كلينتون والأسد ...والمولود الجديد
د.مصعب أبو عرقوب
"إنتهت الروم منهزمة إلى هرقل وهو بحمص والمسلمون في آثارهم يقتلون ويأسرون ويغنمون ،فلما وصل الخبر إلى هرقل ارتحل من حمص، وجعلها بينه وبين المسلمين وترس بها ،وقال هرقل: أما الشام فلا شام، وويل للروم من المولود المشئوم" ،..كتب ابن كثير ذلك في كتابه البداية والنهاية يصف معركة اليرموك التي مهدت الطريق أمام الفتوحات الاسلامية في بلاد الشام ووضعت حدا فاصلا في تاريخ العلاقة بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم.
وقد التقط هرقل بحنكته السياسية تلك الإشارات التي دللت على انبعاث أمة جديدة بفكر جديد سيجتاح العالم ،وسيقتلع الامبراطورية الرومانية من كل مناطق نفوذها ، فودع دمشق "وداعاً لا لقاء بعده"، ولم يخفي "كقائد تاريخي " خشيته المبررة من وصول رجال تلك الدولة الجديدة إلى عمق الإمبراطورية الرومانية، ليشكلوا تهديداً وجودياً على القوتين العظميين في ذلك الزمان ، فكانت "تصريحاته" تلك استشرافا لمستقبل تحقق أمام اعين الروم وغيرهم من الشعوب , ودللت عباراته تلك على دقة فهمه لطبيعة الامم وحجم التغيير الذي اجتاح عقول تلك الامة الوليدة.
دقة في الفهم وإدراك لحجم التغيير... افتقرت له تصريحات وزيرة خارجية الولايات المتحدة وهي تنصب نفسها وصية على شعوب ثائرة، فتعطي الشرعية لفئة وتنزع الشرعية عن اخرى وتتهم اخرين بالتطرف وتعلن عن أسماء ترتضيها لتمثل الشعوب الثائرة وتقود زمام الثورة وتنصبهم قادة لمرحلة ما بعد الثورة ، في استخفاف واضح لشعوب الأمة الإسلامية العريقة ، وفي افتقار كبير لفهم مدى التغيير الذي يجتاح الأمة .
فالأمة قد تجاوزت منطق الدفاع عن قيمها وعن "سلمية ثورتها " وعن رقي وعدالة شريعتها ،ولم يعد شبابها في ميادين التحرير بحاجة إلى التبرؤ من "الإرهاب" أو شرح معنى التطرف ومحاولة اقناع الغرب بأننا لسنا إرهابيين أو متطرفين ، فهذه الخدعة الطفولية لم تعد تنطلي على الثوار الذين خبروا على الأرض عدوهم الحقيقي، وذاقوا طعم الإرهاب والتطرف والوحشية والاستعمار على يد الغرب ووكلائهم في بلادنا، فقد لامست أجسادهم شظايا القنابل الامريكية وقذائف الطائرات الروسية ولم تسلم بيوتهم من الصواريخ الصينية، فلم يعد يعبأ من تحت النار والقصف والقتل بآراء وتصورات الغرب والشرق في شكل المستقبل الذي تريده الأمة، وتسعى لصياغته،فالعدو ليس شريكا ولا تقبل منه نصيحة.
نصيحة..كتلك التي تقدمها الولايات المتحدة للثوار و "للمعارضة" في سوريا على لسان وزيرة خارجيتها "التي أعربت عن قلقها حيال تمدد القوى الإسلامية المتشددة في سوريا منتقدة المعارضة التي قالت إنها لم تقم بما يكفي من أجل وقف ذلك " ،لن تلاقي تلك النصيحة أي اهتمام من الشعوب الثائرة، ولن ينبري الثوار لتبرير مواقفهم وبعدهم عن "الإرهاب"، كما لن يجهد اهل الثورة انفسهم في شرح معنى الارهاب والتطرف كما جرت العادة عند المهزومين من الداخل، فالثورة قد تخطت تلك الحقبة التاريخية ، وخرجت الشعوب لتعلن " الشعب يريد إسقاط النظام"، فقد آن لكلينتون ودولتها أن تدرك أن الشعب يسقط الأنظمة ,وأن الشعوب هي التي تعطي الشرعية، وأن شرعية الأنظمة لم تعد تستمد من المستعمرين الطامعين في بلادنا بعد الآن، وأن الأمة تريد أن تعيش وفق منظومة قيمها الحضارية العريقة، ولا تريد أن تعيش وفق أنظمة ثارت عليها واكتوت بنار ذلها وتبعيتها للمستعمر ،فهي لا تريد العيش مجددا على مقاس أطروحات الديمقراطية والعلمانية.
فالأمة باتت تدرك أن علمانية الدولة وطريقة العيش الغربية تبعدها عن مصادر قوتها وقيمها وحضارتها واستقلال قرارها وسيادتها على ثرواتها، فالعلمانية تقرب الأمة من الغرب وطريقة عيشهم وتفكيرهم وتقيد وحدة الامة وتطلعاتها وتضمن تسلط مافيا الانظمة الحاكمة وارتهان قرارها للغرب المستعمر الذي يدعم العلمانية كنظام حكم يؤمن مصالحه في بلادنا ...هنا التقط الأسد اللحظة التاريخية ليستدر عطف الغرب ويحذر من نفس الخطر فالتقى في تحذيراته مع كلينتون على أرضية واحدة، وهي أساس المعركة وجوهرها.
فجوهر المعركة هو الصراع بين طريقتين مختلفتين في العيش فالنظام السوري يعتبر نفسه "المعقل الأخير للعلمانية والاستقرار والتعايش في المنطقة" ويعتبر أن العالم من هذا المنطلق غير قادر على تحمل "تكلفة غزوه" للنظام السوري، فالتضحية بالمعقل الأخير للعلمانية وبحسب الأسد " سيكون له أثر الدومينو الذي سيؤثر في العالم من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي”، ولذلك فان الأسد والى الآن مطمئن: " لا أعتقد أن الغرب يمضي في هذا الاتجاه، لكن إذا فعلوا ذلك، لا يمكن لأحد أن يتنبأ بما سيحدث بعده." ، لكن الغرب لن يضحي به قبل أن يصنع البديل ان استطاع .
بديل يسعى الغرب لتشكيله على عجل قبل أن يسقط المعقل الأخير للعلمانية التي تضمن مصالح الغرب في بلادنا وتكرس تبعية الأنظمة والحكام للغرب وترمم نفوذ المستعمرين وتسلطهم على ثروات بلادنا ، وتقف سدا أمام انبعاث الأمة الإسلامية من جديد ، لكنه بديل يصنع بإرتجالية متسرعة في أروقة الفنادق بعيدا عن نبض الأمة وميادين التحرير ويفتقر ثانية إلى دقة الفهم وإدراك حجم التغيير الذي اجتاح الأمة الاسلامية ،بديل لم يلتقط صانعوه الإشارات التي تستشرف المستقبل او أنهم يحاولون معاندة حركتها فجاء مولود الدوحة سقطا لا حياة فيه ،فالأمة خرجت للميادين وأدرك ثوارها وشبابها معنى القوة الحقيقية التي يستمدوها من قيمهم وعقيدتهم وصدق انتمائهم لأمة عريقة ضاربة جذورها في التاريخ.
تاريخ عريق ..انتشر عبقه في ميادين التحرير وأزقة حمص وحواري دمشق العتيقة ، فعادت أسماء الصحابة ورايات الإسلام وألوية الجيوش ومصطلحات العزة والوحدة والتحرير تقود شباب الأمة من جديد، وعادت مؤتة و اليرموك وحطين وعين جالوت وغيرها من أيام العزة لتفرض رؤية متصلة بالواقع والثورة، وارتسمت على أرض الشام صورة مكررة لوقوف أمة بقليل عدة وعتاد أمام أعظم قوة وأعظم إمبراطورية في ذلك التاريخ، بهذا تنبض قلوب الثوار وبذلك العزم الذي اجتاح العالم يخطون أروع الملاحم ويبرقون للأمة أصدق الإشارات .
إشارات التقطها هرقل قبيل معركة اليرموك فنصح قومه قائلا " ويحكم إن هؤلاء أهل دين جديد، وإنهم لا قِبَلَ لأحدٍ بهم، فأطيعوني وصالحوهم بما تصالحونهم على نصف خراج الشام، ويبقى لكم جبال الروم، وإن أنتم أبيتم ذلك أخذوا منكم الشام، وضيقوا عليكم جبال الروم." ، " فنخروا من ذلك نخرة حمر الوحش كما هي عاداتهم في قلة المعرفة، والرأي بالحرب، والنصرة في الدين والدنيا." والكلام لابن كثير، فأصروا وعاندوا تلك الإشارات ..فكان الوداع الذي لا لقاء بعده ،وضاقت جبال الروم عليهم أمام تلك الأمة الحية .
أمة تنبض الآن على وقع معارك الشام ، بأفق يتعدى حدود سايس بيكو المصطنعة ويتجاوز الوطنيات الإقليمية الممزقة لجسد الأمة، لتدخل الأمة في حرب تشتعل في بقعة صغيرة من أرضها، لكنها تطال كل أبناء الأمة في باكستان والعراق وتركيا وأفغانستان ومصر الجزائر واندونيسيا والبنغال وماليزيا لتضعهم أمام حقيقة مفادها أن الحرب واحدة على أمة واحدة تريد اقامة خلافة تجمعهم وتذود عن حياضهم وتحرر ارضهم ومقدساتهم وتحمي إخوانهم في بورما ، فالمعركة في سوريا والحرب مع الأمة كلها، والإشارات لا تكذب.
اشارات عقائدية وميدانية تبشر العالم بمولود جديد ..خلافة موحدة للأمة الإسلامية ،تأخذ الشام وتضيق الجبال على الروم والفرس ،وتحمل الإسلام رسالة نور وهداية وعدل لعالم ضجر وكابد وحشية الرأسمالية وعلمانية النخب المتنفذة ..وإلى أن يسعد العالم بذلك المولود الجديد....يجب على الثورة أن تستمر.
15-11-2012