إنكار التطبيع تعبير صادق عن حب بيت المقدس
في التفاعل مع نصيحة الكاتب نصّار يقين
الدكتور ماهر الجعبري*
وجه الأخ المحترم الكاتب نصار يقين "نصيحة إلى حزب التحرير الكريم في ضوء بيان الحزب من زيارة أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي للقدس" نشرها على دنيا الوطن، وقد جاءت في سياق النصح الأخوي وبجو الحرص على الدعوة وحب بيت المقدس، مما أوجب علينا الرد عليها في هذا المقال، مع التقدير لصاحبها. وقد اختلطت مع النصيحة عدد من التساؤلات الفقهية مع الرؤى المستقبلية والوقائع السياسية، ولذلك سيركز هذا المقال على بعض الزوايا الرئيسة فيما كتب أخونا يقين.
إننا كجزء من الأمة الإسلامية لا يمكن أن نفصل أنفسنا عن جسدها المتلاحم المتراحم، ولا يمكن أن نقلل من أهمية المشاعر المتدفقة عبر ذلك الجسد الإيماني نحو القدس والأقصى، بل إننا نعمل جاهدين على بلورة زخم محرك للأمة من خلال تعظيم تلك المشاعر الإسلامية، ولذلك تشهد ساحات المسجد الأقصى على النداءات التي يوجها حزب التحرير إلى الأمة الإسلامية وجيوشها لتحمّل مسؤولياتها، باعتبارها صاحبة الحق والواجب، ولا اعتبار لحدود وهمية صنعها المستعمر -كما تفضّل أخونا في نصيحته. ونحن نحب المؤمنين المتحرّقين لنصرة الأقصى ونحب لهم الخير، ولذلك نتصدى للتطبيع الذي تمارسه الأنظمة، ولا نحب لأولئك الأحبة المندفعين في حب الأقصى أن يتلطخوا بما تحاول الأنظمة أن تورطهم به من كسر الحاجز النفسي أمام رؤية الجندي اليهودي يشهر بندقيته على باب الأقصى دون أن تغلي الدماء في عروقهم.
وبدافع ذلك الحب والحرص على المسلمين، نجتهد في حماية إخوتنا المخلصين من الوقوع في الحبائل السياسية التي يستهدفها اليهود عبر التطبيع، والتي تشارك الأنظمة العربية في ترويجها، في المجالات المتعددة التي تشمل التطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي، بالإضافة إلى التطبيع الأمني، والتطبيع المائي. ولا يتسع المقال لتفصيلها، وقد كتبت حولها مقالا قديما بعنوان "هل يكون التطبيع الثقافي جسرا لعبور يهود إلى وجدان الأمة ؟". وقد خصصت فصلا كاملا حول التطبيع في كتابي: "المجتمع المدني والتمويل الأجنبي- آفاق أم تحديات!".
وقد ذكرت فيه بعض مقاصد دولة اليهود من التطبيع، وهي التي تركز على محاولة إنهاء حالة الحرب والعداء الفعلي والنفسي بين المسلمين وبين اليهود، وإزالة الحواجز الفكرية والشعورية التي تقف سدودا منيعة أمام تقبل المسلمين لوجود دولة لليهود فوق تراب فلسطين، لكي يتحقق الأمن للدولة المسخ، ومن ثم إحباط الروح الجهادية في الأمة الإسلامية، بالإضافة إلى أهداف استعمارية أخرى تتعلق ببسط السيطرة والنفوذ، والمشاركة في نصيب من "كعكة" الخيرات في بلاد المسلمين، كما عبر شمعون بيريس عن هدف الاندماج في الشرق الأوسط، من خلال السوق الشرق أوسطية، كتصور مستقبلي لاستيعاب دولة يهود في المنطقة، أو ربما بشكل أدق لابتلاع دولة يهود للمنطقة. ولا تتحقق تلك الأهداف اليهودية إلا بالاعتراف الكامل على المستويات الرسمية السياسية وعلى المستويات الشعبية والحزبية والمؤسساتية، التي تستوجب فتح الحدود لحركة الناس والسلع والثقافات والعادات والفنون.
ولأن "الإسلام هو الدواء الشافي الذي ينفع الناس أبدا" ولا يصح أن تكون العقول البشرية حكما على قبح الأعمال أو حسنها بعيدا عن نصوص الشرع، كما يشير نص النصيحة، فإن الإسلام قد خاطبنا بنص صريح قطعي محرما كل قول أو عمل يُسهم في تمكين المستعمر من رقاب المسلمين، وذلك في قول الله سبحانه: "وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً"، وهو خبر يفيد الطلب (عند الأصوليين)، ولذلك يحرم على المسلمين الانخراط في برامج التطبيع التي تسهم في ترسيخ المحتل فوق تراب فلسطين "وتشرعن" وجوده.
وهذا الرأي –الشرعي والسياسي- لم ينفرد به حزب التحرير عن المسلمين، بل إن المتابع السياسي يدرك أن هنالك حشدا من الفتاوى الشرعية، والمواقف السياسية لعدد من الجهات مثل النقابات المهنية، كلها تقف وقفة صادعة ضد تلك البرامج التطبيعية، بل إن نقابة المهندسين الأردنيين مثلا قد أدرجت عهدا لديها يقضي بمقاومة برامج التطبيع، ولذلك فهي تجرّم زيارات المهندسين -المهنية- لفلسطين تحت الاحتلال.
أما حول تساؤل أخينا حول الفرق بين زيارة مسلم من إربد وآخر من نابلس للأقصى، فإننا لم نصدر يوما فتوى رسمية حول الزيارات الشخصية للأقصى، ولذلك نحن لا نتحدث عن زيارات الأفراد، وخصوصا من أهل فلسطين في الشتات، ممن يأملون بفرصة زيارة الأهل في فلسطين، وندرك أن ثمة إمكانية لخلاف فقهي في هذه المسألة، ولا نريد أن نلزم أحدا برأي في ذلك، عبر هذا المقال.
ولكننا دائما عندما نتصدى للبرامج التطبيعية نستهدف الجهات الرسمية-التنفيذية، ونقاوم جهود الأنظمة، ومحاولات الحكام، وضدها وحدها ينحصر كفاحنا وتصدينا، ولذلك لن تجدنا يوما في موقف كفاحي –فكيف تقول عدائيا؟- ضد أي فرد مسلم، لأن الكفاح السياسي لم يُشرّع إلا ضد الأنظمة والكيانات المستبدة لخلعها. ومن ثم فإن أخانا في نصيحته يلتقي معنا في الحديث عن "أن بعض الزائرين ليس من المستبعد أن يكون وراء زياراتهم شبهات ونوايا سيئة مغرضة، تتناغم مع مواقف حكامهم المتراخين المقصرين عن نجدة المسجد الأقصى، المرتجفين خوفا من علوج أمريكا وأنجاس أوروبا."
ولو تفحص أخونا الناصح دعوى أمين عام المؤتمر الإسلامي التي طالب المسلمين فيها بالزحف إلى المسجد الأقصى بعشرات الآلاف، لأدرك أن النتيجة الطبيعية لهذه الدعوى هو زحف تلك الألوف المؤلفة نحو سفارات كيان الاحتلال اليهودي في العواصم العربية، وهي سفارات لا يقوم لها بنيان إلا على أرضية الاعتراف بالاحتلال اليهودي للقدس وفلسطين، كما نصت مبادرة السلام العربية التطبيعية، وهي التي تحقق حلم شمعون بيرس الذي سطره في كتابه الشرق الأوسط الجديد.
ولذلك فالمحصلة السياسية لتلك الدعوى السياسية –الصادرة عن شخصية سياسية تمثل الأنظمة المتآمرة- هي "منع الذين عندهم جيوش من الزحف المقدس المأمول" على غير ما توقع أخونا الناصح.
وأما حول أشكال التصدي "الشعبي" لأي زائر سياسي يمثل الأنظمة المتآمرة والمتخاذلة عن نصرة القدس وأهلها في المسجد الأقصى أو المسجد الإبراهيمي فهو عمل واجتهاد من قبل أفراد مسلمين –من شباب حزب التحرير ومن غيرهم- تلتهب مشاعرهم حرقة على الأقصى أو حسرة على دماء المسلمين، ولم يسبق للحزب رسميا أن حرّك عملا سياسيا خاصّا في هذا الشأن، ولا أن أدان عملا سياسيا من هذا النوع، بل ترك تقدير الموقف الفردي على حاله دون تعقيب سياسي، وهذا نوع من التعبير السياسي.
أما ما ورد في نصيحة أخينا من أهمية التخطيط لتحرير الأقصى وفلسطين والتعمير، فليس ثمة من خلاف يذكر في هذا الشأن، إلا أن التخطيط السياسي-التنفيذي هو عمل الدول، ونحن متفقون أنها متقاعسة عن نصرة الأقصى بل متآمرة عليه، لذلك فلا تكتمل الجدية في ذلك التخطيط إلا بالعمل الجاد لإقامة الخلافة التي تعد الخطط الفعالة وتنفذها بطاقة الأمة الحية. وفي موازاة ذلك، لا يمكن أن نحبط جهود المخلصين ممن يفكرون للمستقبل أن يبدعوا في التحضير لما بعد التحرير. ولقد ذكر أخونا في نصيحته مثال صلاح الدين، وهو من هو في الوعي السياسي وفي الجهاد، فقد وحّد دولة المسلمين وحشد جندهم في طريق تحرير القدس، مما يحمل إنارة فكرية للعاملين لتحرير الأقصى، وتنحصر في كلمتين مفتاحيتين هما "الوحدة والجيوش"، وهما عنوان مشروع الخلافة، وضد مشاريع الأنظمة.
وإننا نتقبل نصيحة التريث، ونعمل بها، وندرك أن رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا –ممن يخالفنا- خطأ يحتمل الصواب، ونتفقه بالوحي القرآني " نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ "، وإذ ندعو الله أن نكون من المحسنين، ممن نهضوا لمشروع الخلافة العظيم الذي يغير وجه الأرض ويعيد صناعة التاريخ، لا نمجد أنفسنا ولا ننفي عن أنفسنا وشبابنا ما يقع به عباد الله من الخطأ.
إن مشروع الخلافة هو مشروع خير- بل خير مشروع على وجه الأرض- يسعى فيه وله شباب الحزب وقادته يصلون ليلهم بنهارهم قربة لله لا سمعة وتفاخرا، و"الأمر لله يضعه حيث يشاء" كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم، وكما بشر قرآننا: "لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ". فإن كتب الله خير عودة الخلافة على أيدي شباب حزب التحرير فهم –بأمر الله وتوفيقه- أنفع الناس للبشرية جمعاء، لأن الخلافة هي التي تخرج الناس من ظلمات الديمقراطية وفحشاء الرأسماليةـ إلى عدل الإسلام وظلال القرآن.
9/1/2015
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين