب. وما نراه في العصر الحديث من الهجوم على بلاد آمنة واسترقاق أهلها من قبل بعض التنظيمات لا يمكن تشبيهه بشيء من الممارسات الإسلامية في التاريخ، ولكننا نستطيع بسهولة إيجاد الشبه مع ممارسات الغرب –قريبة العهد– في استعباد الأفارقة الآمنين.