الربيع الثوري ... هل من رؤية اقتصادية ثورية؟
الدكتور ماهر الجعبري
بينما لا زالت ثورة الشام تخوض صراعا حضاريا وسياسيا وعسكريا يمكن أن يفضي إلى تغيير المعادلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المفروضة على الأمة، تمخضت ثورات الربيع العربي الأخرى عن توصيل إسلاميين للحكم دون تمكين الإسلام (مقال: حكم الإسلام ... أم حكومات الإسلاميين")، وتم تمييع الحلول الثورية لقضايا الأمة بعد حقنها بجرعة تسكين قوية وتمرير "نصف ثورة"، واندمج الحكام الجدد في جوقة الحكام القدامى، ودخلوا أروقة السياسة العربية الرسمية، يعزفون ذات الألحان الرأسمالية البالية.
ثار الناس على الكيانات السياسية للتخلص من أشخاص الحكام المستبدين، وفي الوقت نفسه، للتحرر من تبعتيهم للغرب ومن رؤاهم الاقتصادية ومرجعياتهم السياسية، ومن أجل تحطيم قفص العلاقات الدولية الذي حبسوا الأمة فيه، وللتمرد على البرامج الاجتماعية- التغريبية- التي فرضها الحكام على الأمة، وكان ذلك تحت شعار ثوري انقلابي؛ "الشعب يريد إسقاط النظام."
كانت ثورة انقلابية على "طريقة العيش" تعيد الاعتبار لقيم المسلمين في الاقتصاد وفي الاجتماع وفي الإعلام وفي التعليم ... من أجل بلورة نهضة شاملة تقوم على الارتقاء الفكري قبل النمو المادي في الاقتصاد.
فهل حصل انقلاب في النظرة الاقتصادية؟
سؤال يتبادر للذهن لدى متابعة الدورة الثالثة للقمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية التي عقدت في الرياض أخيرا، وخصوصا لدى متابعة طرح الأنظمة التي تسلّقت على الثورات ترفع شعار الإسلام ... سؤال يتبلور: أين هو النظام الاقتصادي الإسلامي المتضمن في الشعار التقليدي "الإسلام هو الحل".
إن مشروعية هذا السؤال تتأكد عندما نلاحظ أن كل ما طُرح ويطرح على ألسنة الحكام الذين تسلقوا على أكتاف الثوار -في المؤتمر وخارج أروقته- هو ضمن ممارسة "الرأسمالية هي الحل".
إذ من الواضح أن المؤتمر الذي أقرّ بوجود تحديات اقتصادية وسياسية، تغافل عن كل "المتغيرات الجيوسياسية" التي طرأت في المنطقة -حسب تعبير المحللين- واجترّ الحديث عن تفعيل آليات رأسمالية مثل اقتراح صندوق النقد العربي، وذلك ضمن اقتراحات عامة فضفاضة صيغت بلغة إنشائية -كأنها لطالب امتحان ثانوية- عند الحديث عن إنشاء نظام اقتصادي عربي يحقق الفائدة لجميع الشعوب العربية، وعن التكامل الاقتصادي، مع دغدغة المشاعر بالحديث عن تحقيق العدالة الاجتماعية، ومكافحة معدلات الفقر والبطالة.
فأين هي النظرة الاقتصادية الانقلابية التي تستلهم روح الثورات وتُستمد من ثقافة الأمة الإسلامية التي تطرح مشروعا حضاريا بديلا عن الرأسمالية العالمية المتهاوية؟
انطلق المؤتمرون من واقعية التبعية السياسية، ومن مرارة تقسيم الأمة لترويج الحديث الممجوج عن تعزيز العمل العربي المشترك، وتحدثوا عن تكامل اقتصادي بين كيانات تجسّد فواصل سايكس بيكو، وعن مبادرة عربية للتنمية المستدامة من خلال تشكيل مجلس وزاري عربي يمثل ذات الأنظمة، التي ظلت تنهب خيرات الأمة وتستحوذ على ملكياتها العامة من النفط والمعادن، وتُهربها للغرب المستعمر. إذ من الطبيعي أن يغيب عن مؤتمر الحكام مفهوم وحدة الأمة ومضمونها الثقافي.
تغابى المؤتمرون عن نظام الإسلام الاقتصادي الذي لا يعرف المكوس والضرائب، فاقترحوا إقامة منطقة للتجارة الحرة، وتحدثوا عن سوق عربية مشتركة على غرار السوق الأوروبية المشتركة (الرأسمالية). ثم تغابوا في كل ذلك عن الصراع الحضاري ضد العولمة الغربية، واقترحوا فقط "التعامل مع الآثار السلبية للعولمة"، ولم يجرؤوا على التصدي لها حضاريا وسياسيا واقتصاديا على أساس الإسلام الذي يطرح نفسه كأصيل –وليس كبديل- حضاري.
تحدثوا عن مواجهه الاضطرابات المالية والتقلبات في أسعار الصرف، ولم يجرؤا أي منهم على الحديث عن إنشاء نظام مالي إسلامي يقوم على الذهب والفضة كنقد يعيد الاستقرار المالي للمسلمين وللعالم، كما شهد التاريخ قبل أن تتفتق أمريكا عن إلغائه في اتفاقية بريتون وودز، والتي تم إنشاء صندوق النقد الدولي على أساسها.
تعاملوا مع ممالكهم كأنها شركات خاصة بهم وبالعائلات الحاكمة، واستجدى الضعفاء فيهم "استثمار رؤوس الأموال العربية (للأقوياء منهم) في الدول لعربية"، وتناسوا حقوق الملكية العامة للمسلمين عموما في النفط وفي خيرات الأرض، وظلّت عقليتهم رأسمالية تحافظ على منطق خصخصة تلك الخيرات ونهبها، وتحرم الأمة من استرداد حقوقها فيها.
إذن هو خطاب رأسمالي بامتياز وبلغة الأنظمة العربية البائدة، وليس ثمة من فكرة (انقلابية) واحدة، يمكن الإشارة إليها لا في هذا المؤتمر ولا في برامج حكومات الإسلاميين. وهي قمة حافظت بجدارة على لغة الحكام العرب، قبل الثورات كما بعد الثورات.
وحتى عند الحديث عن الاستراتيجيات والآليات، من مثل "إستراتيجية لتطوير استخدامات الطاقة المتجددة" ومن مثل "الأمن الغذائي العربي"، لم يجرؤ أيّ من حكام ما بعد الثورات على التحذير من نهب مقدرات الأمة واستثمار ما يقرب من 2-3 تريليون دولار في أمريكا والغرب، ولم يجرؤ على فرض مشروع حقيقي لتحقيق الأمن الغذائي عبر استثمار سلة الغذاء في السودان بمشروع في حدود 13 مليار دولار (حسب معطيات طرحها خبراء مصريون على قناة المصرية مساء الاثنين 21/1/2013).
وقبل كل ذلك اجتهد المؤتمرون في ستر عورات التبعية السياسية والصراع السياسي فيما بينهم في ظل اختلاف الارتباطات والولاءات السياسية والاصطفافات، وتناسى حكام "الربيع العربي" أن هذا المؤتمر هو امتداد لحقبة التخاذل والتآمر التي انفجرت الثورات ضدها، إذ يأتي هذا المؤتمر بعد قمتي الكويت في 2009 وشرم الشيخ في 2011.
إنه مؤتمر لأنظمة مستبدة تصرّ على الرأسمالية فسلفة ونهجا وكأدوات، ولم يحاول أي منهم الخروج قيد أنملة عن خط الرأسمالية التي تتعفن في بلادها في ظل أزمة مالية خانقة، أعجزت أمريكا وأوروبا منذ سنوات. وهنا يتهافت منطق الثورات التي رضيت بتحقيق "نصف ثورة" وأوصلت إسلاميين رضوا بالرقص على حبال الرأسمالية (بدعوى المرحلية للعبور إلى الإسلام!).
إن "تجربة" الاقتصاد الرأسمالي قد فشلت في عقر دارها، وتمخضت عن أزمة اقتصادية عالمية فلماذا تصرّ أنظمة ما بعد الثورات على حبس روح الثورة ضمن حدود تلك التجربة -الفاشلة واقعيا والباطلة مبدئيا؟ وهل هنالك من حاكم مخلص يمكن أن يصرّ على إعادة إنتاج تلك التجربة في الأمة؟
إن الإسلام يملك رؤية اقتصادية متكاملة وهي على تضاد تام مع الرؤية الرأسمالية في الأسس، وفي الكيفيات وفي الآليات، وقد آن الأوان للأمة أن تدرك ما تملك من ثروة فكرية قبل ثروتها المادية:
إذ حدد الإسلام المشكلة الاقتصادية في "توزيع" الثروة وليس في "إنتاجها" كما في الرأسمالية، وحرّم الربا ونشاطات الاقتصاد الوهمي الذي تزخر به الأسواق المالية، وسدّ الباب أمام التجارة على الورق بدون القبض الفعلي للسلع، وقبل كل ذلك أبطل نظام النقد الورقي غير المربوط بالذهب والفضة، وحدد ثلاثة أنواع من الملكيات شملت الملكية العامة وملكية الدولة والملكية الفردية، وهي معالم عامة لنظام يقضي على الرأسمالية والظلم والفقر الناتجين عن تطبيقها، ويحقق الرفاهية للناس تحته، فكان الإسلام بذلك صاحب رؤية انقلابية في الاقتصاد كما في السياسة والاجتماع ...
وستظل هذه الرؤية الانقلابية غائبة عن تداول الأمة وعن تطبيقها طالما أنها مبتلاة بمن يروّج الرأسمالية عبر أسلمتها.
24-1-2013
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين