قضية فلسطين-8
الأردن وفلسطين ... وفاق ثم فراق ... وغياب الآفاق
الدكتور ماهر الجعبري
يستكمل هذا المقال عرض الحالة السياسية الباهتة خلال منتصف الثمانينات من القرن الماضي ضمن سلسلة "قضية" فلسطين، حيث استمرت "إسرائيل" في مقاومة التحركات نحو السلام، بينما استمر لهث الأنظمة والمنظمة نحو مسيرة الاعتراف بالاحتلال ضمن المشاريع الغربية.
كانت "إسرائيل" قد جددت جرائمها ضد المسلمين في لبنان مطلع الثمانينات بينما ظلت الأنظمة العربية منبطحة تماما، واستمرت الأنظمة في الترويج الإعلامي والسياسي للاعتراف بالاحتلال وترسيخ عقلية التسليم بالأمر الواقع، بينما استمرت قادة الكيان اليهودي في الانفلات من الضغوط عليهم لدفعهم نحو "السلام".
بعد مرحلة من الضعف، استعادت بريطانيا بعض العافية السياسية مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وحاولت من جديد فرض حضورها الدولي، فعاد الصراع الانجلو أمريكي على المصالح في المنطقة يشتد، ولذلك برزت قضايا إقليمية مثل الحرب العراقية الإيرانية، استقطبت الاهتمام الدولي، وشغلت المنطقة دون ظهور أفق لإيقافها، وخصوصا بعد تحوّل ميدان الحرب إلى ساحة تنافس على المصالح الغربية، بينما لم ينزعج الغرب من سيل الدماء كونها إسلامية.
وكانت مشروعات الحلول السياسية قد تطورت في سياق ذلك الصراع الأنجلو أمريكي، فبرز مشروع الكيان الأردني الفلسطيني، ومشروع ريغان ومشروع الملك فهد. وخلال مرحلة الثمانينات حصل التقاء عربي دولي على فكرة الكيان الفلسطيني-الأردني المشترك، وكانت نسخته الأمريكية تتحدث عن "حكم ذاتي" وسلطة منتخبة تتحد "إداريا" مع الأردن، فيما تبقى خاضعة عسكريا لليهود، وحصل توافق نسبي مع رؤية بريطانيا التي كانت قد أعادت طرح مشروعها بإقامة دولة علمانية على الأرض التي تنسحب عنها "إسرائيل"، وتتحد فدراليا مع الأردن. ومع ذلك ظلّت الدولة اليهودية تتمرد على الحلول السياسية وترتكب الجرائم بحق المسلمين في لبنان، ويشجعها تخاذل الأنظمة العربية التي ظلت تتحدث عن السلام بينما تمارس "إسرائيل" الحرب.
وفي سياق المشروع البريطاني المعدل، والمتوافق نسبيا مع نظرة ريغان، وبعد الخروج من لبنان، وبعد قمة فاس، صارت منظمة التحرير الفلسطينية تتابع الخطى للدخول في مفاوضات مع الكيان اليهودي. وعقد المجلس الوطني الفلسطيني اجتماعه في الجزائر في 14/2/1983 (الدورة السادسة عشرة) لإعطاء الغطاء التفاوضي للمنظمة، من خلال التصديق على مقررات قمة فاس، وعلى ما تم التوافق حوله ما بين ياسر عرفات والملك حسين حول الدخول للمفاوضات.
في هذه الأجواء المتسارعة نحو الحلول السياسية لتصفية قضية فلسطين، وجّه حزب التحرير مذكرة إلى المجلس الوطني الفلسطيني يحثّه فيها على رفض مقررات مؤتمر قمة فاس التي وصفها بالخيانية جملة وتفصيلا، ودعاه إلى رفض وثيقة ياسر عرفات التي سلمها لمكلوسكي في بيروت، وإلى عدم تفويض ياسر عرفات ومنظمة التحرير للتفاوض. ومن قبل هذه المذكرة، كان حزب التحرير قد قدّم إلى المؤتمرين في قمة فاس (بتاريخ 17/11/1981) برنامجا للتحضير المادي والعسكري لمعركة التحرير، دعاهم فيه للتحرر من النفوذ الاستعماري وإنهاء "تدويل القضية"، ودعاهم لرفض مشروع فهد بن عبد العزيز محذرا من مغبة الاعتراف الرسمي بالدولة اليهودية.
وتماشى المجلس الوطني الفلسطيني مع المشروع السياسي المطروح لتصفية القضية، وقرر أن "تقوم العلاقة المستقبلية مع الأردن على أسس كونفدرالية بين دولتين مستقلتين"، مما عزز – في تلك الفترة- دور الملك حسين وحضوره السياسي على مسرح القضية، وصار يتطلع للقيام بنفسه بالمفاوضات مع "إسرائيل" حول قضية فلسطين، ويضع المنظمة تحت جناحه.
ولكنّ "إسرائيل" ظلت رافضة لمنظمة التحرير ولمبدأ التفاوض معها رغم كل محاولات تزيين المنظمة وتزيّنها أمام عيون قادة "إسرائيل"، وظلت "إسرائيل" رافضة بالطبع للانسحاب إلى حدود 1967، وخصوصا في ظل رؤيتها التوسّعية تحت حزب الليكود الرافض لمبدأ الانسحاب لأنه يعتبر فلسطين أرضا "إسرائيلية" لا يجوز التخلي عنها، وهو لا يختلف عن حزب العمل كثيرا، حيث يقبل الأخير مبدأ "التخلي الإداري"، بينما يصرّ على بقاء الهيمنة العسكرية والمستوطنات، وعلى وجود حزام أمني على نهر الأردن.
وكانت "إسرائيل" تحاول (مع نهاية السبعينات) إيجاد قيادة فلسطينية بديلة عن المنظمة في الداخل، فتمخضت محاولاتها في العام 1981 عن مشروع "روابط القرى" تحت عنوان "الإدارة المدنية"، لتزيين السيطرة العسكرية على مناطق الضفة الغربية وغزة، في سياق محاولاتها للانفلات من الضغوط للسير في المسيرة السلمية التي تتطلب الانسحاب (الإدارة المدنية الإسرائيلية: خلفية تاريخية).
وضمن تلك السياقات تصاعدت الأحداث في الضفة الغربية، وخصوصا في أجواء تشكيل روابط القرى، فاستغلت "إسرائيل" الهبّات الشعبية لمقاومة التحركات السياسية التي تُفرض عليها، كعادتها للتملّص من السير في المسيرة السلمية التي تَفرِض عليها الانسحاب الجزئي، وخصوصا وهي تلاحظ تبلور التوجهات السياسية وعلى رأسها مشروع فهد بن عبد العزيز، وتعلم أنها ستقع تحت ضغط شديد من أمريكا. وفي ظل تلك الهبات الشعبية واستغلالها من قبل قادة "إسرائيل" تعذّر السير في مشروع ريغان، رغم أن سقفه كان "حكما ذاتيا" مرتبطا بالأردن.
ومع نهاية العام 1983، وفي سياق الصراع على النفوذ في منظمة التحرير، تعرضت المنظمة لحصار ثان في طرابلس شمال لبنان (بعد الحصار في بيروت والخروج منها عام 1982)، وذلك بعدما عاد إليها عرفات سرا، لمتابعة المواجهات مع القوات السورية، والصراع مع المنشقين عنها الذين انحازوا إلى سوريا. وسالت دماء الفلسطينيين رخيصة على مذبح المكائد والمؤامرات التي حيكت ضدهم، وانتهت بإخراج الآلاف المتبقية من المقاتلين من طرابلس من خلال تنسيق دولي شبيه بمشهد الخروج من بيروت، وذلك في أيلول 1983، وكانت الوجهة هذه المرة نحو اليمن، وتحت الحماية الفرنسية مرة أخرى.
وكانت سوريا تستهدف تركيع المنظمة لهيمنة الأسد، وبالتالي لتكون منقادة تماماً للإرادة الأمريكية. وبالطبع لم تكن أمريكا معنية بالقضاء على ياسر عرفات، لأنها بحاجة لمن يقود مسيرة المنظمة نحو الاعتراف بالاحتلال اليهودي، وكان عرفات قد قطع شوطا مهما في ذلك منذ السبعينات، وصولا إلى التوقيع على وثيقة مكلوسكي، والموافقة على مقررات قمة فاس ومشروع الملك فهد. وهو الذي تم إبرازه ("كمفوّض"!) للتوقيع نيابة عن الفلسطينيين على الصلح.
ولذلك عملت أمريكا على تسهيل إجلاء عرفات ورجاله من طرابلس بسلام، بل وضغطت أمريكا على "إسرائيل" (التي تبغض المنظمة ورئيسها) من أجل حمايته. وتم ترويض عرفات ومن معه للرضوخ التام للغرب، وهو يخرج بالتنسيق الأمريكي وتحت الحماية والفرنسية للمرة الثانية. وحققت أمريكا بعد ذلك الخروج مهمة طي صفحة "الكفاح المسلح" من قبل الفدائيين في لبنان، وتحويل المنظمة إلى كيان سياسي بحت. وتمّت سيطرة سوريا على ما تبقى من الفدائيين في لبنان، بعدما سيطرت على من انحاز إليها خلال الانشقاق. فصار تحركهم تلقائيا ضمن الأطر التي تسمح بها سوريا.
وكمؤشر عاجل على نجاح الترويض وعلى الجاهزية للانبطاح التام، أصرّ عرفات على زيارة القاهرة في طريقه البحري لرحلة الخروج من طرابلس، رغم معارضة قيادات في المنظمة، وذلك لدى مرور سفينة الرحيل عبر قناة السويس. وزار عرفات القاهرة رغم أنها كانت تحت المقاطعة العربية (الصُورية) بسبب توقيع اتفاقية السلام (المنفردة) مع "إسرائيل"، بل روّج عرفات لعودة مصر إلى موقعها داخل المجموعة العربية. وقد كانت تلك الزيارة دلالة واضحة على تبلور رؤية راسخة عند عرفات للسير في مسيرة الاعتراف بالاحتلال والصلح.
وحيث أن المشاريع السياسية كانت تلتقي عند الكيان المشترك مع الأردن، وحيث أن المجلس الوطني الفلسطيني (عام 1983) أقر مبدأ الكونفيدرالية مع الأردن، دخلت القضية في منتصف الثمانينات تحت جناح الملك حسين لبعض الوقت، ولذلك حاول الملك حسين التحضير للسير في المسيرة السلمية حسب برنامجه وعبر شخصه. وحاول تهيئة الأجواء في الأردن من خلال قمع الأصوات المعارضة للصلح، من شباب حزب التحرير ومن صفوف الفدائيين غير الموالين لياسر عرفات، ومن المعارضين للحلول السلمية تحت ذرائع متعددة، تضمنت افتعال قلاقل داخلية ودعاوى التهديدات الأمنية.
ثم تحرك الملك حسين نحو أمريكا لإطلاق مسيرته في ربيع 1984، ولكن ريغان رده خائبا، حيث لم تنشط أمريكا في تلك الفترة في مجال القضية، وقد كانت سنة انتخابات (تُدخل الإدارة الأمريكية ضمن حالة البطة العرجاء)، وخصوصا أن الحرب العراقية الإيرانية كانت تحظى بالاهتمام الأكبر. وظل التباطؤ الأمريكي سيد الموقف في متصف الثمانينات.
ولكن الملك حسين ظلّ يحاول الدفع نحو احتواء القضية تحت جناحه من خلال مشروع الكيان المشترك، فدعا المجلس الوطني الفلسطيني للانعقاد في عمان في تشرين الثاني 1984 من أجل الحصول على تأكيد التزام المنظمة بالسير تحت مظلته، وطرح على المجلس "المبادرة الأردنية- الفلسطينية المشتركة"، والمبنية على القرار الأممي رقم 242 كأساس للتسوية، وعلى مبدأ الأرض مقابل السلام. وتمشيا مع مقترحات الملك حسين، أكدت قرارات المجلس الوطني الفلسطيني على توطيد العلاقات مع الأردن وتنسيق الجهود للتحرك المشترك.
وكانت أجواء المجلس تشير إلى حالة من الانبطاح نحو مسيرة الاعتراف إذ جاء في كلمة صلاح خلف (الرجل الثاني في منظمة التحرير) أن العمل الفدائي عاجز عن أن يحرر شبرا واحدا من فلسطين. ودعا المجلس "اللجنة التنفيذية لمتابعة الحوار والتنسيق مع الأردن، طبقاً لمقررات دورة المجلس الوطني السادسة عشرة، ومع الالتزام بمقررات القمم العربية في الرباط وفاس، وخاصة المشروع العربي للسلام، منطلقاً للتحرك السياسي" (الدورة السابعة عشرة).
وركزت قرارات المجلس على تثبيت ياسر عرفات على رأس المنظمة، إذ نصت قراراته على "إدانة كافة المحاولات التخريبية الهادفة إلى شق منظمة التحرير الفلسطينية، وتمزيق صفوفها، أو اصطناع قيادات بديلة عنها". وقد عقد المجلس في عمان بعدما "تعقّدت أمور عقد المجلس الوطني الفلسطيني في دمشق لأن حافظ الأسد اشترط عقده بدون ياسر عرفات"، ونجح المجلس في "تجديد انتخابه رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير" (الرئيس القائد).
وتتابعت المباحثات الأردنية الفلسطينية على ذلك الأساس حتى أقرت الاتفاق المشترك في 11/2/1985، ووقع ياسر عرفات مع الملك حسين "خطة العمل المشترك الأردني-الفلسطيني" التي تضمنت الموافقة على خطة لمباحثات سلام من خلال عقد "مؤتمر دولي تشارك فيه منظمة التحرير الفلسطينية" ضمن وفد مشترك مع الأردن، على "أسس الشرعية الدولية التي تمثلها قرارات الأمم المتحدة"، للوصول إلى علاقة كونفدرالية لدى قيام الدولة الفلسطينية، والاعتراف المتبادل مع الكيان اليهودي (نص اتفاق عمان 11 فبراير 1985).
وتحسنت علاقة المنظمة بالأردن على إثر ذلك الاتفاق (بعدما كانت قد تردت نتيجة أحداث أيلول عام 1970)، وباركت بريطانيا "خطة العمل المشترك الأردني-الفلسطيني"، خلال زيارة قامت بها رئيسة وزرائها لعمان في 20/9/1985، إذ أعلنت أنها تقف مع الأردن في مبادرته مع منظمة التحرير، وأرادت من خلالها إعادة الثقة ببريطانيا في المسرح الدولي، وإحراج أمريكا في المنطقة.
ولكن "إسرائيل" ظلّت تصرّ على رفض فكرة الانسحاب، وظلّت ترفض مبدأ التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية رغم انبطاح الأخيرة، وبلورت اقتراحات "بتطبيق الحكم الذاتي من طرف واحد على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة" (الكنيست الحادية عشرة). وفي محاولة التفافية على التحركات السياسية، قام بيرس في العام 1985 بزيارة للمغرب في حراك كاذب نحو "عملية السلام"، ومن ثم التقى بعد عودته بعدد من الشخصيات الفلسطينية من الضفة الغربية وقطاع غزة ضمن محاولات "إسرائيل" لإيجاد زعامة بديلة عن المنظمة.
وفي تلك الفترة وفي سياق مقاومة الضغوط للسير في مسيرة سلمية تقودها للانسحاب، تفتق حزب الليكود عن فكرة الوطن البديل في الأردن كحل لمشكلة الفلسطينيين، وبرز في حينه مبدأ التسفير (Transfer)، بعدما كان قادة "إسرائيل" ينظرون بأهمية لبقاء كيان الأردن كصمام حماية لدولتهم وحرس حدود. وبالطبع، أدخل ذلك التوجه "الإسرائيلي" قلقا بالغا لدى الملك حسين على مصير المملكة، وتخوّف من طرد مزيد من الفلسطينيين نحو الأردن ومن ثم هيمنتهم على كيانه، فعمل في تلك الفترة على تقييد سفر الفلسطينيين للأردن تحسبا لتنفيذ حزب الليكود لرؤيته. وأعاد الملك حسين علاقة الأردن مع مصر بعد التخلي عن فكرة المقاطعة من أجل المساعدة في منع تسفير الفلسطينيين للأردن.
ودفعت تلك التخوفات الملك حسين للتخلّي عن فكرة الكيان المشترك، حيث خشي من أن يتمخض عنه سيطرة الفلسطينيين على المملكة، ولذلك ألغى الملك حسين الاتفاق عام 1986، ثم ألغاه المجلس الوطني الفلسطيني عام 1987.
ومع حصول تغيّر في الحكومة "الإسرائيلية" وتشكيل ائتلاف بين حزبي العمل والليكود مع منتصف الثمانينات، كانت هنالك أزمة اقتصادية خانقة لدى الكيان اليهودي، وخصوصا بعدما أنهكتها الحروب المتلاحقة، وصارت "إسرائيل" أكثر حاجة للدعم الأمريكي، ولكن أمريكا ظلت منشغلة عن قضية فلسطين. وتعاظم الانشغال الدولي والعربي بالحرب العراقية الإيرانية، فلم تُجدِ التحركات السياسية لدفع المسيرة السلمية، فيما عدا ترسيخ انبطاح الأنظمة العربية والمنظمة. ولم تتمخض محاولات التحرك الفلسطيني الأردن المشترك عن شيء يذكر في الواقع.
وهكذا اتسمت فترة منتصف الثمانينات بتذبذب العلاقة بين الأردن وفلسطين ما بين الوفاق والفراق، وطغت فكرة الكيان الأردني الفلسطيني المشترك على الساحة السياسية لفترة من الزمن ثم انتهت، وظلت قضية فلسطين دون آفاق للحل، وخصوصا في ظل انشغال أمريكي بملفات أخرى، وتَطوّرت أفكار التهجير عند قادة "إسرائيل".