قضية فلسطين-12
انبثاق المشروع الأمني وانطلاق مسيرة التطبيع
الدكتور ماهر الجعبري
يأتي هذا المقال - ضمن سلسلة "قضية" فلسطين- ليعرض تطور مشروع الحكم الذاتي الذي تمخض عن اتفاقية أوسلو إلى مشروع أمني لحماية الاحتلال بتدخل أمريكي سافر، إضافة إلى فتح المجال "لإسرائيل" لمباشرة الاختراق التطبيعي للأمة.
تمخضت قنوات الاتصالات السرية التي انهمكت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في فتحها مع "إسرائيل"، عن مشروع حكم ذاتي حسب التصور الذي طرحه رابين منذ العام 1989، حسب اعترافات مهندس اوسلو نفسه محمود عباس، فيما ظلت "إسرائيل" تمارس المفاوضات على كافة المسارات بتباطؤ مستهدفة التطبيع الاقتصادي ورافضة لمبدأ الانسحاب من الأرض.
أما على الأرض فقد استمر الكيان اليهودي في جرائمه على مستوى الجيش وعلى مستوى المغتصبين، مما أشعل حب الجهاد والاستشهاد عند المسلمين، وبث الرعب عند اليهود، وأرهق كيان المحتل، فتضاعفت حاجة "إسرائيل" لدور أمني بين الفلسطينيين لمجابهة ذلك الزخم الجهادي وتلك الروح الرافضة لقبول كيان الاحتلال فوق أرض فلسطين المباركة. وذكر محمود عباس (في كتابه طريق اوسلو) أن الجولة الثامنة من مفاوضات أوسلو السرية (حزيران 1993)، تضمنت نقطة تقتضي أن منظمة التحرير تدعو إلى وقف الانتفاضة، وأن الجلسة الختامية (آب 1993) تضمنت طلبا ملحا من زينغر (المفوض من رابين) في صيغة سؤال لأحمد قريع عن إمكانية وقف الانتفاضة. إلا أن منظمة التحرير لم تكن قادرة على السيطرة على الوضع شعبيا وسياسيا، ولا على التأثير على الرأي العام. ولكن تلك الحاجة "الإسرائيلية" انعكست بوضوح في الاتفاقات التي تلت وفصّلت إعلان المبادئ في أوسلو.
ظلت الأجواء الجهادية الشعبية في تصاعد وروح الاستشهاد في تسامٍ، بينما تابعت المنظمة لهثها نحو مزيد من الانبطاح أمام "إسرائيل"، وكررت نهج الاستخذاء أمام كل جريمة يهودية، كما تغاضت من قبل على جرائمه السابقة، وكما ردت من قبل على جريمة اغتيال "أبو جهاد" بمزيد من الانبطاح نحو الصلح. وتماهت المنظمة مع حاجة أمريكا لاستعادة ملف القضية إلى حِجرها، (بعدما كانت اتفاقية أوسلو (الأولى) أوروبية المنشأ)، فرتبت أمريكا لتوقيع اتفاقية أوسلو الثانية (اوسلو (2) القاهرة 4/5/1994(
وإذا كانت اتفاقية اوسلو الأولى قد اختزلت قضية فلسطين سياسيا من مشروع تحرر إلى مشروع حكم ذاتي مسخ يعفي الاحتلال من مسئولياته، فإن اتفاقية أوسلو الثانية قد أطلقت المشروع الأمني لحراسة ذلك الاحتلال.
وبالتوقيع على تلك الاتفاقية، ضاعفت المنظمة آثامها وضمّت لسجلها كبائر جديدة، بعدما استجابت لحاجة "إسرائيل" للدور الأمني الوسخ (للتصدي لانطلاق العمليات الاستشهادية). وكانت وكالة رويترز قد نقلت في العام 1990 أن رئيس مجلس المستوطنين اليهود في فلسطين وضع خطة لقمع الانتفاضة مستنداً إلى ما يقوم به "جيش لبنان الجنوبي" (جيش لحد)، وأنه طلب من وزير "الدفاع الإسرائيلي" تشكيل ميليشيات فلسطينية مسلحة تتولى قمع الانتفاضة في الضفة وغزة (مجلة الوعي-العدد 40). وهو النموذج الذي كان يبدو صعب المنال في حينه ! ولكنه تحقق ! ولذلك فإن شمعون بيرز يتحدث (في كتابه شرق أوسط جديد) عن مستوى التنازلات من قبل منظمة التحرير الفلسطينية في اتفاق القاهرة (1994) بالقول "لقد حصلنا على تنازلات ما كنا لولاها نستطيع إبرام اتفاقية"، ويذكر التنازلات الأمنية ويقول "إن المفاوضات الجارية لم تكن بين طرفين، إسرائيلي وفلسطيني، بل بين إسرائيل ونفسها".
كانت اتفاقية اوسلو الأولى (1993) عامة من حيث متطلبات الأمن، ونصت على إنشاء قوة شرطة فلسطينية "من اجل ضمان النظام العام والأمن الداخلي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة"، وكانت قد تركت "لإسرائيل" "مسؤولية الأمن الإجمالي للإسرائيليين بغرض حماية أمنهم الداخلي والنظام العام" (حسب نصها)، حيث لم تكن تثق بأداء المنظمة الأمني.
ولكن اتفاقية اوسلو الثانية (1994) جاءت أكثر وقاحة وفداحة في التأسيس للمشروع الأمني، الذي روجّته المنظمة لأهل فلسطين على أنه إنجاز وطني، إذ نصت في البند الثالث المعنون "هيكلية وتكوين السلطة الفلسطينية" على أن تتحمل قوات الأمن الفلسطينية "المسؤولية عن الأمن الشامل للإسرائيليين والمستوطنات"، فكان ذلك الدور تطورا نحو مزيد من السقوط المدوي لقادة المنظمة والسلطة.
ونصت الاتفاقية على "إنشاء لجنة مشتركة للتنسيق والتعاون بشأن أغراض الأمن المتبادل"، وفتحت بذلك الباب لأبشع تنسيق أمني مع المحتل حولت فيه المنظمة "المناضلين القدامى" إلى حرس حدود عند ذلك الاحتلال، وفتحت المجال لما كانت تدّعي رفضه من تعاون أمني في مشروع "روابط القرى" أو ما تسميه "إسرائيل" الإدارة المدنية. وكانت تلك البنود تجسيدا عمليا لبعض مقررات المجلس الوطني الذي انعقد في الجزائر 1988 (كما مر في المقال السابق ضمن هذه السلسلة، حيث أبدى المجلس الوطني استعداده الكامل لحفظ أمن الاحتلال، ضمن "ترتيبات الأمن والسلام لكل دول المنطقة")
وهكذا تعهدت المنظمة في مقابل الحكم الذاتي بحفظ أمن الاحتلال، واضطلعت بمهمة منع العمل المسلح ضد الكيان "الإسرائيلي" (اتفاقية أوسلو)، فانقلبت –عمليا- على ما كانت تدعيه –نظريا- طريقا لتحقيق غايتها في التحرير.
ووقّع قادة المنظمة على ما اعتبروه خيانة عند السادات بل على ما هو دونه، ليسجّلوا بذلك أسبقية تاريخية في تحويل منظمة تحرّر ادعت الكفاح المسلح ضد الاحتلال إلى مشروع أمني في خدمة ذلك الاحتلال، بل يلاحق من يفكر بالكفاح المسلح، أو من يقاوم ذلك الاحتلال ومن يرفضه. ولعل هذا ما دفع محمود عباس لوصف المشروع –في جلسة مصارحة- على أنه يصل لمستوى "الخيانة الوطنية" (كما مر في الحلقة السابقة من هذه السلسلة).
وجاء شهر أيار 1994 ليكون شهر افتتاح العرض المسرحي للانسحاب "الإسرائيلي"، حيث حرّك الجيش "الإسرائيلي" بعض النقاط الأمنية في مشاهد سخيفة سمّتها ماكينة المنظمة الإعلامية "انسحابا" لتضليل أهل فلسطين، فيما سمتها "إسرائيل" عملية إعادة انتشار، لتؤكد بالاسم قبل الرسم، بقاء السيطرة العسكرية، ورفض مبدأ الانسحاب الفعلي. ودخلت الشرطة الفلسطينية في 18/5/1994 ضمن قفص الاحتلال، وحملت السلاح الأمني تحت حرابه، وبمباركة منه. ثم تبعها عرفات في مطلع حزيران، وحملته طائرة هليكوبتر أخذت إذن المرور والهبوط من "إسرائيل"، فكانت إشارة جلية على دخول المنظمة تحت جناح الاحتلال منذ ذلك اليوم، وصار عرفات يتحرك فوق الأرض المحتلة بإذن الاحتلال الذي ادّعى أنه يحاربه!
وكافأ المجتمعُ الدولي عرفات بمنحه جائزة نوبل للسلام على جهوده في إفراغ القضية من محتوى التحرر والكفاح، وقد تقاسمها عرفات مع مجرمي الحرب رابين وبيرز في العام نفسه. وهكذا تجسّد عمليا ما كانت أمريكا تحرص عليه من إبقاء عرفات على رأس المنظمة، خلال حصاره في لبنان مرتين، وتبين أن ترتيبات إخراجه بالحماية الدولية (وخصوصا الفرنسية، كما مر في مقال سابق ضمن هذه السلسة-رقم 7)، قد مهّدت لمثل هذا اليوم.
وظلت الأردن –حتى ذلك الحين- على أهبة الاستعداد للاعتراف بالاحتلال، والإعلان عن الصلح معه، ولم تلبث أن تكشفت المفاوضات الأردنية-"الإسرائيلية" برعاية أوروبية، جسّدت سياسة أوروبا في طبخ الحلول المنفردة بعيدا عن سياسة أمريكا في تلازم مسارات الحل السلمي. وسبق أن كُشف عن استعداد الأردن لإبرام معاهدة سلام مع "إسرائيل" منذ العام 1992، وقد كان الأردن حريصا على الاتفاق من أجل حفظ العرش الهاشمي. وكانت أمريكا قد رتّبت لاستعراض إعلامي في اجتماع واشنطن في 25/6/1994 بين الملك حسين ورابين برعاية الرئيس الأمريكي كلينتون، صدر فيه ما عرف بتصريح واشنطن القاضي بإنهاء حالة الحرب رسميا بين الأردن وإسرائيل.
أما بريطانيا فقد رتبت عقد تسوية سلمية نهائية وقّعت بين الجانبين في وادي عربة في 26/10/1994، اعترف الأردن فيها رسميا ونهائيا بالكيان "الإسرائيلي" وبسيادته على ارض فلسطين، وتعهد له فيها بحفظ أمنه مما جعل الأردن يقرر رسميا بمهمة حرس الحدود (معاهدة "وادي عربة" بين الأردن وإسرائيل). ورغم أن بريطانيا هي التي أشرفت على إنجاز تلك الاتفاقية، إلا أن أمريكا اضطرت لمباركتها وهي تعلم عراقة ولاء الأردن لبريطانيا مما لا فكاك منه، كما فعلت في اتفاق اوسلو.
ورتبت أمريكا لعقد قمة شرق أوسطية في القاهرة، في شباط 1995، بدعوة من مصر، وضمت كل من إسرائيل والأردن ومصر ومنظمة التحرير الفلسطينية من أجل تحريك عملية السلام حسب رؤيتها. وتبعها اتفاق طابا في أيلول 1995، وهو الذي قرر تمزيق مناطق الضفة الغربية إلى ثلاثة مناطق "أ" و"ب" و"ج"، وأدى إلى خلق كنتونات إدارية ممزقة، وإلى حصر التحرك الأمني والإشراف الإداري للسلطة ضمن مناطق "أ" (التي لا تتجاوز 3% من مساحة الضفة الغربية)، ليؤكد أن كل اتفاق تفرضه "إسرائيل" يؤدي إلى مزيد من المسخ لمشروع السلطة وإلى مزيد من الإذلال لقادتها (مشاريع التسوية السلمية للقضية الفلسطينية).
في تلك الفترة كانت هنالك اتصالات سرية (سميت اوسلو ب)، بين عباس (نائب رئيس السلطة الفلسطينية في حينه) وبين بيلين (وزير الخارجية "الإسرائيلي") تمخضت عن وثيقة عرفت بوثيقة بيلين-عباس وهي التي بقيت سرية في حينه، (وعندما نُشرت تفاصيلها بعد سنوات، كما كشفت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في 10/07/2000) تبين أن نقاطها تضمنت إنشاء دولة فلسطينية منزوعة السلاح تتحول إلى جزء من الكونفدرالية الأردنية الفلسطينية إذا رغب الأردن، بينما يكون نهر الأردن حدودا أمنية دون السماح بوجود أي جيش غير "إسرائيلي" غربه، إضافة إلى وضع محطة إنذار ووحدات إسرائيلية مضادة للطائرات على قمم الجبال، وتضمنت الوثيقة تزوير القدس لتصبح محصورة في بلدة أبو ديس. وقد تم التوصل إليها قبل مقتل اسحق رابين بأربعة أيام، وبعد تسلم بيرز لرئاسة الحكومة لم يعترف بها، ثم أنكرها محمود عباس، وعلى ما يبدو كانت تلك الاتصالات السرية على غرار اوسلو الأولى بعيدا عن أعين الأمريكان.
وكانت أمركا تعمل على تحقيق السلام على كافة المسارات لتحقيق السلام الشامل حسب مبدأ "تلازم مسارات الحل"، أما رابين فقد أعلن في خطاب نيل الثقة في الكنيست الإسرائيلي، أن برنامجه يقوم على محاولة التوصل إلى حلول منفردة مع كل طرف عربي على حدة (مجلة الوعي-العدد 68). ولذلك أنجز الاتفاق مع الفلسطينيين ومع الأردنيين كل على حدة، وهو ما أحبط مسعى أمريكا من التوقيع المتزامن على سلام شامل. وكانت بريطانيا متوافقة مع حزب العمل في الوُجهة نفسها من باب مماحكة أمريكا.
وبينما كان الجميع متفقين على المصالح الأمنية للاحتلال اليهودي، التي أخذت تتجسد مع قبول السلطة وقادة المنظمة بدور حماية أمن المحتل، ومع ضمان دور الأردن كحرس حدود، برزت رؤيتان حول الموقف السياسي في الشرق الأوسط:
- رؤية أمريكية تقوم على إنجاز مسار السلام مع سوريا قبل استكمال المسار الفلسطيني أو معه، ولذلك رتبت أمريكا مع رابين ما يعرف بوديعة رابين للانسحاب من الجولان مع ترتيبات أمنية مناسبة، كما يفصل المقال اللاحق من هذه السلسلة.
- ورؤية "إسرائيلية"-بريطانية تستهدف الاختراق الاقتصادي ودمج "إسرائيل" في المنطقة، وهي تتجاوب أكثر مع تطلعات اليهود التوسعية.
واندفعت إسرائيل نحو التطبيع والاختراق الاقتصادي، وأخذ بيرز يؤسس لمفهوم "الشرق الأوسط الجديد" مستهدفا إدماج "إسرائيل" في المنطقة بل ابتلاع "إسرائيل" للمنطقة. وعرض بيرز –وهو المعروف بعراقة علاقته ببريطانيا- رؤيته تلك في كتابه الذي حمل عنوان المفهوم ذاته وصدر في العام 1994.
وبالطبع اعتبر بيرز أن (الإسلام) أو ما سماه الأصوليّة هي المُهدد الوحيد لاستقرار المنطقة، ومن ثم دعا إلى جمع دول المنطقة ضمن سوق شرق أوسطية مشتركة، ودعا إلى تشكيل "جامعة الشرق الأوسط" كإطار سياسي بديل عن الجامعة العربية (الشرق الأوسط الجديد).
وهذه الرؤية "الانتشارية" تتوافق مع نظرة بريطانيا لأن تكون "إسرائيل" شريكاً فاعلاً لها في المنطقة، وهي التي تتطلب اعتبار وجود كيان لليهود أمرا طبيعيا لا أن يظهر كجسم غريب فيها. وهذه النظرة في الحقيقية، هي التي دفعت بريطانيا منذ نشأة قضية فلسطين لتبنّي مبدأ إيجاد دولة ديمقراطية علمانية تجمع العرب واليهود على أساس طائفي كما الحال في لبنان (كما تم بيانه في الحلقة الثانية من هذه السلسلة)، وطورت بريطانيا رؤيتها لاحقا بالتخطيط لاتحاد هذه الدولة الطائفية كونفدرالياً مع الأردن، ومن ثم ضمها للجامعة العربية، لتصبح تلقائيا جزءاً مقبولا من المنطقة، ومن هنا يمكن فهم التلاقي السياسي بين رؤية بيرز في مشرعه للشرق الأوسط الجديد وبين رؤية بريطانيا القديمة حول الدولة العلمانية الواحدة.
ولكن فكرة الدولة الواحدة المتحدة مع الأردن قد تراجعت أمام تحقيق مشروع السلطة الفلسطينية (القائمة نظريا على مشروع حل الدولتين - الأمريكي)، ولذلك ففكرة انتشار "إسرائيل" من خلال إدخالها في الجامعة العربية لم تكن ممكنة، ومن هنا صار بيرز يروج لتأسيس مظلة سياسية وكيان اقتصادي جديد يمكّن "إسرائيل" من المشاركة فيه.
وعلى هذا الأساس، انعقد "المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا" في الدار البيضاء عام 1994، ودعا فيه بيرز العرب –بكل وقاحة- ليجرّبوا قيادة "إسرائيل" للمنطقة بعدما عاينوا فشل قيادة مصر لها طيلة العقود الماضية، وهو ما أغضب الحكام العرب والأمين العام للجامعة العربية، حيث اعتبروا أن هذه الدعوة تتضمن هدماً للجامعة العربية. ومع ذلك تتابع عقد ذلك المؤتمر الاقتصادي في الأردن عام 1995، ثم في مصر عام 1996 (ولاحقا في قطر عام 1997)، كإحدى الوسائل لدمج "إسرائيل" في المنطقة، مع إغرائها بالاختراق الاقتصادي بديلا عن التوسع واحتلال الأرض.
ومع منتصف التسعينات من القرن الماضي ظلّت أجواء الأنظمة منفتحة على قبول "إسرائيل"، حتى وصل الأمر إلى إيران (التي تدعي اليوم أنها من محور الممانعة)، إذ نقلت "وكالة الجمهورية الإسلامية للأنباء" الإيرانية الرسمية عن مسئول إيراني رفيع المستوى في 23/09/93 قوله أن بلاده لا تنوي وضع عوائق أمام الاتفاق بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل على الحكم الذاتي بدءاً بغزة وأريحا، مع أنها "غير متفائلة" بفرص نجاح عملية السلام في الشرق الأوسط (مجلة الوعي-العدد 78). أما تركيا فقد وقعت عام 1996 معاهدة عسكرية مع "إسرائيل" اقتضت التعاون في التدريبات العسكرية.
وفي سياق التأسيس لمرحلة تطبيع ثقافي جديدة، انطلقت عملية تغيير المناهج المدرسية أو بالأدق عملية التخريب الثقافي، وذلك من أجل زرع "ثقافة السلام" (بل الاستسلام)، ومحو ثقافة الحرب والتحرير. وبادرت وكالة الأونروا في فلسطين بمهمة توجيه مدراء المدارس في أيلول 1994 للالتزام بتعديلات الكتب عن طريق حذف بعض الفقرات التي تتحدث عن بني إسرائيل واليهود ومخططات اليهود التوسعية والتاريخ الديني لليهود (مجلة الوعي-العدد 92)، ونقلت مجلة الوعي في العدد 91 خبرا عن وزير التربية والتعليم الأردني (1994) مفاده أن الأردن سيعمد إلى تهذيب مناهجه الدراسية بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل. ثم تصاعدت عملية تغيير المناهج الفلسطينية بشكل شامل مما تترجم على الأرض خلال السنوات اللاحقة.
وهكذا وجدت رجالات المنظمة ألهية تسلّت بها وهي تتابع تنفيذ مشروعها السخيف، وفرح رجالاتها بألقاب الوزارة، وبالرتب العسكرية تحت الاحتلال، وأخذت المنظمة تروّض الناس ليتعايشوا مع هذا الواقع المخزي شيئا فشيئا، بينما كان أهل فلسطين يسخرون مما تمخض عن المنظمة من جريمة تأسيس سلطة تحت الاحتلال، ويتندرون بوصفها "سلَطة" -بفتح اللام- في إشارة إلى أنها أكلة سريعة بلا سياسة مدروسة، وبأنها خلطت أوراق الفكر النضالي المدّعى مع المشروع الأمني الممارس. ثم صارت السلطة تلاحق من يتندر بها من أهل فلسطين، ومن يصف الواقع بأنه "الحكم الزاكي" (باللهجة الفلسطينية الدارجة) وذلك سخرية مما تمخض مشروع المنظمة عنه من "حكم ذاتي". وقد كانت تلك الأمثال والأقوال الشائعة –كما العادة- انعكاسا مباشرا عن المزاج العام ضد جرائم المنظمة، وتعبيرا رمزيا عن رفض أهل فلسطين لمشروع المنظمة والسلطة. وقد أكدت هذه الأقوال الشائعة للمنظمة ولربيبتها السلطة ولمن يقف خلفها على ضرورة القيام بدور ترويضي وسخ لإغراق الناس في أوحالها (كما وصل ذروته هذه الأيام)، ليلتقي مسار التخريب الثقافي والتمييع المعنوي مع مسار التنسيق الأمني، في مرحلة بشعة من مراحل قضية فلسطين.
إن خلاصة وصف مرحلة إنشاء السلطة الفلسطينية بلغة المنظمة نفسها أنها "عمالة" في سياق تصفية القضية الفلسطينية وشرعنة للاحتلال، إذ نص البيان الأول للجنة التنفيذية للمنظمة: "تسعى الحركة الصهيونية والاستعمار وأداتهما إسرائيل إلى تثبيت العدوان الصهيوني على فلسطين –بإقامة كيان فلسطيني في الأراضي المحتلة بعد عدوان 5 حزيران (يونيو) -كيان يقوم على إعطاء الشرعية والديمومة لدولة إسرائيل الأمر الذي يتناقض كليا مع حق الشعب الفلسطيني في كامل وطنه فلسطين. إن مثل هذا الكيان المزيف هو في حقيقة حاله مستعمرة إسرائيلية، يصفّي القضية الفلسطينية تصفية نهائية لمصلحة إسرائيل ... هذا بالإضافة إلى خلق إدارة عربية فلسطينية عميلة في الأرض المحتلة تستند إليها إسرائيل في التصدي للثورة الفلسطينية" (كتاب سلام الأوهام أوسلو – ما قبلها وما بعدها، محمد حسنين هيكل).
وهكذا اتسم منتصف عقد التسعينات من القرن الماضي بما يلي:
o انبثاق وتفعيل المشروع الأمني تلبية لاحتياجات دولة الاحتلال اليهودي والتصدي للمقاومة.
o انطلاق مسيرة التطبيع مع دولة الاحتلال على كافة المستويات، مع ما ترافق معها من تخريب ثقافي قي برامج التعليم.
o وفتح شهية قادة اليهود للتوسع عبر الاختراق الاقتصادي وعبر اقتراح إطار سياسي واقتصادي بديل عن الجامعة العربية.