قضية فلسطين-13
شرعنة الجريمة !
الدكتور ماهر الجعبري
يعرض هذا المقال مرحلة الانتخابات الفلسطينية الأولى التي تم فيها تشريع "الخيانة"، وما رافقها وما تلاها من أجواء سياسية محلية وإقليمية، وذلك ضمن سلسلة "قضية" فلسطين.
بعدما طبخت بريطانيا اتفاقية أوسلو التي أنجبت سلطة خدماتية تحت الاحتلال، تداركت أمريكا الموقف، وطبخت أوسلو الثانية في القاهرة لتطوّر السلطة نحو الدور الأمني لحماية ذلك الاحتلال، بعدما اشتدت الحاجة إليه مع تصاعد النفس الجهادي وانطلاق العمليات الاستشهادية، مع منتصف التسعينات من القرن الماضي. وفيما خرجت الأردن تماما من ساحة المواجهة "الصورية" مع الاحتلال بعد اتفاقية وادي عربة، دخلت قيادات المنظمة وعلى رأسها عرفات قفص الاحتلال، وصارت تتحرك تحت عينه وبصره وبتنسيق معه. وظلت "إسرائيل" تركز على جوانب الأمن من جهة، وعلى التطبيع والاختراق الاقتصادي من جهة أخرى. وتابعت "إسرائيل" ترويض رجالات المنظمة ليلبّوا حاجتها الأمنية، بعدما ربطت التقدم في مشروع الحل بنتائج "المشروع الأمني". وأبدى رجالات المنظمة استجابة فعّالة لمطالب "إسرائيل" ولمخططات أمريكا.
تمثلت البداية العملية لتلك المرحلة بإجراء الانتخابات الفلسطينية العامة الأولى عام 1996، وهي التي تمت كاستحقاق لاتفاقية أوسلو الأولى (اتفاقية أوسلو (إعلان المبادئ- حول ترتيبات الحكومة الذاتية الفلسطينية) 13/9/1993)، التي نصت ضمن البند الثالث منها على أن تجري انتخابات سياسية عامة ومباشرة وحرة للمجلس المنتخب للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت إشراف متفق عليه ومراقبة دولية متفق عليها، وذلك حسب صيغة محددة ومتفق عليها مع "إسرائيل"، وأن "الانتخابات ستشكل خطوة تمهيدية انتقالية هامة نحو تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومتطلباته العادلة".
وبالطبع، فضحت تلك النصوص في الاتفاقية خطة الانتخابات التي تهدف إلى تجديد التفويض لقيادات المنظمة ورجالات السلطة لاستكمال مخطط تصفية قضية فلسطين عبر مسار أوسلو، ولم تكن بحاجة إلى جهد سياسي خاص لكشفها من شدة صراحتها (أو وقاحتها). فوقفت كافة القوى الإسلامية، ومنها حزب التحرير وحركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي، والعديد من التنظيمات الفلسطينية ضد انتخابات السلطة، وتبلور رأي عام قوي ضد المشاركة فيها ترشيحا وانتخابا، إذ اعتبرها الجميع تنفيذا لاتفاقية أوسلو الباطلة، وخصوصا أن الاتفاقية حدّدت دور المجلس المنتخب بالسير ضمن حدودها، حيث نصت أن "كل عضو في السلطة الوطنية الفلسطينية ينضم إلى وظيفة بعد التعهد بالعمل طبقاً لهذه الاتفاقية" (اوسلو (2) القاهرة 4/5/1994).
وحسب تلك الخلفية السياسية للانتخابات، ولأنها جرت كاستحقاق لاتفاقات باطلة شرعا تُرسّخ كيان الاحتلال اليهودي على أرض فلسطين، كانت حرمة المشاركة فيها جلية واضحة، حيث أن الأعمال التي تمكّن المحتل من بلاد المسلمين محرمة بحسب قول الله تعالى: "وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً"، وهي آية في سياق خبري تفيد الطلب من المسلمين لعدم تمكين الكافرين المستعمرين من المسلمين ومن بلادهم، ولذلك تلاقت القوى الإسلامية وغيرها في فلسطين على رفض المشاركة في تلك الانتخابات.
وفي هذا السياق أصدرت حركة حماس بيانا (بيان حماس بشأن نتائج انتخابات الحكم الذاتي 24/1/1996 )، رفضت فيه الانتخابات التي اعتبرتها صورية جرت "تحت حراب المحتل الصهيوني"، ووصفتها بأنها "انتخابات أوسلو"، وأنها "انتهت بتكريس قبضة سلطة الحكم الذاتي ذات التوجه السياسي"، وأكدّت على التلاعب في الانتخابات. وكان ذلك البيان لافتا في حينه من حركة حماس، (كما تمت الإشارة إلى نداءها السابق تعليقا على انعقاد مؤتمر مدريد، ضمن الحلقة السابقة من هذه السلسلة)، وهو ما يستوجب أيضا استحضاره لدى متابعة ما استجد في المشهد الفلسطيني.
وفازت حركة فتح فيها (على نفسها) بأغلبية المقاعد في المجلس التشريعي، وفاز رئيسها ياسر عرفات رئيساً للسلطة بأغلبية 88%، بعدما نافسته فيها عجوز فلسطينية. وأنجبت المنظمة سلطة، أخذت تنمو سياسيا وتبتلع أمها التي أنجبتها من سفاح، حتى صارت السلطة سيدة الموقف، وواجهة الحدث السياسي الفلسطيني.
وافتتح ذلك المجلس التشريعي "المنتخب" سجل جرائمه بإقرار تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني بتاريخ 24/4/1996، بعدما أكّد "رسائل الاعتراف" المتبادلة مع "الكيان الإسرائيلي"، وقرر إلغاء المواد التي تتعارض مع تلك الرسائل المتبادلة. وكان المجلس الوطني قد توقف عن الانعقاد لمدة ثلاثة سنوات بعد اتفاقية اوسلو، بعدما كانت بعض الفصائل المعارضة للاتفاقية، قد دعت في حينه لعقده من أجل اتخاذ موقف الرفض من الاتفاقية ولكن قادة المنظمة منعوا عقده لعدم سحب البساط من تحت أرجلهم، وأجلوه حتى طبخوا تلك الانتخابات الفلسطينية لشرعنة جريمتهم. وكلّف المجلس التشريعي لجنة قانونية بإعادة صوغ الميثاق الوطني (الميثاق الوطني الفلسطيني وتعديلاته)، فكان ذلك الانبطاح التشريعي انجازا تاريخيا للسلطة المنتخبة في زمن قياسي (في غضون ثلاثة أشهر)، مما أضاف تأكيدا حول الغاية الوسخة خلف انتخابات السلطة، والتي تتركز في استكمال مخطط مسيرة تصفية قضية فلسطين، وإعطاء تفويض للمفرّطين. وكان شمعون بيرز قد تحدث عن موضوع إلغاء 33 مادة من الميثاق الوطني الفلسطيني، وعلى إحداث تغييرات جوهرية في مبادئ منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك في كتابه "شرق أوسط جديد" الذي صدر في العام 1994، أي قبل انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني بعامين، وهو ما يؤكد أن ما يجري من انتخابات تحت الاحتلال هو في النهاية لمصلحة ذلك الاحتلال وضمن مخططاته.
وقد كان من المخطط أن تُستكمل الجريمة من خلال احتفال كبير يحضره الرئيس الأمريكي كلينتون مباشرة بعد قرار المجلس التشريعي في العام 1996 مع عدد من الزعماء الأوروبيين وبحضور رابين، كما نقل عن ستون أندرسون (حصاد ثمانين عاما من الكفاح)، ولكن مفاجأة اغتيال رابين عطلت ذلك الاحتفال، وتم تأجيل الإعلان الرسمي عن تغيير الميثاق الوطني (والذي تم لاحقا بحضور كلينتون في العام 1998).
وبعد تعديل الميثاق الوطني، أرادت أمريكا متابعة السعي لاستكمال خطوات الحل، وزاد اهتمام أمريكا بمتابعة القضية، وباشر الرئيس الأمريكي كلينتون سعيا حثيثا للتقدم بملف التسوية، ولكنها تعطلت لأسباب عدة:
مع احتدام العمليات الاستشهادية، تم عقد مؤتمر شرم الشيخ لمكافحة ما سمّوه "الإرهاب" في آذار 1996 بحضور 70 دولة، وشاركت فيه السلطة الفلسطينية، وذلك لدعم "إسرائيل" في التصدي للمقاومة وفي محاصرة حركات المقاومة وتشكيل لجنة عمل لذلك الغرض (البيان الختامي- المؤتمر الدولي لصانعي السلام)، مع أن حماس أخذت تطلق إشارات للمجتمع الدولي تبرر فيها العلميات الاستشهادية بأنها للدفاع عن النفس، وحاولت في حينه خطب ودّ المجتمعين، وأبدت استعدادها لقبول وساطة المؤتمرين في القمة "لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية"، وأعلنت "أنها مع السلام القائم على الحق والعدل وإعادة الحقوق لأصحابها" (مذكرة حماس إلى قمة شرم الشيخ). وكانت تلك المذكرة بداية الانقلاب العلني في الخطاب على منطق رفض المؤتمرات الدولية (كما جاء في نداء حماس ضد مؤتمر مدريد الذي تم ذكره في الحلقة 11 من هذه السلسلة).
لم تجد مذكرة حماس صدى لدى المؤتمرين، وأخذت السلطة دورها في التصدي للمقاومين، وفي اتهام حركة حماس بوجود صلات خارجية مع إيران بل حتى مع "المتطرفين الإسرائيليين"، على حد تعبير عرفات بعد أيام من عقد مؤتمر شرم الشيخ.
وتزايدت فضائح قيادات السلطة في التعاون الأمني مع الاحتلال بعد مؤتمر شرم الشيخ، فمثلا نشرت جريدة "الحياة" في 17/4/1997 أن عرفات قال لديفيد ليفي على هامش مؤتمر مالطا "أعمل لمكافحة الإرهاب ولقد أوقفت العديد من المتهمين" فرد عليه ليفي: "أتمنّى أن تؤخذ إجراءات مشتركة ضد المتطرفين، لقد علمت بحادث إرهابي اليوم، لذا عدنا وأغلقنا الأراضي هذا الصباح"، فقاطعه عرفات قائلاً: "نحن أحطناكم علماً بذلك" فقال ليفي: "يجب أن نتعاون في قطاع الأمن?" (مجلة الوعي-العدد 120).
أما "إسرائيل"، فبعد أسابيع قليلة من مؤتمر شرم الشيخ، مارست إرهاب الدولة، وكان على رأسها بيرز المصنّف عند الحكام العرب من حمائم السلام، فأشعل "عناقيد الغضب"، وارتكب مجزرة قانا جنوب لبنان. ولما اجتمع مجلس الأمن لإدانة تلك الجريمة اليهودية، سترت أمريكا عورة "إسرائيل" بممارسة حق النقض (الفيتو الأمريكي) كالعادة أمام كل جرائم الاحتلال اليهودي.
وكالعادة، رد الحكام العرب على تلك الجريمة النكراء باتفاقهم على دفع عملية السلام في قمة جمعت عرفات والملك حسين ومبارك في الأردن في حزيران 1996، بعد لقاء عرفات مع كلينتون في واشنطن في أيار 1996.
ولكن فوز الليكود وتشكيل حكومة "إسرائيلية" برئاسة نتنياهو، عرقل الجهود الأمريكية رغم الانبطاح التام من المنظمة ورغم لهث مصر والأردن. ومن المعلوم أن حزب الليكود أكثر تطرفا في نظراته التوسعية، وفي رفض أي شكل لكيان فلسطيني يحمل معاني الدولة ولو على الورق، ولا يقبل بغير الحكم الذاتي تحت السيادة الإسرائيلية، ولا يوافق على الانسحاب الكامل من الجولان، في حين يتقبل حزب العمل –نظريا- "دويلة" فلسطينية منزوعة السلاح تمارس صلاحيات إدارية، دون سيادة حقيقية، ويقبل بمبدأ الانسحاب الكامل من الجولان لدى تحقيق المطالب الأمنية للكيان اليهودي.
ظلّت أمريكا تعمل على حل قضية الشرق الأوسط حسب مبدأ تلازم المسارات، وحرصت على أن يسبق المسار السوري (وتابعه اللبناني) مسار التسوية مع الفلسطينيين أو أن يتزامن معه، ولكن ذلك المسار لم يتقدم لأن "إسرائيل" مارست التفاوض برؤية تستهدف الاختراق الاقتصادي والتطبيعي (وساعدتها على ذلك بريطانيا).
وعندما وافق نتنياهو على عقد لقاء مع ياسر عرفات، هدده حلفاءه من الجناح اليميني بالانسحاب من الحكومة، فتوجه نتياهو نحو مشاريع الاستيطان، فيما تابع المحادثات ضمن حراك كاذب، فحضر قمة التباحث في عملية السلام مع عرفات والملك حسين والرئيس الأمريكي كلنتون في واشنطن في تشرين الأول 1996 مركّزا على مزيد من التكبيل لرجالات السلطة بالمتطلبات الأمنية.
وعلى أساس تلك العقلية "الإسرائيلية" الأمنية، تتابعت الاتفاقيات التفصيلية ما بين السلطة "وإسرائيل" لتزيد طين السلطة بلة، فجاءت اتفاقية الخليل في كانون ثاني 1997. وخلال المفاوضات حول اتفاقية الخليل، كانت أمريكا تجهد في استعادة مبدأ تلازم مسارات الحل، وخصوصا في ظل تعثر المسار السوري أمام تعنت "إسرائيل" بعد عودة حزب الليكود للحكم (مما تتناوله الحلقة التالية من هذه السلسلة)، لذلك عرقلت أمريكا تلك المفاوضات وحشرت أنفها في كافة تفاصيلها من أجل تعقيدها، وكانت تدفع "إسرائيل" للتشدد، فيما كان مبارك (سمسار أمريكا) يدفع الفلسطينيين للتشدد، وذلك من أجل إطالة الأزمة، وقد ذكرت مجلة السياسة الدولية في العدد 134 أن رئيس لجنة العلاقات الدولية بمجلس النواب في الكونغرس الأمريكي بنيامين جيلمان عرض تقريرا سنة 1997 على لجنة العلاقات الدولية بالمجلس أكّد فيه أن مصر كانت تعرقل جهود التوصل إلى اتفاق الخليل، وأنها ظلت إلى ما قبل أربع وعشرين ساعة من توقيعه تبدي معارضتها له (مجلة الوعي-العدد 139).
وبعد تعطيل المفاوضات همّ المنسق الأمريكي للمفاوضات دنيس روس بمغادرة القاهرة دون توقيع، ولكن الملك حسين تمكن في حينه من جسر الهوة بين الطرفين ودفعهما للاتفاق، فرجع روس من المطار لحضور توقيع الاتفاقية جنبا إلى جنب مع ياسر عرفات والملك حسين ورئيس وزراء كيان الاحتلال، وعزز بذلك الدور الأردني -كما رسخّته بريطانيا- في اتفاق الخليل، مما هو انعكاس للتدافع بين الدول الكبرى على الحضور السياسي.
وشرخت تلك الاتفاقية مدينة الخليل إلى قسمين، مع ترتيبات أمنية معقدة لحماية اليهود الذين سيطروا على قلب المدينة وأقاموا فيها كنيسا يهوديا، وجعلت حياة الناس فيها لا تطاق، وقد رسخت تلك الاتفاقية فكرة "إسرائيل" في تقطيع أوصال مناطق الحكم الذاتي كما فعلت في اتفاقية طابا 1995 (مشاريع التسوية السلمية للقضية الفلسطينية). وزرعت أمريكا ألغاما لعرقلة تنفيذ الاتفاقية من أجل ربط الحلول وتلازم المسارات.
وظل المفاوضون في المنظمة يوقعون على كل ما هو مذل لهم ويضر بأهل فلسطين، من تنسيق أمني ومن تمزيق للبلاد، فيما تابعت "إسرائيل" تنفيذ مخططات الاستيطان. وفي المقابل، ظلت العمليات الجهادية في تصاعد مستمر، ولم تكن فصائل المقاومة (الإسلامية على وجه الخصوص) قد أفسحت لها مكانا ضمن الأروقة الدولية على ساحة الحلول السلمية. ولذلك صعّدت "إسرائيل" من قمعها ومن جرائم القتل والتصفية للقادة الميدانيين في المقاومة.
وفي تلك الأثناء، بدأت رائحة فساد رجالات السلطة تنتشر، حيث تكشّف عدد ممن اعتبروا أنفسهم من "المناضلين القدامى" عن نماذج مهترئة من الموظفين المأجورين والمندفعين نحو مصالحهم، وكشف بعضهم عمّا تمرس به من فساد ضمن أجهزة المنظمة قبل السلطة، وتعالت الأصوات الفاضحة والمطالبة بالمحاسبة والتغيير: منها أن تقرير المراقب لميزانية السلطة الفلسطينية في أيار 1997 أبرز اختفاء ما يزيد عن 300 مليون دولار، ومن ثم أثبتت لجنة تحقيق شكّلها مجلس السلطة التشريعي أن غالبية الوزراء وأصحاب النفوذ في السلطة فاسدون ومختلسون، وأوصت اللجنة بحل مجلس الوزراء وإحالة الوزراء المتورطين للتحقيق ومن ثم للمحاكمة (منهم نبيل شعث، وجميل الطريفي، وعلي القواسمة، وياسر عبد ربه، وغيرهم) (مجلة الوعي-العدد 123). ونشرت جريدة الحياة مقابلة مع حيدر عبد الشافي في 20/10/1997 تحدث فيها عن الفساد والكسب غير المشروع، وطالب بإحداث تغيير وزاري، وتقديم المخالفين في قضايا الفساد إلى النائب العام.
ودفعت تلك الرائحة المنتشرة ياسر عرفات للالتفاف على مطالبات مكافحة الفساد من خلال الإعلان عن تشكيل وزاري "مجدّد" في آب 1998، يغطي فيه ما تكشّف من عورات سلطته دون تغيير جوهري، إذ أبقى كافة الوزراء القدامى رغم ما لحق بهم من تهم الفساد وسوء الإدارة، والتفّ على مطالبات إقالتهم بإضافة عشرة وزراء جدد ليُسكت الأصوات.
وهكذا أكدت المنظمة أنها تصر على خطف قضية فلسطين لتبقيها رهينة في أيدي الفاسدين والمتآمرين، فهم من يتأهلون طبيعيا لأن يستمروا في نهج الانبطاح أمام مطالب "إسرائيل" الأمنية.
وصار للسلطة رجالاتها الذين يتعايشون مع الاحتلال ويرتعون بالفساد، ولكن الاتفاقيات لم تؤد إلى منجزات تُرضي نتياهو وحكومته، فلم تتابع "إسرائيل" خطة إعادة انتشار قواتها، ولم توسّع من نطاق السلطة. وظلت المقاومة ضد الاحتلال مشتعلة، وتصاعدت العمليات الجهادية والاستشهادية، بينما قدّمت السلطة (ومن ورائها المنظمة التي أنجبتها) كل التنازلات دون جدوى، فأخذ اليأس مأخذه من رجالات السلطة وأنزل سقف تطلعاتهم، وقبلوا باتفاقية واي ريفر (في 23/10/1998)، بالانسحاب "الإسرائيلي" الجزئي في مقابل تصعيد الدور الأمني للسلطة (The Wye River Memorandum).
تمثلت بشاعة اتفاقية واي ريفر في تركيزها على مواجهة ما أسمته "الإرهاب"، فكانت خطة أمنية بامتياز، تحت إشراف المخابرات الأمريكية (CIA)، حيث قضت بتشكيل لجان أمنية مشتركة من الفلسطينيين واليهود والمخابرات الأميركية، ونصت الاتفاقية على أن "يُشرِك الفريق الفلسطيني الولايات المتحدة في خطة عمل يُعدّها، ثم يبدأ تنفيذها فورًا، ليضمن التصدّي المنهجي والفعّال للمنظمات الإرهابية وبُناها التحتية"، وتحدثت الاتفاقية عن "التعاون الأمني الإسرائيلي- الفلسطيني الثنائي"، وعن "لجنة أمريكية- فلسطينية تجتمع مرة كلّ أسبوعين، من أجل مراجعة الخطوات المتّخذة للقضاء على دعوات الإرهابيين ..."، و"يقوم الفريق الفلسطيني باعتقال الأشخاص المشتبه في ارتكابهم أعمال عنف وإرهاب، لإجراء المزيد من التحقيق معهم، ومحاكمة جميع المتورّطين في أعمال عنف وإرهاب ومعاقبتهم".
وهكذا بدت السلطة في تلك الاتفاقية وكأنها ذراع من أذرع السي أي إي الأمريكية (CIA)، لتضيف جريمة جديدة إلى سجل جرائمها، وليكون المجلس التشريعي الذي تم انتخابه شاهد زور على هذه الجرائم. وأكّد ياسر عرفات في حفل الافتتاح في البيت الأبيض انبطاح منظمته التام وكأنها فرع من وكالة المخابرات الأمريكية بالقول إن أمن إسرائيل هو أمن الفلسطينيين. وكانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قد بدأت تدريب الأجهزة الأمنية الفلسطينية على التجسس وجمع المعلومات والاستجواب وأساليب مخابراتية أخرى، بعلم "إسرائيل" وكان التدريب يشمل "رسميين في الأمن الفلسطيني ذوي مستوى عالٍ ومتوسط، في الولايات المتحدة منذ عام 1996"، وذلك من أجل زيادة ثقة الحكومة الإسرائيلية بالسلطة الفلسطينية، (صحيفة "نيويورك تايمز" في 5/3/1998). وقد علّق أحد أقطاب الحكومة "الإسرائيلية": "إن الاتفاق يحتوي على إنجازات لا نظير لها من وجهة نظر إسرائيل، لاسيما لجهة ضرب المعارضين الإسلاميين لعملية السلام".
وقد كان هذا التدخل الأمني الأمريكي (عبر CIA) كضامن للاتفاق وكحكم بين المتفاوضين هو نزول عملي من قبل أمريكا نحو الميدان، وبداية خطة "لتنظيف" رجالات السلطة من كل ما ليس أمريكيا، مما استغرق سنوات لتحقيقه (كما تتوج بعد استلام عباس لرئاسة السلطة). وتحوّل الراعي الأمريكي بذلك الاتفاق إلى "شريك حقيقي فاعل" على الأرض ومسيّر لعملية السلام، ومشارك في حفظ أمن "إسرائيل" من خلال اللجان المشتركة، وأخذ يحشر أنفه في كافة التفاصيل.
وعندما وافق مجلس الوزراء "الإسرائيلي" على إقرار اتفاقية واي ريفر، شدد على شرط تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني وعلى إلغاء البنود التي تدعو إلى القضاء على إسرائيل، وكانت رجالات السلطة قد أكدت من قبل أنها جاهزة للقيام بالدور الأمني الوسخ مقابل سلطة هزيلة، وأنها مستعدة للارتماء في أحضان أمريكا كما تريد، وكان المجلس التشريعي قد أقر التعديل بعد ثلاثة أشهر من انتخابه كما مر أعلاه. ولذلك استطاع الرئيس الأمريكي كلينتون أن يجمع أعضاء المجلس الوطني، واللجنة المركزية لمنظمة التحرير والمجلس التشريعي، واللجنة التنفيذية ومجلس وزراء السلطة والهيئات الفلسطينية المختلفة التابعة والمنبثقة عن منظمة التحرير الفلسطينية، للقاء المخزي الذي جرى في غزة في 14-12-1998، ليكونوا شهود زور على تحقيق مطلب "إسرائيل" وإلغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني الداعية إلى القضاء على إسرائيل وإنكار حقها في الوجود. وأعلنت المنظمة عن التعديل المفروض على الميثاق الوطني الفلسطيني رسميا بحضور كلينتون (الميثاق الوطني الفلسطيني وتعديلاته)، وقد كان ذلك "العرض" المسرحي السخيف استكمالا للمشهد الذي ابتدأ مباشرة بعد انتخابات المجلس التشريعي، ولكنه كان قد تعطل باغتيال رابين في العام 1996 (كما ذكر أعلاه). وحاول عرفات أن يحظى بمكافأة التنازلات بإعلان استقلال الدولة الفلسطينية (بل تكرار إعلانها، وكان قد أعلنها عام 1988)، ولكن لقاءه مع وزيرة الخارجية الأمريكية في آذار 1999 لم يتمخض عن فرصه، فوافقه أعضاء المجلس المركزي الفلسطيني على تأجيل إعلان الاستقلال.
وهكذا تمثلت معالم المشهد السياسي الفلسطيني وهو يتجه لنهاية القرن العشرين بما يلي:
o ظلت قيادات المنظمة والسلطة التي أنجبتها من سفاح، تلهث خلف "إسرائيل" وتحقق لها ما تريد من انبطاح أمني تام، وكبّلت رجالاتها بتعهدات أمنية وضعتهم ضمن خانة العمالة لمصلحة أمن الاحتلال.
o تلهّت القيادات بتوزيع المكاسب والمناصب، من أجل تحصيل فاتورة "الكفاح" المدّعى.
o على الجانب الآخر، استمرت المقاومة والأعمال الاستشهادية، ولم تلقَ دعوات حركة حماس المبكرة لخطب وُد المجتمع الدولي صدى في حينه.
o أُدخلت الساحة الفلسطينية في مرحلة بشعة من ترويض الناس وسحب أرجلهم للغطس في مشروع السلطة، كي لا يستطيعون منه فكاكا.
o ظل التقدم في حل القضية مرتبطا بتطورات المسار السوري (مما تفصله الحلقة التالية من هذه السلسلة).