الدكتور ماهر الجعبري*
يأتي نشر هذا المقال ضمن أجواء التفويض الذي انتزعته أمريكا من مجلس الحكماء الأفغاني لتوقيع الاتفاقية الأمنية، وضمن أجواء سعي الائتلاف الوطني السوري لحضور مؤتمر جنيف 2 ممثلا للثورة. ومن اجل توصيل الفكرة وربطها، يستحضر المقال نماذج أخرى من التفويض السياسي من مثل تفويض السيسي في مصر، ومنظمة التحرير الفلسطينية.
عندما تكون الأمم والشعوب في طور التحرر من الاستعمار، تحتاج إلى قوة فكرية دافعة تمكّنها من خلع الهيمنة الخارجية، وتأهلّها لإقامة نظام حكم جديد يعبّر عنها، بينما يقف المستعمر على النقيض من حركات التحرر بقوته العسكرية وبمؤامراته السياسية لصد الأمة عن التحرر والانعتاق، مستندا إلى فئة من الأمة تكون قد ارتمت في حضن المستعمر، وتشكلت على طريقته وتبنت مصالحه، سواء عن عمالة أو عن جهالة.
وتكون هذه الفئة -المرتزقة أو المضلَّلة- هي أداة المستعمر في تمرير خططه السياسية ومصالحه الاستعمارية عبر مبدأ التفويض السياسي. وهذه الفئة تحتاج إلى ما يلي:
(1) إطار سياسي جامع ومن الأفضل أن يترأسه زعيم ذو "كاريزما" شخصية وحضور شعبي، أو زعيم قبلي أو ديني. ومن هنا تأتي فكرة التمثيل في الكيانات السياسية خلال مراحل التحرر –قبل تسلّم النفوذ والدولة على الأرض- من مثل منظمة التحرير الفلسطينية، والمجلس الوطني الليبي، والائتلاف الوطني السوري، ومجلس لويا جرجا الأفغاني... وغيرها.
(2) "شهادة سياسية" بأن هذه الفئة تمثّل الناس أصحاب قضية التحرر، وأنها تمتلك الصلاحية السياسية في التعبير عن تطلعاتهم وفي التفاوض نيابة عنهم مع المستعمر. ويتم ذلك إما عبر الانتخابات التي تكون في الغالب حلقة ضمن المخطط، أو عبر صناعة الرجالات من خلال إبراز وتضخيم السجل النضالي والشرف العسكري ورصيد الشهداء، أو عبر استقطاب "علماء دين" وقادة الطوائف ورجالات الحياة العامة ضمن إطار سياسي جامع، تحدده وتشكله القوة الاستعمارية نفسها، أو من ينوب عنها في المحيط الإقليمي من عملائها السياسيين.
(3) اعتراف دولي بالإطار التمثيلي مع إبراز إعلامي وحضور رسمي في المحافل الدولية والإقليمية. ويتصاعد الحضور السياسي عند احتضان ذلك الكيان عبر المؤتمرات السياسية في الدول الإقليمية، وعبر حصده للمقاعد السياسية في المحافل الدولية، وعبر المشاركة في القمم السياسية الجامعة.
أمام هذه التقدمة النظرية، تبرز نماذج من التفويض السياسي، يمكن استقراؤها لتجلية معالم هذا العمل السياسي، واستخلاص دوره المعطِل في عمليات التحرر.
1) النموذج الفلسطيني: تم إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية من قبل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر –حسب رؤية أمريكية- لغرض تمثيل القضية وأهلها، وتم احتضانها في القمم العربية، حيث اعتمد مؤتمر القمة العربي الثاني إنشاءها في 5/9/1964، وهي التي وصفها رئيسها الحالي محمود عباس في كتابه طريق أوسلو، ص 23 بالقول أنها كانت "وليدة الأنظمة العربية، ولم تكن تلك الحاجة تلبي رغبات الجماهير، لقناعة هذه الجماهير، إن ما تمخضت عنه الأنظمة العربية لا بد أن يكون على شاكلتها يحمل في بطنه جينات عجزها، ويرث عنها كل مواصفاتها وكل أسباب وهنها"، وأنها "بقيت أسيرة مواقف الأنظمة". بل لقد احتجت حركة فتح –في حينه حسب الموقع الرسمي لحركة فتح- على تأسيس المنظمة "باعتبارها أداة للدول العربية أقيمت لاستباق صحوة الشعب الفلسطيني". وعندما تم تحريك الأجواء للمسيرة السلمية، دفعت أمريكا نحو مزيد من الاعتراف الإقليمي والعالمي بمنظمة التحرير الفلسطينية، وحثّت على إشراكها في المفاوضات، فاعتمد مؤتمر القمة في الرباط في تشرين الأول 1974 منظمة التحرير "ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني"، ولذلك فقد تأهلت المنظمة سياسيا عبر سلسلة التفويضات إلى توقيع اتفاقية أوسلو الخيانية.
ثم لما تمخضت المنظمة عن سلطة تحت الاحتلال، صار لا بد لتلك السلطة من كيان ممثل للشعب لتعديل ميثاق منظمة التحرير بما يتوافق مع الدور الأمني للسلطة الوليدة، وتمرير الاتفاقيات الأمنية لحماية أمن الاحتلال، فكانت الانتخابات التشريعية عام 1996، وتمثلت باكورة انجازات المجلس "التمثيلي" المنتخب في إقرار تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني بتاريخ 24/4/1996، وإلغاء المواد التي تنظّر للتحرر الكامل والقضاء على دولة اليهود. ثم لما احتاجت أمريكا أن تجمع الدمغة "الإسلامية" مع الدمغة العلمانية لتلك المسيرة السلطوية، ورّطت المقاومة الإسلامية للمشاركة في الانتخابات التشريعية عام 2006، مما ممثل انقلابا فكريا على رفض مبدأ التفويض السياسي لتمرير مخططات المستعمر.
2) النموذج المصري: تمثلت ذروته في التفويض الشعبي الذي طلبه الفريق السيسي بعد الانقلاب على الدكتور مرسي، حيث خطب طالبا تفويض الشعب لقمع الشعب، مما يمثل استخفافا صارخا بالشعوب. ويعتبر هذا النموذج تجسيدا واضحا لاستخدام مبدأ التفويض السياسي في الحفاظ على الهيمنة الأمريكية التي لم تتمكن "نصف الثورة المصرية" من خلعها، لأنها انشغلت بمبدأ التمثيل أكثر من انشغالها بمبدأ التغيير.
3) النموذج الأفغاني: تمكنت أمريكا من استحضار الإرث الثقافي الأفغاني، واستدعت مجلس اللويا جيركا من التاريخ الأفغاني بعدما غزت أفغانستان لترسيخ أقدامها على الأرض، وهو نموذج من نماذج التمثيل السياسي القديمة، وقد صادق قبل أيام على اتفاقية أمنية أمريكية، تمكن أمريكا عبره من توفير الغطاء السياسي للحفاظ على تواجدها ونفوذها العسكري في أفغانستان، مما يتصادم بشكل سافر مع أي تطلع بسيط للتحرر من الهيمنة الاستعمارية. ومع أن المجلس الأفغاني مستند إلى خلفية إسلامية، إلا أنه تجاوز الأحكام الشرعية القاطعة في حرمة تمكين المستعمرين من احتلال بلاد المسلمين (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)، بل ناقض تاريخ الأمة وثقافتها وأقّر بقاء قوات احتلال فوق أراضي المسلمين.
4) النموذج السوري: تمثل بداية في تشكيل المجلس الوطني السوري مع بدايات الثورة لمحاصرتها ضمن النظرة الغربية في الإصلاح الترقيعي على أساس النظرة العلمانية، ولإلقاء الثورة في حضن الاستعمار، ثم حصل تنازع بين القوى الاستعمارية على الاختراق والنفوذ، وتم تشكيل الائتلاف الوطني السوري من اجل تمثيل الثورة عموما. ومن الواضح للمتابع السياسي أن غالبية المجريات السياسية في الفنادق الدولية هي حول تأهيل هذا الائتلاف الوطني لتمثيل الثورة في مؤتمر جنيف 2 من أجل تمرير الحل السياسي الذي تفرضه أمريكا، بحيث تُبقي على نفوذها في سوريا تحت غطاء الثورة ومن يمثلها.
إن القاسم المشترك في كل هذه النماذج أنها تجتمع على مصلحة واحدة وهي الالتفاف على ما يحتل عقول الناس وما يجتاح قلوبها من تطلعات التحرر الحقيقية، إلى مسارات تضليلية، تمكّن المستعمر (الأمريكي على وجه الخصوص) من الإبقاء على حضوره الفعلي عبر التواجد العسكري أو الأمني على الأرض، أو من خلال حضوره السياسي الفاعل عبر العملاء. ولا يكون دور هذه المجالس التمثيلية إلا التمثيل على الناس بأنها تحمل نزعاتهم التحررية بينما هي في الحقيقة تسير حسب الرؤى الأمريكية إلى أبعد حد.
وفي هذا السياق، لا بد من التمييز بين التأثير السياسي للأحزاب السياسية، وبين التنافس السياسي على التمثيل خلال مراحل التحرر: إذ إن الأحزاب التي تستهدف التغيير في الأمة تعمل على أن تكسب عقول وقلوب الناس على فكرة التحرر من الهيمنة، وهي لا تحتاج إلى تمثيل سياسي (رسمي)، لأن مبدأ التمثيل لا يحتاجه في الغالب إلا المفاوض مع قوى الاستعمار ومن أجل توقيع اتفاقيات سياسية. أما قوى التغيير الحية والمخلصة فإنها تجمع الناس ليلتفوا حول مشروعها التغييري بل يحملوه، ولا تسعى معهم لمجرد كسب أصواتهم للتمثيل.
والخلاصة أن الأحزاب التحررية -إذ تخاطب الداخل- تعمل على تغيير وعي الناس ومن ثم تكوين رأي عام مؤيد لمشروعها، أما الفئة المرتزقة في حركات التحرر فهي تتنافس على مخاطبة ومغازلة "الخارج"، بينما تعمل على تضليل الناس عبر دعاوى التحرر، وهي تمثّل عليهم من أجل منع التحرر.
ولا شك أن البون شاسع بين من يخاطب الأمة من الداخل ويبنيها محذرا من التآمر الخارجي، وبين من يخاطب "الخارج" –عبر دعوى التمثيل- ليهدم الأمة من الداخل، ويمرر التآمر الخارجي.
*عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
2013/11/30