يبدو أن عدداً متزايداً من الأمريكيين ضاقوا ذرعا من دفع الضرائب التي تمول حربين بعيدتين وخطط إنعاش لا يرون أي انعكاسات إيجابية ملموسة لها. وبدؤوا يحثون ولاياتهم على إبطال القوانين الفدرالية وحتى أنهم يطالبونها بالانفصال. هؤلاء الأمريكيون سواء منهم من يدافع عن منح مزيد من السلطة للولايات أو انفصالها عن الاتحاد، تجمع بينهم نقطة واحدة وهي أنهم ضاقوا ذرعا بالدولة الفدرالية.
قال توماس نايلور البروفسور السابق في الاقتصاد وزعيم الحركة من أجل جمهورية فرمونت الثانية في 11-10-2009، "إنّ الدولة الفدرالية فقدت سلطتها المعنوية وحكومتنا تخضع لأوامر وول ستريت". وقال كيركباتريك سايل، من معهد ميدلبيري الذي يدرس حركة الانفصال وتقرير المصير "يجري الحديث اليوم عن إبطال قوانين فدرالية على مستوى الولايات والانفصال كما جرىالحديث في سنة 1865". بينما قال ريك بيري حاكم تكساس مؤخرا في اجتماع للمحافظين أنّه يؤيدالانفصال.
وإذا ما أضيف إلى ذلك أنه تنشط جماعات تدعو للانفصال في 10 ولايات على الأقلبينها تكساس (جنوب) وفيرمونت (شمال شرق) وهاواي (المحيط الهادئ) وألاسكا (شمالغرب)، فهذا يشير إلى أنّ هناك توجه عند بعض الولايات الأمريكية الهامة للاستقلال الكامل أو الجزئي عن الاتحاد الفيدرالي، ومن أمارات ذلك أيضا أن قامت العديد من الولايات الأمريكية هذا العام بإعداد تشريع يؤكد على استقلالها عن الحكومة الفدرالية، فعلى سبيل المثال أعد المشرعون في ولاية أريزونا مشروع قانون يعلنون فيه استقلال ولايتهم، ويتضمن المشروع إعطاء الولاية حق فرض القوانين العرفية واستدعاء الجيش لحماية الولاية، جاء فيه : "... إن أقدم الرئيس أو أية شخصية فيدرالية أخرى على فرض قوانين الطوارئ أو أية قوانين مماثلة لها بدون إعلان رسمي من قبل الولاية نفسها بموافقتها على ذلك ... فإن جنود الولاية سيرجعون إلى ولايتهم ليكونوا تحت تصرف حاكم الولاية لغاية انتخاب رئيس جديد...".
هذا واتخذت ولايات New Hampshire, Montana, Michigan, Missouri, Oklahoma, California وولايات أخرى مواقف مماثلة، بينما تبحث ولايات من مثل Colorado, Hawaii, Pennsylvania, Montana, Arkansas, Idaho, Indiana, Alaska, Kansas, Alabama, Nevada, Maine, Illinois اتخاذ مواقف مماثلة.
إنّ استمرار الأزمة الاقتصادية التي تعصف بأمريكا وتوقيت إعلان تلك الولايات لاستقلالها، له دلالات أبعد مما تبدو عليه، فمن السهل ملاحظة أن هناك العديد من الضغوط على الولايات للمحافظة على الائتمان كي تتمكن الولايات من الاستمرار في العمل، إلا أنّ أزمة الائتمان قد أعاقت إلى حد بعيد قدرة العديد من الولايات على تأمين القروض والقيام بواجباتها. فالبنوك ترفض الإقراض، والمصادر الضريبية لا تكفي لسد مستلزمات هذا العام والأعوام القادمة. حيث وصف "المركز الأمريكي لأولويات الميزانية والتخطيط" على صفحته الإلكترونية الوضع قائلا " تواجه الولايات أزمة مالية كبيرة، فعلى الأقل هناك 46 ولاية تواجه نقص في ميزانياتها في هذا العام والعام القادم، وستستمر المشاكل المالية الحادة هذا العام وفي العام القادم على حد سواء. وأن العجز للسنة المالية للولايات لغاية نهاية هذا العام وعام 2010 و2011 هو أكثر من 350 مليار دولار، وأن العديد من الولايات لن تتمكن من تحمل العجز المالي أو الاقتراض لتتمكن من سد نفقاتها... وكنتيجة لذلك فإن أمام الولايات خيارات يمكن أن تأخذ بها خلال الأزمة المالية: إما أن تستنفذ الاحتياطي أو أن تقلص نفقاتها وتزيد الضرائب، وقد بدأت الولايات بالفعل في سحب الاحتياطي المتوفر إلا أن الاحتياطي المتبقي غير كاف لتتمكن الولايات من الحد من الانكماش أو الكساد. وبالنسبة للخيار الثاني وهو تقليص النفقات وزيادة الضرائب فإنه سيتسبب في تباطؤ النمو الاقتصادي في فترة الانكماش، وسيساهم في تباطؤ الاقتصاد العام للولايات."
فهناك شبه إجماع على أن أزمة الائتمان ستتعاظم وستستمر، وأن خطة اوباما للإنقاذ لن تحل مشكلة ميزانيات الولايات، أي أنه غالبا ما ستلجأ إلى زيادة الضرائب كمحاولة يائسة لسد العجز في ميزانياتها. ولكن تقليص النفقات على الخدمات وفرض الضرائب على الناس سيؤدي إلى فقدان العديد من الناس وظائفهم وخسران بيوتهم مما سيؤدي إلى النزاع المدني. فنسبة البطالة الرسمية 8% إلا أن التقديرات غير الرسمية تصل إلى 14%. وباستمرار أزمة الائتمان فإنّ هذه النسبة ستزداد والإيرادات الضريبية ستنقص. وسيستمر الناس في سؤال سياسييهم في مختلف الولايات لماذا يتم استخدام أموالهم في إنقاذ وول ستريت على حساب ولاياتهم، وهذا الحال سيفرض على العديد من الولايات بحث إعادة تقييم وجودهم في الاتحاد الفيدرالي.
وهذا ما دفع الحكومة الفيدرالية إلى أن تتوقع نشوب مشاكل مع بعض الولايات نتيجة الأزمة الاقتصادية، فقبل بضعة أشهر ناقش السيناتور عن ولاية أوكلاهوما جيمز انهولف، والسيناتور براد شيرمان عن ولاية كاليفورنيا ناقشا مع وزير المالية هنري بولسان بشكل علني أسوء الاحتمالات بسبب دفعه نحو خطة الإنقاذ، وقالوا بأن هذه الاحتمالات يمكن أن تصل إلى حد فرض القوانين العرفية. وفي كانون الأول 2008 صدر تقرير تحت عنوان " المجهولون المعروفون: صدمات إستراتيجية غير مألوفة" عن مؤسسة تطوير إستراتيجية الدفاعِ نشر من قبل كليَّةِ دِراسات الحروبِ الإستراتيجيةِ حذر التقرير من أن على قوات الولايات المتحدة أن تكون على أهبة الاستعداد لمواجهة العنف داخل الولايات المتّحدةِ والذي قد ينجم من الانهيار الاقتصادي غير المتوقّع أو بطلان التأثير السياسي والتعليمات القانونية.
أما البروفسور الروسي "ايجور بانارين" المحلل السابق لاستخبارات الاتحاد السوفيتي أل KGB، وعميد أكاديمية وزارةِ الخارجية الروسيةِ للسياسات المستقبلية فقد توقع تفكك الولايات المتحدة في عام 2010. وقال " إن هناك نسبة تتراوح ما بين 45% إلى 55% في أن التفكك سيحصل هذه الأيام"، وتوقع أن تحصل هجرة جماعية، وانهيار اقتصادي، وانحطاط خلقي في المجتمع ما سيتسبب في نشوب حرب أهلية وانهيار للدولار، وأنه بحلول حزيران أو تموز 2010 ستتفكك أمريكا إلى ست قطع.
والخلاصة أنه سواء تفككت أمريكا في السنتين القادمتين أم لا فإنّ المهم أن أمريكا ستنهار وستسقط عن عرشها في القريب. ولأن سقوط أمريكا هو سقوط للمبدأ الرأسمالي قبل أن يكون سقوطاً لأمريكا وللعالم الغربي كله، المبدأ الرأسمالي الذي لم يجلب سوى الضنك والشقاء للعالم، المبدأ الذي سحق البشرية وسخرها لخدمة طغمة جشعة لم ترحم أحداً ولم تأخذها بالبشرية رحمة أو شفقة. فإنه لن تكون العاقبة إلا للمبدأ الإسلامي الذي سيعم العالم ولدولة الخلافة التي ستنشر الخير في ربوعه وتنير الظلمات وتقود البشرية إلى خير الدنيا والآخرة. ولعل ما يحدث يذكر المسلمين بدولة الإسلام الأولى، دولة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قامت بعد أنّ بدأ الضعف يدب في جسد الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، وذلك الضعف والوهن الذي أصاب الإمبراطوريتين ليس أشد من الضعف الذي دب في جسد البلاد الرأسمالية وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا وأوروبا، على الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية والحضارية والأخلاقية. فهذه إرهاصة من إرهاصات النصر القادم والتمكين.
ولا يغيب عن أذهاننا أنّ كل هذه التوقعات مبنية على عدم وجود منازع لأمريكا أو منافس، فكيف لو قامت دولة الخلافة التي يخشى الغرب قيامها، بالطبع سيكون انهيار أمريكا والرأسمالية أسرع بكثير من التوقعات الحالية.