قضية فلسطين-16 كارزاي فلسطين وأزمة القيادة
الدكتور ماهر الجعبري
يعرض هذا المقال مرحلة الصراع على القيادة الفلسطينية وأزمة القيادة "الإسرائيلية" في منتصف العقد الأول من القرن الجديد، وذلك ضمن سلسلة قضية فلسطين.
على مدخل القرن الجديد، كان شبح الحرب على الإرهاب قد سيطر على الأجواء الدولية وتحوّلت أولويات أمريكا بعيدا عن ملف التسوية السياسية، فيما تابعت "إسرائيل" ارتكاب الجرائم وإراقة دماء أهل فلسطين، أما الحكام فردوا كعادتهم بإطلاق المبادرة العربية للسلام، بينما كانت السلطة تترنح ورئيسها محاصر.
ركز بوش في مراحل إدارته الأولى على العدوان الوحشي الإجرامي على أفغانستان ثم العراق، دون القيام بأعمال جوهرية للحل السلمي، بل استمر في إدارة "أزمة الشرق الأوسط" لا في حلّها، وفي هذا السياق أعلن عن "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، وذلك ضمن حملة "علاقات عامة" للتخفيف من همجية الصورة الأمريكية، ولحشد الأنظمة العربية معه في حربه ضد الأمة. وفي ذلك السياق، حرّكت أميركا "رؤية حل الدولتين" إعلاميا، فيما تبنت عمليا مسألة تغيير القيادات الفلسطينية وإعادة تأهيل الأجهزة الأمنية.
صارت أميركا مصممة على التخلص من عرفات ورفضت التعامل معه نهائيا، وبدأ الصراع على القيادات البديلة تحت عنوان "محاولات الإصلاح"، الذي هو أحد مرتكزات النظرة الأمريكية للشرق الأوسط الكبير. ومن هذا المنطلق، تم إجبار السلطة على استحداث منصب رئيس الوزراء في السلطة الفلسطينية لسحب البساط من تحت أرجل عرفات، وتم إجراء تعديل الدستور الفلسطيني لتحقيق ذلك، وتمكنت أمريكا من فرض محمود عباس لذلك المنصب، وتسلّم عباس منصبه في نيسان 2003 على مضض من عرفات.
وبالتزامن مع استلام عباس لمنصبه، أعلن بوش "خارطة الطريق" وذلك في اليوم الذي انتهت فيه المرحلة الأساسية لحرب العراق، ونشرتها وزارة الخارجية الأمريكية في 30/4/2003 بوضعها النهائي. ومع أنها لم تكن خطة جادة في البداية، إلا أن المجتمع الدولي تلقّفها وصارت محطة رئيسة في قضية فلسطين، بل صارت مرجعا للسياسيين في فهم القضية وفي متابعة "استحقاقاتها" (خارطة الطريق). واعتبرتها السلطة نصرا لأنها نصّت على "تحقيق الحل القائم على أساس دولتين"، وذلك بعد مرحلة طويلة من تراجع الخطاب الأمريكي عن تعبير "الدولة الفلسطينية" إلى تعبير "الحكم الذاتي".
ووجدت أوروبا في خارطة الطريق فسحة للحراك، وخصوصا أن خارطة الطريق أشركت معها أوروبا وروسيا والأمم المتحدة إذ نصت على رعاية "المجموعة الرباعية". وقد أوجدت تلك الرعاية أساسا لرؤية مشتركة، وفتحت المجال لتحرك أوروبا ضمن "الرباعية"، التي صارت محورا للعمل السياسي. وتبنتها القوى الأخرى الفاعلة في المجتمع الدولي (روسيا والأمم المتحدة)، إذ حددت الخارطة هدفها بأنه "تسوية نهائية وشاملة للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني بحلول عام 2005".
ولم توافق "إسرائيل" على خارطة الطريق على الرغم من قناعتها بعدم جدية أمريكا لدفع الحل، بل استمرت في القتل والإجرام، مستغلة البند الأمني من خارطة الطريق. وتشجعت لارتكاب مزيد من الجرائم بوجود طبقة المحافظين الجدد في أمريكا، من الذين أخذ صوتهم يرتفع ضمن حملة الحرب على الإرهاب. وصاغت "إسرائيل" تحفظاتها ضد تلك الخطة، فيما انشغلت أمريكا في مستنقع العراق ما بعد الحرب، وتصدّع رأسها بضربات المقاومة فيه.
ثم تمخضت الأمور عن حالة من الركود السياسي، تزامنت مع الانتخابات الأمريكية التي تعيش فيها أمريكا حالة "انعدام الوزن". ولكن ذلك الركود لم يمنع قادة السلطة من متابعة التنازلات وارتكاب الجرائم السياسية:
فمع نهاية العام 2003، تم التوقيع على وثيقة جنيف التي مثّلت ضربة جديدة للاجئين. صحيح أنها كانت اتفاقية "غير الرسمية" بين شخصيات فلسطينية وأخرى "إسرائيلية"، إلا أن التمثيل كان على مستوى سياسي عال برئاسة وزير الإعلام الفلسطيني السابق ياسر عبد ربه، في مقابل وزير العدل "الإسرائيلي" السابق يوسي بيلين. وكان عبد ربه يطلع عرفات على ما يجري، وأوفد عرفات مستشاره الأمني جبريل الرجوب ووزير الدولة قدورة فارس للمؤتمر، وتم إلقاء كلمة باسم عرفات فيه (وثيقة جنيف)، وباركتها السلطة على استحياء. وانطلقت مظاهرات تندد بالاتفاقية في غزة، وضجَّ الفلسطينيون بالداخل والخارج من جرأة الوثيقة على إسقاط (حق العودة)، الذي كانت السلطة تدّعي أنه خط أحمر.
ثم أخذت أمريكا تعمل على الترتيبات الأمنية من خلال جورج تنت بمشاركة مدير المخابرات المصرية عمر سليمان، الذي أخذ نجمه يلمع في سماء القضية، وتكررت زياراته لمقر عرفات وللقيادات "الإسرائيلية". واستطاعت أميركا تجريد أوروبا من أدواتها المؤثرة في القضية، فتصاعد الاستياء العام في أوروبا من السياسة الأميركية، وخصوصا أن أوروبا كانت تتكفل بتمويل السلطة منذ إنشائها. ولذلك كانت ردة فعل معظم العواصم الأوروبية سريعة ومستنكِرة للأسلوب الأميركي الجديد (تغيير القيادات)، بحجة أنه تدخل في الشئون الداخلية (الفلسطينية). وكانت قد علت نبرة الخلاف السياسي حول العراق بين أمريكا وأوروبا في كانون الثاني 2003 مما دفع رامسفليد وزير الدفاع الأمريكي في حينه لتوجيه انتقادات حادة لألمانيا وفرنسا، واعتبر أنهما لا يشكلان سوى "أوروبا القديمة"، مستخدما ذلك الوصف لأوروبا في سياق تهكمي (رامسفيلد: باريس وبرلين "أوروبا القديمة").
ظل عرفات تحت الحصار في رام الله، حتى بعدما رضخ لقبول عباس في منصب رئيس وزراء السلطة. وتصاعد الجدل حول صلاحيات رئيس الوزراء في ظل صراع بين القيادات الفلسطينية، مع صراع حول الهيمنة على الأجهزة الأمنية. وأخذ الموقف الفلسطيني الداخلي يتأزم ضمن ما عرف بمثلث عرفات-عباس-دحلان، وكان محمود عباس مصرا على تعيين محمد دحلان (المدير السابق لجهاز الأمن الوقائي بقطاع غزة) في منصب وزير الداخلية (من هو محمود عباس؟)، (ومن الجدير ذكره أن ضلع عباس-دحلان قد انكسر هذه الأيام وتحول إلى تشاحن وتناحر !).
ونشرت الجزيرة نت تقريرا في 4/9/2003 حول تلك الخلافات (عباس يعترف بخلافه مع عرفات ويدعو لحله بالقانون)، نقلت فيه عن عباس تأكيد "وجود ظواهر خلل في العلاقة الوظيفية بين مؤسسات السلطة الواحدة بين الحكومة والرئاسة وبين السلطة والمنظمة". وبالطبع، وقفت أمريكا مع محمود عباس، وقال وزير خارجيتها كولن باول: "عرفات لا يلعب دورا مفيدا، وإذا أراد أن يلعب دورا مفيدا فسيكون عليه أن يساند موقف رئيس الوزراء محمود عباس لا أن يحبط جهوده".
وتأكيدا على تقبّل "إسرائيل" لتلك الخطوة المرحلية في تغيير القيادات، تابعت عقد اللقاءات الأمنية بين عباس وشارون، بحضور دحلان (وغيره مثل قريع وشعث) ( اللقاءات الأمنية في فترة تولي محمود عباس رئاسة الوزراء): كان اللقاء الأول في غضون أسابيع من تعيين عباس في القدس في 17/5/2003 بحضور دحلان وقريع، وتم اللقاء في مكتب شارون، وكأن شارون يستقبل موظفين عنده! وشدد شارون على أن تتخذ السلطة خطوات حقيقية "لمكافحة الإرهاب" وجمع السلاح من التنظيمات الفلسطينية.
ثم كانت قمة شرم الشيخ في 3/6/2003، حيث حضرها محمود عباس (دون عرفات الذي ظلّ محاصرا)، وجمعت بوش ومبارك والأمير السعودي عبد الله والملك الأردني والملك البحريني. وأصدر العرب فيها بيانا تعهدّوا فيه بمكافحة الإرهاب ودعم خارطة الطريق. أما بوش فقد أكّد على التزامه بقيام دولة فلسطينية.
ثم تبعتها قمة العقبة في اليوم التالي ما بين الرئيس الأمريكي بوش والملك الأردني وعباس بحضور شارون، وركّزت على إطلاق خارطة الطريق، مع الاتفاق على أن تشارك أطقم أمريكية في الاجتماعات الثنائية المشتركة لإعداد آلية لتنفيذ خارطة الطريق. ثم تتابع عقد لقاءات التنسيق الأمني بشكل شبه يومي بين رجالات عباس وبين المسئولين "الإسرائيليين": منها لقاءات دحلان مع "الإسرائيليين" خلال حزيران 2003، وحضر بعضها المبعوث الأمريكي، وقد تمت بموازاة اللقاءات السياسية التي عقدها عباس مع شارون خلال تموز 2003.
وهكذا بدت أقدام عباس (ورجالاته) كأنها تترسّخ كبديل سياسي عن عرفات، يتابع شؤون القضية مع زعماء العالم، مما أرّق عرفات. وكانت تلك اللقاءات والمؤتمرات مؤشرا قويا على تعامل أمريكا وإسرائيل مع عباس في مقابل تهميش عرفات، وهو ما أغضب عرفات بالطبع، لذلك تناقلت الأوساط الفلسطينية في خريف 2003 "أن عرفات وصف خلال اجتماع اللجنة المركزية عباس بأنه "كرزاي الفلسطينيين"، في إشارة إلى كرازاي الذي فرضته أمريكا حاكما على أفغانستان لرعاية مصالح الاحتلال الأمريكي فيها.
وربما يكون عرفات قد استعار ذلك التشبيه من مقال عبد العزيز الرنتيسي رحمه الله (في 9/5/2002) عندما تحدث عن مفهوم السلطة تحت الاحتلال بأنها "جعلت من كلمة "كرازاي" مصطلحا سيّئا شبيها بكلمة "لحد"، فكلما همت أمريكا أو العدو الصهيوني بتشجيع شخص ما ليتولى زمام الحكم في بلده أطلق عليه لقب "كرازاي" " (هل السلطة في ظل الاحتلال إنجاز وطني أم إنجاز للاحتلال؟).
وفي ظل الخلافات الفلسطينية المستمرة، ظل محمود عباس يهدّد بالاستقالة، وعرفات تحت الحصار. وأخيرا استقال عباس بالفعل من رئاسة الحكومة ومن كافة مناصبة التنظيمية، ثم قام عرفات بتعيين أحمد قريع الذي كان يتوافق معه في طبيعة الارتباطات الأوروبية.
أما "إسرائيل" فقد ظلت تحاول التعامل مع رجالات بعيدة عن عرفات، وذكرت صحيفة "الخليج" في 18/2/2004 عن نائب في الكنيست الإسرائيلي "أفشالوم فيلان" حديثة عن ضرورة "البدء في التفاوض مع محمد دحلان على تسليم قطاع غزة كله لسيادته"، لأنه أفضل "لإسرائيل"، ووصف وضع عباس على أنه "قابع غاضب في بيته، ساخط علينا وعلى الرئيس ياسر عرفات، وهو ينتظر الفرصة للعودة"!
وخلال الصراع على القيادة الفلسطينية، وبينما كانت أمريكا غارقة في أوحال العراق، وجد شارون فرصته لإطلاق مبادرة سياسية تعبر عن رؤيته، وطرح خطة شارون في أيار 2004 (خطة شارون بشأن الانسحاب من قطاع غزة والمعروفة بخطة فك الارتباط)، حيث أكد فيها نظرته حول "عدم وجود شريك للسلام"، ومن ثم قرّر أن "تُخلي إسرائيل قطاع غزة، بما في ذلك جميع المستوطنات الإسرائيلية القائمة اليوم، وتنتشر من جديد خارج قطاع غزة، وهذا باستثناء الانتشار العسكري في منطقة الخط الحدودي بين قطاع غزة ومصر (ممر فيلادلفيا)"، إضافة إلى إخلاء أربعة مستوطنات هامشية في الضفة الغربية، وذلك في سياق فك الارتباط من جانب واحد (أي بدون المفاوضات التي نصت عليها خارطة الطريق).
واستطاع شارون من خلال خطته تقزيم القضية في غزة والالتفاف على خارطة الطريق. وكان شارون قد انتزع تأييدا من بوش لخطته خلال زيارته لأمريكا في نيسان 2004، وهو ما كشف عن عدم جدية أمريكا في تنفيذ خارطة الطريق في حينه. ومع أن خطة شارون أزعجت أوروبا في البداية إذ هّمش شارون دورها، إلا أنها عادت ورضخت وقبلت بها حتى لا يفوتها قطار التحرك السياسي بشأن قضية فلسطين.
أما على مستوى السلطة، فاستمرت أزمة القيادة في تلك الأثناء، ووجّه دحلان انتقادات شديدة اللهجة ضد عرفات في آب 2004، وحذّر من ثورة شعبية غاضبة في المناطق الفلسطينية إن لم يتمكن عرفات من تنفيذ الإصلاحات السياسية خلال عشرة أيام.
وكانت المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي للعراق تشتد، بعدما ظنت أمريكا في العام 2003 أنها قد قضت على العراق، ووقعت أمريكا في مأزق العراق الذي صار يقض مضجعها. وفي العام 2004، نشط خبراء الساسة الأمريكان في بلورة مشروعهم المسمّى "الشرق الأوسط الكبير"، والذي سبق إطلاقه في العام 2001، ولكنهم عدلوه ليكون "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، وأعلنوا عنه في 13/2/2004، وأخذت وسائل الإعلام تروج له.
وعلى هذه الأرضية، توجهت أمريكا لقادة الدول الصناعية الثماني للخروج من مأزقها في العراق ولبلورة رؤية للشرق الأوسط، في قمة الثماني في حزيران 2004، وحاول الاتحاد الأوروبي أن يستبق ذلك بتقديم "مبادرة أوروبية" موازية لمشروع أمريكا، ولكن أوروبا لم تنجح في وضع بديل، ثم طغى المشروع الأمريكي على قمة الثماني، كمشروع لإحكام الهيمنة على الأمة الإسلامية ومنعها من النهضة من كبوتها تحت شعارات: "إصلاح الحكم" و"الديمقراطية" و"الحرية" و"حقوق الإنسان" و"التنمية الاقتصادية" و"إصلاح التعليم"، وكانت أمريكا تستهدف تجميل صورتها المهشمة تحت وقع جرائمها في العراق ومن قبلها في أفغانستان.
أما شارون فاستمر في جرائمه، ووجه حزب التحرير في فلسطين نداء إلى الجيوش في بلاد المسلمين بتاريخ 2/10/2004، بأن "فلسـطين تحترق على أيدي دولة يهود المجرمة، فأنقذوا الأرض الطيـبة الطــهور"، ولكن أجواء الحكام ظلّت متعلقة بأمريكا وبحربها على الإرهاب، وظلّت الأوساط الفلسطينية منشغلة بالتنافس على القيادة.
وظلّ عباس يترقب مآلات الأمور لاتخاذ موضعه السياسي، بينما ظل النزاع على السلطات قائما بين عرفات وقريع (رغم توافقهما في الارتباطات الأوروبية)، إلى أن رحل عرفات في ظروف غامضة في تشرين الثاني 2004، قيل أنه تم تسميمه. وكانت هنالك أصابع اتهام موجهة إلى عباس، ولذلك تعرض محمود عباس إلى ما قيل أنها محاولة اغتيال في غزة في اليوم الثالث لوفاة عرفات، حيث تم إطلاق النار داخل خيمة عزاء عرفات في قطاع غزة، وتبادل الحرّاس المرافقون لعباس إطلاق النار مع المسلحين، ونتج عن ذلك مقتل اثنين من حراس عباس. ونقلت فضائية البي بي سي في حينه أن "المسلّحين من الذين ازدحموا خارج الخيمة أخذوا في الهتاف بشعارات ضد محمود عباس ومحمد دحلان"، ورددوا أن "عباس ودحلان عميلان للأمريكيين" (أبو مازن ينفي تعرضه لمحاولة اغتيال في غزة).
وهكذا خسر الأوروبيون رهانهم على عرفات، وتخلّوا عنه، وسنحت الفرصة لصعود المتهم السابق عند حركة فتح والموصوف بتعبير زعيمها الراحل بأنه "كرازي فلسطين". وبعد تهميش الصفوف القيادية (العرفاتية) عن السلطة الفلسطينية، ازداد تهميش التدخل الأوروبي، ثم أخذ رئيس الوزراء البريطاني بلير يتماشى مع بوش، وصار موقف بريطانيا يساير السياسة الأمريكية بأسلوب اللف والدوران والدهاء الانجليزي. ومع ولاية بوش الجديدة، حاول بلير طرح خطة حل تجمع التوجهات الأمريكية "والإسرائيلية"، وذلك خلال زيارته لأمريكا في كانون الأول 2004.
وزادت حاجة أمريكا لتحسين صورتها في العالم بعدما ارتبط اسمها بالجرائم الوحشية التي تشعل الأمة الإسلامية ضدها، وصارت تخشى من تصاعد خطر "الإسلام السياسي" الذي يهدد مصالح وهيمنة أمريكا في الشرق الأوسط. وصدرت توصيات في هذا الاتجاه من أقطاب السياسة الأمريكية ومن مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية التي أوصت أمريكا "أن تعيد تعمير وإعادة الاعتبار لمصداقيّتها وسلطة الأخلاق فيها، من أجل أن يعود تأثيرها المعنوي على المسلمين وانبهارهم بالأفكار التي تقوم عليها"، كما ذكرت الباحثة زينو باران في دراساتها "حزب التحرير: عصيان الإسلام السياسي" (Hizb ut-Tahrir – Islam's Political Insurgency)، والصادرة عن مركز نيكسون في العام 2004. وكتوصية رئيسة ضمن خطوات تحقيق تلك الغاية ذكرت الدراسة أنه: "من أجل تغيير الانطباع عن جور السياسية الأمريكية الخارجية، فإن أهم خطوة يمكن أن تقوم بها أمريكا هي تأكيد حل الدولتين للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والذي يمكن أن يعتبره المسلمون عدلا".
ويبدو أن الإدارة الأمريكية (بعد نجاح بوش في ولايته الثانية) قد أخذت تلك التوصيات على محمل الجد ووضعتها موضوع التطبيق. وتبلور اتجاه أمريكي جديد وجاد مع نهاية عام 2004 للدخول في محادثات تسوية فلسطينية وسورية مع "إسرائيل"، وخصوصا بعدما أدرك الاتحاد الأوروبي انه غير قادر على تحريك عملية السلام دون أمريكا، وبعدما أبدى الرئيس السوري استعداده للذهاب إلى طاولة المفاوضات من دون شروط مسبقة، مما فتح المجال لبحث مسألة الجولان دون الاستناد لوديعة رابين.
وترافق ذلك كله مع وجود فرصة لتشكّل قيادة فلسطينية جديدة على المقاس الأمريكي بعد موت عرفات، ومع عودة عباس للواجهة السياسية، وهو الذي قد كان أعلن أنه ضد عسكرة الانتفاضة وصرّح أنه (سينهي عذابات الشعب اليهودي!)، وقد كان مهندس اوسلو، وأسّ الاتصالات السرية مع اليهود منذ بدايات عهد منظمة التحرير الفلسطينية.
وأعلنت كوندليزا رايس، وزيرة خارجية الإدارة الأمريكية أن "الإدارة الأمريكية بصدد رفع مستوى تدخلها في منطقة الشرق الأوسط والتركيز على عملية السلام والانتخابات الفلسطينية المقررة في التاسع من الشهر المقبل".
كانت السلطة على موعد مع الانتخابات الرئاسية، بعد فترة انتقالية تولّى فيها روحي فتوح رئيس المجلس التشريعي رئاسة السلطة (وهو الرجل الذي تكشّف لاحقا عن فضائح متاجرة بأجهزة خلوية في الحقائب الدبلوماسية!). وعندما أعلن عباس عن ترشيح نفسه اندلعت مظاهرات غاضبة على ترشّح عباس في غزة وبيرزيت في الضفة الغربية، وهتفت ضده وضد حليفه دحلان بأنهما عميلان أميركيان، فأعلن عباس -في حينه- أنه ليس مرشحا بعد لانتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية خلفا لعرفات (قصة صعود أبو مازن: تصفية كل معارضي عرفات).
ثم عادت أمريكا وتمكّنت من فرض عباس مرشحا للرئاسة، وتمكنت من تبليعه لفتح وللمنظمة، بعدما استبقت انتخابات الرئاسة بانتخابه رئيسا للجنة التنفيذية للمنظمة. وكانت انتخابات الرئاسة الفلسطينية –التي جرت في 9/1/2005 في ظل اهتمام دولي- البداية الواقعية لإعادة تفعيل خارطة الطريق من خلال بند الانتخابات فيها. وصمتت فصائل "المقاومة" عن انتخاب عباس، رغم عدم المشاركة فيها.
وتجدد التفويض على توقيع الاتفاقيات الانهزامية. وصار عباس "زعيم فلسطين" الجديد رغم اتهامات فتح بحقه، وصارت فتح نفسها تتغنى به، مما وصفه البعض بالانقلاب المغلّف بالقانون ضمن حالة من "التساكن" بين مراكز القوى في حركة فتح التي تمثلت في تيارين (عرفاتيّ وعباسيّ) (الانتخابات الرئاسية الفلسطينية.. الانقلاب الأبيض). والحقيقة أن الموقف تمخض عن غلبة للتيار المندفع نحو أمريكا وبأمريكا، والذي عمل –من قبل ومن بعد- على "تنظيف" حركة فتح والوسط السياسي والسلطوي من كل ما ليس أمريكيا.
وكانت خارطة الطريق تركّز على الجوانب الأمنية، إضافة للانتخابات التي بدأت بانتخابات الرئاسة، وظلت العمليات الفدائية مستمرة. ولذلك سارعت أمريكا بعد تسلّم عباس للسلطة إلى عقد قمة شرم الشيخ في 8/2/2005 بحضور عباس وشارون، مع ملك الأردن والرئيس المصري، وقد سبقها إعادة تفعيل بل تكثيف اللقاءات الأمنية خلال أيام من تسلم عباس للرئاسة ( اللقاءات الأمنية في فترة تولي محمود عباس رئاسة الوزراء). وهكذا تمثلت باكورة رئاسة عباس في اختزال قضية فلسطين في تلك القمة إلى قضية أمنية. وساهمت كل من مصر والأردن في عملية تجميلية لوجه شارون الملطخ بدماء المسلمين، وقررتا إعادة سفيريهما إلى تل أبيب. وظل "شرم الشيخ" مكان التآمر الأمني، ورمزا للحرب على الإسلام تحت شعار الحرب على الإرهاب.
وقد أثبت عباس في كلمته في تلك القمة أنه الرجل المناسب للمكان المناسب، إذ شدد على "وقف كافة أعمال العنف ضد الإسرائيليين والفلسطينيين"، واعتبر ذلك "تنفيذاً لأول بنود خارطة الطريق" التي أكد تمسّكه بها، ومن ثم دعا اللجنة الرباعية الدولية إلى العمل على المسارات الفلسطينية والسورية واللبنانية، وذلك تماما حسب الرؤية الأمريكية لتلازم مسارات الحل السلمي. أما شارون فبارك في كلمته ترأس عباس للسلطة مما يؤكد انجاز مسألة تغيير القيادات الفلسطينية على المقاس "الإسرائيلي"-الأمريكي، وكان شارون يلح عليها منذ بداية رئاسته في العام 2001. وركز شارون على المطالب الأمنية وعلى إصراره على تنفيذ خطة فك الارتباط. ثم تتابعت اللقاءات الأمنية بعد قمة شرم الشيخ بكثافة، وبمشاركة فاعلة من دحلان.
وتجاوبًا مع أجواء شرم الشيخ، تتابع في القاهرة حوار الفصائل الفلسطينية حول التهدئة. أما على الأرض، فاستمرت عمليات المقاومة. إلا أن التنسيق الأمني الفعّال، هيّئ الأجواء لتحريك العملية السلمية، ولاستئناف تنفيذ خارطة الطريق.
وكان التخوف الأوروبي من عودة الإسلام السياسي يزداد، حيث تُمثل قضية فلسطين طاقة شحن له، فتضاعف الاهتمام الغربي عامة والأوروبي خاصة بعملية السلام في تلك المرحلة بالذات، وأخذت أوروبا تتوسل لأميركا للضغط على "إسرائيل" لتفعيل مسار السلام. ولذلك حاول بلير المشاركة في دفع العملية السياسية من خلال عقد مؤتمر للإصلاح الفلسطيني في لندن في 2/3/2005، إلا أن شارون لم يحضر، وأصرت أمريكا على تفردها بالحل.
ومن جهة ثانية تتابعت التحركات العربية اللاهثة نحو التطبيع، إذ صرّح ملك الأردن عبد الله في 7/3/2005: "نحن نحاول إحياء المبادرة العربية لمنح إسرائيل علاقة ممتدة وعميقة مع العالم العربي لذلك نحن مشغولون جداً وراء الكواليس". وتمخّض عن مؤتمر القمة العربية في الجزائر في آذار 2005، تشكيل لجنة لتفعيل المبادرة العربية للسلام (التطبيعية)، وأكدت القمة على مسألة الانسحاب من الجولان وتلازم مسارات الحل (حسب الرؤية الأمريكية). وتصدّر محمود عباس لمهام تفعيل التطبيع، وأصبح يجول البلاد شرقا وغربا من أجل تحقيق التطبيع، وكأنه وزير خارجية لشارون.
ثم نفذ شارون خطته في أب 2005، وسحب الجيش "الإسرائيلي" من غزة من طرف واحد. وقد وافقت أمريكا على خطوة شارون ضمن أجواء سياسية دولية اهتز فيها عرش تفردها بالموقف الدولي، وكانت بحاجة لتخفيف الضغط الدولي وتهدئة الأجواء المعادية في العالم الإسلامي، وذلك مع تفاقم مأزقها في العراق وأفغانستان، وبررت أمريكا خطة شارون على أنها مقدمة لخارطة الطريق. وكانت أمريكا قد بدأت بحملة مصالحة مع أوروبا.
وفي ظل ذلك الاهتمام الدولي، برز دور الوساطة التركية في عملية السلام، ودفعت أمريكا وزير الخارجية التركي عبد الله غل لزيارة "إسرائيل" في كانون الثاني 2005، وصار عرّابا لتحريك عملية السلام (رهن الإشارة الأمريكية).
ومع نهاية العام 2005 دخل شارون في غيبوبة، فبرزت أزمة القيادة في إسرائيل بشكل واضح. وكانت الساحة "الإسرائيلية" الداخلية ساخنة قبل غياب شارون عن المشهد، وخصوصا بعد الانسحاب الأحادي الجانب من غزة، وكانت قد برزت صراعات على قيادة الكيان والأحزاب "الإسرائيلية"، حيث استقال نتنياهو من الحكومة (من وزارة المالية) احتجاجا على شارون، وتراجعت شعبية شارون في حزب الليكود، وكان شارون قد خشي على فقدان قيادة الحزب، فأسس حزب "كاديما" (وتعني قُدما) كحالة وسط بين الليكود والعمل، واستقطب معه شيمعون بيرز (من حزب العمل)، ورتب مع رئيس الدولة لانتخابات مبكرة، إلا أنه غاب عن المشهد قبل إجرائها.
وهكذا تمثلت خلاصة المشهد السياسي مع منتصف العقد الأول من القرن الجديد بالمعالم التالية:
• انحسار أزمة قيادة السلطة الفلسطينية عن رجحان كفة الرجالات الأمريكية التي اعتنقت خارطة الطريق كنهج حياة!
• اختزال قضية فلسطين لدى القيادة الفلسطينية الجديدة في قضية أمنية.
• بروز اتجاه أمريكي جاد مع توافق أوروبي لتحريك المفاوضات على كافة المسارات ودفع خارطة الطريق حسب الرؤية الأمريكية.
• بروز أزمة قيادة في "إسرائيل".