مشروع السلطتين الفلسطينيتين 4
الترويض عبر الدماء والغذاء والإغواء
الدكتور ماهر الجعبري
بعد الانشطار السلطوي، استمرت لغة حماس السياسية في التطور نحو الاندماج في اللعبة الدولية، فيما استشرست سلطة رام الله وكشفت عن أنيابها ضد أهل الضفة الغربية، وتقدمت في تحقيق المشروع الأمني منذ الأحداث الجماهيرية ضد مؤتمر أنابوليس التطبيعي. ولم تثمر التحركات الأمريكية العلاقاتية أي شيء ملموس على الأرض، عدا عن تعزيز المشروع الأمني الذي قاده الجنرال ديتون. ودخلت أمريكا مرحلة انعدام الوزن في انتخابات 2008، وبدأت "إسرائيل" توجه الضربات العسكرية لغزة.
وفيما أخذت قيادة السلطة في رام الله تتحرك نحو الحلول السلمية ضمن جغرافية الضفة الغربية، انشغلت حكومة حماس في إدارة شؤون غزة كأنها تدير جمعية خيرية، وانهمكت في تأمين الموارد اللازمة لشعب تحت الاحتلال يعيش حالة سلطوية مشوّهة، فيما ظل المشهد الدولي يتحرك بعيدا عن إشراكها فيه، إذ أصرت القوى الدولية على استمرار حصار حكومة غزة للحصول على الاعتراف الصريح "بإسرائيل" تحت الشعار الإسلامي.
وضمن هذه الأجواء من الحصار والتجويع، وإدبار الأنظمة العربية عن مآسي غزة، تمرّد أهل غزة واندفعوا نحو الحدود مع مصر في هبة شعبية أسقطوا فيها حواجز الحدود (في كانون ثاني 2008)، وكادت هبتهم أن تفضي لحركة عارمة من أجل إسقاط جدار من جدر سايكس بيكو التي تمزّق الأمة.
أما النظام المصري السابق، فضبط أعصابه حتى ينفّس الغضبة، لئلا يدمره ضغط الانفجار الشعبي. ومن ثم نسّق مع حكومة حماس في غزة لإعادة بناء جدار الفصل كما أعلن الزهار (مفكرة الإسلام 2/2/2008)، (ثم قام النظام المصري في العام 2009 ببناء الجدار الفولاذي في محاولة لمنع حفر الأنفاق التي أصبحت قنوات نقل البضائع لكسر الحصار على غزة).
وظل موقف الاعتراف الصريح بدولة "إسرائيل" صعبا على قادة حماس، وهي التي ضمت في جناحها العسكري من اندفع إلى صفوفها من أجل جهاد اليهود، ومن يعتبر أي اعتراف بدولتهم مخالفة لقطعيات الإسلام، ولذلك ظل الاعتراف الصريح يشكل خطرا فكريا على بنيان الحركة.
وكان التجويع أحد عناصر التطويع للرافضين للاعتراف، وكانت إراقة الدماء هي العنصر الآخر للتخلص من الرافضين للاعتراف، ولترويض من يتبقى منهم، ومن أجل تركيع أهل فلسطين عموما. وكانت "إسرائيل" قد باشرت ذلك القتل في مطلع العام 2008، ثم كررت دولة الإجرام المارقة مشاهد القتل في آذار 2008، فيما واصلت رجالات السلطة في رام الله لقاءاتها السياسية مع قادة "إسرائيل" حتى وهم يقصفون غزة، دون حياء، وتعاملت سياسيا مع العدوان على شعبها على أنه يحقق مصالحها.
وبالطبع، كانت تلك العمليات "الإسرائيلية" المحدودة ضد غزة ذات رسالة سياسية، ومضمون "تأديبي" لحركة حماس، وأرادت "إسرائيل" من خلالها جر حماس نحو الخنوع لمسيرة المنظمة والسلطة. ولذلك تتابعت بعد تلك العمليات مطلع عام 2008 جلسات الحوار بين شقي السلطة ضمن جولات متعددة، إلى أن تم التوقيع على اتفاق صنعاء في آذار 2008 (بعد اتفاق مكة التي تم قبل عام من اتفاق صنعاء هذا). ولكنه أيضا لم يسمن ولم يغنِ من جوع.
وفي سياق دورها في إغواء الناس وتضليلهم، انشغلت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية في تنفيذ مشاريع التخريب الثقافي والسياسي، وأخذت تقمع محاولات الناس للتصدي لذلك التخريب، بل تعتقل من يحاول الوقوف ضد برامجها، كما فعلت مع شباب حزب التحرير في منطقة بديا في محافظة سلفيت في نيسان 2008. وباشرت سلطة رام الله تنسيق نشاطات التطبيع في الضفة الغربية، انطلاقا من المؤتمر الاقتصادي الأول في بيت لحم في أيار 2008، وأخذت وزارة الاقتصاد الفلسطيني تتأهب لتكون جسرا للاختراق الاقتصادي اليهودي للدول العربية، كما صرّح لاحقا وزير الاقتصاد الفلسطيني. وظلّت السلطة تمدّ الجسور لعبور المطبعين مع الاحتلال اليهودي.
وفي الوقت نفسه، فرضت أجهزتها الأمنية طوقا أمنيا على كل نشاط خارج سرب السلطة، حتى ولو خرقت قانونها الذي تدّعيه، وتصاعدت مطارداتها لأفراد حماس في الضفة الغربية، ومنعت عقد المؤتمرات السياسية والمسيرات لمن يكافحها، وتصدت لمنع المسيرات التي دعا إليها حزب التحرير في ذكرى هدم الخلافة (صيف 2008)، وقمعت أي محاولة للتحرك السياسي وخطفت من أنصار وشباب حزب التحرير من الذين تصدوا للمنع. وفي تموز 2008، قمعت السلطة مسيرة نسائية لحزب التحرير في الخليل.
وتصاعد التراشق الإعلامي بين رجالات الحركتين (حماس وفتح)، وظلت رجالات السلطتين تجسّد حالة الاستقطاب الحاد بين قطبي السلطة في غزة وفي رام الله حتى وصل الأمر إلى حد التناحر على ترتيبات سفر الحجاج في العام 2008، واستمر الردح بين رموز السلطتين. وتجسدت حالة الصراع المرير على السلطة بين الطرفين.
وفي محاولة جديدة لترويض حماس نحو القبول بالحلول الأمريكية، كان الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر (مهندس اتفاق كامب ديفيد مع السادات) قد تحرّك دبلوماسيا، وصار يصف الحصار على غزة بأنه جريمة، وأراد من ذلك التحرك عدة أمور، على رأسها استدراج قيادات حماس نحو تحركاته، ليوفر لها التبرير الأخلاقي للقاء به، ومن ثم ليمهد بتلك التصريحات للترتيب لفترة تهدئة بين حماس "وإسرائيل". إضافة لذلك، استهدفت تحركات كارتر تحسين صورة أمريكا المهترئة أمام الأمة الإسلامية على وقع الجرائم الأمريكية ضد المسلمين.
ولكن "إسرائيل" رفضت السماح لكارتر أن يدخل غزة في نيسان 2008، فحاول كارتر عقد لقاء مع رئيس حكومة غزة (إسماعيل هنية) في القاهرة (كارتر يطلب من مصر لقاء هنية على أراضيها)، ولم ينجح. ثم عقد لقاء مع خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في دمشق بعد لقائه وفد رفيع من حماس في القاهرة، ورد مشعل على مقترحات كارتر حول الحل السياسي بأن "الحركة لا ترغب بمنح إسرائيل مكتسبات بلا ثمن" ("العرب" تنشر تفاصيل اللقاء الذي تم بين كارتر ومشعل)، وهي لغة تُفهم سياسيا أنها تربط تقديم التنازلات بدفع أثمان من الطرف الآخر، فيما تفهم حركيا بشق النفي الأول فيها.
وعندما كشف كارتر أن حماس أبلغته أنها ستعترف بحق "إسرائيل" في العيش بسلام إذا ما تم التوصل إلى اتفاق سلام يوافق عليه الشعب الفلسطيني في استفتاء، عاد مشعل ونفى نية حركته الاعتراف "بإسرائيل"، فيما أكد مبدأ الهدنة وأسلوب عرض الاتفاق على استفتاء شعبي لإقراره (مشعل بعد لقائه كارتر: حماس لن تعترف بإسرائيل!).
وهكذا أخذت تصريحات حماس حول القبول بدولة فلسطينية في حدود عام 1967 تتواتر وتتصاعد لهجتها، وصارت حماس تُرجع ذلك إلى وثيقة الأسرى التي صدرت عام 2006، بعد أول احتدام دموي فصائلي بعد الانتخابات التشريعية، وتتذرع بربط الحل بإجراء استفتاء شعبي، وتختفي خلف فكرة تفويض منظمة التحرير الفلسطينية لإجراء المفاوضات (هنية: كارتر لا يعمل وسيطا بين "إسرائيل" وحماس).
ثم ترددت في الإعلام تعبيرات ومصطلحات سياسية متناقضة في خطاب حركة حماس، وبدأت كأنها "تحجل" على رجل واحدة في كل مرة، في مشهد يجسد المثل الشعبي القائل: "أولُ الرقص حجلان". وكشفت أنها تعبر مسيرة الترويض على خطا فتح في العبور الإعلامي للاعتراف والتنازل.
وبعد تلك اللقاءات السياسية والتصريحات الإعلامية، دخلت حماس في اتفاقية تهدئة مع "إسرائيل" في حزيران 2008 ولمدة 6 أشهر، وقد تمت الاتفاقية برعاية مصرية، وتمخضت عن تحركات كارتر وتولدت عن مباشرته لمسيرة الترويض، فكشفت تلك الرعاية والعلاقة بالطبع عن إرادة وتوجيه أمريكي لتلك الاتفاقية، من أجل إغواء حكومة حماس للاندماج في وحل دبلوماسية المشاريع السياسية.
إلا أن "إسرائيل" المسكونة بعقليتها الأمنية لم تكن ترغب في تمكين حماس في غزة، ولم يرفع الجيش "الإسرائيلي" الحصار عن غزة حسب الاتفاقية، بل نفّذ جيش العدوان اليهودي غارة على غزة قبل انتهاء فترة التهدئة في 4/11/2008. وفي اليوم الذي انتهت فيه مدة التهدئة (19/12/2008) ردت المقاومة بإطلاق 130 صاروخا من غزة ضد اليهود في البلدات المحتلة المجاورة.
وبعد أيام من ذلك التصعيد العسكري، توجّهت وزيرة الخارجية "الإسرائيلية" ليفني إلى القاهرة في 26/12/2008 لتنسيق الحرب "الإسرائيلية" على غزة مع النظام المصري الذي يرعى المصالح الأمريكية في المنطقة، واتخذت ليفني قاهرة العز بن عبد السلام منصة التهديد، وصرخت فيها "كفى ... كفى". وكان ذلك المشهد الوقح عارا على النظام المصري الهالك حيث تم بحضور وزير الخارجية المصرية، الذي خنع في حالة صمت القبور أمام تهديد المرأة اليهودية، ليكشف بذلك أن النظام المصري كان شريكا في التآمر على مذبحة غزة (ليفني تتوعد من القاهرة بتغيير الوضع في غزة).
وجددت "إسرائيل" جرائمها في عملية أسمتها الرصاص المسكوب، واستمر الهجوم على غزة في الفترة ما بين 27/12/2008 إلى 18/1/2009، وظلت السلطة الفلسطينية في صفوف المتفرجين (بل كشفت مفاعيل تقرير جولدستون –الذي صدر لاحقا حول حرب غزة- تورّط رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في التآمر مع "إسرائيل" وفي ستر عوراتها).
وكعادتها، لم تحرّك الأنظمة العربية ساكنا، غير أنها بعد أيام من القتل دفعت بجامعة الدول العربية لاستصدار قرار بوقف "القتال" -كما وصفته- فساوت الجامعة العربية بين الجاني والضحية، وطلبت في المؤتمر الصحفي الذي عُقد على إثر اجتماع المجلس الوزاري في جامعة الدول العربية في 31/12/2008 بوقف القتال بدل وقف "القتل"، متغابية عن جرائم القتل الوحشية التي أسفرت عن استشهاد 1417 من أهل غزة على الأقل، لتؤكد الجامعة في كل مرة أنها متآمرة على قضية فلسطين، ولتجدد بذلك مشاهد الانبطاح التي كررتها في كل عدوان "إسرائيلي".
وهكذا استمرت عمليات الترويض السياسي وتخريب وعي أهل فلسطين على مختلف الأصعدة، وذلك عبر التجويع وإراقة الدماء في غزة، وقمع الناس في الضفة، وعبر الإغواء السياسي الأمريكي، ومع ذلك ظل المشهد السياسي متوقفا عند حالة الانشطار السلطوي وجمود التحركات السياسية، رغم مباشرة حماس لحالة من الغزل السياسي لأمريكا.