غزة معركة الصورة ومعركة الدموع
حسن المدهون/ عضو المكتب الاعلامي لحزب التحرير في فلسطين
تدرك مراكز الأبحاث واستطلاعات الرأي التي تعمل وترصد حركة الشعوب والرأي العام فيها حقيقة ما يحدث على أرض الواقع وماهية الاتجاهات الفكرية المتحركة في أوساط المجتمعات وتلتقط مابين السطور وترى ما تخفيه الفضائيات وتطمسه الدعاية المضللة .
ففي حرب لبنان عام 2006 ووسط تعاطف المسلمين في كل مكان مع انتصارات المقاومة وشعور مراكز الأبحاث و الكيان المحتل بذلك التعاطف وبحجم الرأي العام المتنامي لصالح وقوف شعوب الأمة مع مقاتلي حزب الله وانزياح وهم الكيان المحتل وقوته التي ظهر مدى ضعفها استراتيجيا على رغم امتلاكها لأحدث الأسلحة الغربية، ظهر عقب تلك الحرب خوف من اثار ذلك الاستصغار لقوة الكيان الغاصب وانكشاف اسطورة جيشه أمام شباب الأمة.
ذلك الخوف الكامن والمتنامي من تصاعد اتجاهات الرأي العام الإسلامي لصالح المقاومة والحل العسكري مع ذلك الكيان، فاستشعرت وزيرة الخارجية وقتها تسيفي ليفني محذرة من تنامي تلك المشاعر التي قد تتحول إلى حركة تغير وجه التاريخ وتقلب الموازنات الوهمية وأغلال العقل التي فرضت عليه بعملية غسيل دماغ قادها الغرب مسخرا علماء ومفكرين وكتاب وفضائيات وأنظمة.
فسارع وقتها مجلس الجامعة العربية بالانعقاد العاجل والذهاب بشكل مسرحي إلى لبنان لصرف الأنظار، وفي إطار تغطية كبيرة لتلك الزيارة وكلمات وتعاطف، وسير الرحلة والتنسيق لها بواسطة احمد أبو الغيط وكيف كانت الرحلة محاطة بالمخاطر كما قيل وقتها وكأنها جرت بدون تنسيق مع جيش العدو.
ولا يغيب عن الذاكرة مشهد دموع رئيس وزراء لبنان وقتها فؤاد السنيورة في اجتماع ممثلي الدول في الجامعة العربية وكيف كانت تلك الدموع حدث الساعة ،.. وتلك الزيارة التي اختطفت المشاعر الصادقة البريئة من مشاعر إسلامية إلى مشاعر عربية ووطنية ضيقة لا تحرك جيشا ولا تجلب أمنا.
و اليوم ... غزة كانت على نفس الموعد ونفس الخطى والسيناريو لتتكرر الحرب عليها وتعاد إلى الأذهان فكرة هزال ذلك المحتل وجبهته الداخلية وارتفاع المشاعر التي تتعلم مرة أخرى ان ارادة قتاله موجودة وهذه المرة في ظروف أخطر ألف مرة من ظروف حرب لبنان، حيث كسرت الأمة الإسلامية حواجز الخوف.. لتبقى حواجز التضليل قائمة بفعل التضامن الشكلي الذي لا زال يكرر مشهد الدموع التي لا تدفع قذيفة تسقط ولا تسقط طائرة تقصف أثناء انهمار تلك الدموع.
وضمن حواجز التضليل جاءت اجتماعات وزراء الخارجية العرب في القاهرة والتي كعادتها لم تخل من المناكفات وإظهار التضامن في آن معا، فتمخضت تلك الاجتماعات عن تقزيم نصرة فلسطين وغزة الى مستوى وضيع ذليل جاء على شكل وفود تأتي تحت القصف والقتل الذي لا يتوقف حتى إكبارا أو احترما لوجودها في غزة مستصغرا تلك الوفود وتضامنها وتلك الاجتماعات وما تمخض عنها .
فالاجتماعات جاءت لصرف أذهان ثوار الميادين عن الحل الحقيقي المتمثل في تحريك الجيوش وفي إسلامية هذه القضية ، فكلما ذكرت غزة والضفة وما ورائهما تأججت مشاعر الثوار في ميادين التحرير وساحات الوغى ،...فتقاطر وزراء الخارجية العرب للاجتماع في محاولة لحرف تلك المشاعر المتقدة وتنفيسها عبر وفود تذرف الدموع ..ليصور الإعلام دموعها الحارة كما صور الإعلام من قبل دموع السنيورة، ..... وكفى الله الوافدين بتلك الدموع المصورة على المباشر القتال ومؤنته.
ثم تدور عدسة الكاميرات تجاه صور الأشلاء، وتتكلم لتري العالم حجم الدمار والعدوان وكأنها تقول لمن حولها أغيثونا بمواد البناء وأموال إعادة الإعمار، وتغيب في تلك المشاهد صور الجيوش واستعراضاتها وطائراتها ودباباتها و"براميلها" ، وكأن جيوش الانظمة العربية خلقت لقتل شعوبها ومكافحة الإرهاب "في سيناء" وغيرها،، أما أعداء الأمة وقتلتها ...فيقاومون بالوفود والتعزية وزيارة المستشفيات وذرف الدموع !!!.
ويلتقي مع تلك الدموع وصورها صورة الأشلاء الممزقة والجثث المحترقة وأم ثكلى تسكب دموعا أغلى من دموع الرؤساء والوزراء، تسكبها وتبكي حرقة وتستنصر المعتصم فيما يرد "الوفد المتضامن والمعزي" عليها بدموع ليست بطهارة دموعها وحرارتها .
لقد حق لدموع الثكلى واليتم أن تسيل وهي تتضرع إلى ربها ثم إلى أمتها تبكي خذلانا وتواطؤاً تراه في صالونات المباحثات والوفود، فبأي حق تختزل الأنظمة طاقة الأمة بمجرد دموع ثم صورة تعبر الأثير ولا تفكر بمجرد اعلان النفير؟!!
تلك معارك صور لا تخلو من إيماءات وإشارات بل وأحيانا انحراف زوايا يحاول أن يبعد حقيقة ما وراء الصورة، وهي معركة يجب أن تظهر فيها صور الدبابات وصور الطائرات والكتائب والفيالق في دول الطوق وما بعد بعد دول الطوق حين تقول كلمتها حقا وتقطع بفعلها دموع كل خطيب ووزير وغفير.
ومن قبل تلك الصور صور أخرى لتلك الوفود وهي تعبر معبر رفح، ثم تتخطاها وصوت القصف والقتل لا يسمع في تلك الصور وإنما تسمعه آذان من فيها لكي تكون شاهدة زور على تعاطف وهمي مع أهل غزة، ثم تنتقل تلك الوفود إلى بوابة الشفاء وتتبرع وقتها الكاميرات في التقاط الصور تارة لوفود تأتي وتارات لسيارات الإسعاف تعبر بالشهداء والمصابين والأشلاء وهتافات تعلو بالتكبير والتهليل مع كل شهيد يعبر.
وبجانب بوابة الشهداء بأمتار... منصة أحيطت ببحر من الكاميرات تنقل رسائل تلك الوفود بأننا تدثرنا وغطينا عوراتنا بأكفان الشهداء وأغطية الجرحى، ثم بكينا عليهم وعدنا بعدها إلى بلادنا أبطالا مطهرين من كل ذنب كيوم ولدتنا أمهاتنا، وسنستمر في دعم المجاهدين بالكلام والدموع وبكثير من الصور.
عذرا أيها الشهداء وأيها المقاومون، فما ينقله العالم عن بطولاتكم لا ينقله ليقرر حقيقة بقدر ما ينقله ليصنع خبرا، لا يتكلم عن كسر وهم الجيش الذي لا يقهر بل يقول أطلق صاروخ وصواريخ، وقصف وقتل وارتفع عدد الشهداء.
عذرا لكم أيها الشهداء الذين امتلأت أفواهكم بالدم، فلو أتيح لكم فتح أفواهكم لبصقتم على تلك الوفود الرسمية المعزية التي ترسل لكم التحيات وما نفع التحيات عندما تغيب الطائرات والمدافع والفيالق.
عذرا فلو قدر لكم أن تتكلموا لقلتم لتلك الوزارات العربية، التي تبكي أمام جثثكم ثم تعود أدراجها:
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا،و انصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة
و خذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا
لو قدر لأفواه الشهداء أن تتحدث فستقول لتلك الوفود من الوزراء أيها العابرون من بين الأشلاء لا مكان لعزائكم ودموعكم فارحلوا وأفسحوا المكان لرجال يحركوا الجيوش، فما نفع العزاء والتحيات وكثرة الدموع والصور عندما تغيب الطائرات والمدافع والفيالق، فالوقت ليس وقتكم وان لم تفسحوا المجال للرجال وبقي على رؤسائها النعاج فالأمة ستقتلعكم قريبا كما اقتلعت صاحب الجدار الفولاذي وصاحب ذلك القصر الذي اعلنت منه تسيفي لفني الحرب مرة على غزة.