قضية فلسطين-6
جر الدولة اليهودية نحو السلام !
الدكتور ماهر الجعبري
يستكمل هذا المقال متابعة مسيرة السادات للصلح مع اليهود، ويكشف عن التجاذبات التي حصلت بين أمريكا وربيبتها "إسرائيل" عندما كانت الأخيرة تتمنّع عن السير في مشروع "السلام"، وذلك ضمن سلسلة "قضية" فلسطين.
ظلّت الجامعة العربية في قممها وتحركاتها تدندن حول انسحاب "إسرائيل" لحدود 1967، بعدما تخلّت الأنظمة عن تحريك الجيوش للتحرير، ونشط السادات في تنفيذ المصالح الأمريكية وفي تعزيز نفوذها بالمنطقة، وخاض بالاتفاق مع أمريكا حرب 1973 من أجل تحريك المسيرة السلمية وتثبيت حكمه، ولكن التحديات الخارجية والداخلية التي واجهها الرئيس الأمريكي نيكسون، إضافة إلى عدم استقرار النفوذ الأمريكي في المنطقة وتصاعد القلاقل في لبنان أدى إلى تباطؤ المسيرة السلمية. ثم ركزّت أمريكا سياستها على تحضير منظمة التحرير الفلسطينية للتفاوض، وأنجزت اعترافات عربية ودولية بها، وصارت المنظمة في المحافل الدولية كأنها دولة.
وظلّت أمريكا تضغط على "إسرائيل" للسير في السياسة الجديدة، والتفاوض مع المنظمة، ولكن "إسرائيل" ظلت تتمنّع: مع نهاية العام 1976، كانت "إسرائيل" قد طورت مشروع إيغال آلون الذي كانت قد طرحته من قبل، ونشر إيغال آلون مشروعه في مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية كدراسة تحت عنوان "إسرائيل: حدود دفاعية"، وقد عكس فيه العقلية الأمنية لليهود، واقترح فيه إقامة الدولة الفلسطينية-الأردنية كحل للمشكلة الفلسطينية (مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية بعد حرب أكتوبر 1973) مع تحديد الحدود لتوفير الأمن والعمق الاستراتيجي "لإسرائيل" مستندا إلى أن القرار رقم 242 ينص على انسحاب من "أراض" احتلتها "إسرائيل" عام 1967 وليس من الأراضي التي احتلتها، مما يمكن اعتباره "كيان الكنتونات" الممزقة، حسب ما درج في السنوات الأخيرة من اصطلاح، وكان ذلك المشروع في سياق مقاومة التحركات الأمريكية الضاغطة على "إسرائيل".
وفي العام 1977، طرأ تطور على المشهد "الإسرائيلي" بعد فوز حزب الليكود في "الانتخابات الإسرائيلية" برئاسة مناحيم بيغن، على حزب العمل الذي كان قد هيمن على المشهد السياسي منذ نشأة الكيان اليهودي. وبينما كان حزب العمل يقبل مبدأ السماح بالحكم الإداري في الضفة الغربية للعرب، فإن حزب الليكود يرفض أي معنى من معاني إنقاص السيادة الإسرائيلية على كل فلسطين. وعلت نبرة التطلعات اليهودية للتوسع بناء على نظرات توراتية للوصول إلى كيان ما بين النيل والفرات، وفي سياق سياسي لتكوين دولة يهودية تضم معظم يهود العالم.
وصعّبت تلك النظرة التوسعية وتلك النبرة السياسية المتمردةُ تنفيذَ مخططات السلام على أمريكا. صحيح أن إسرائيل لا تخرج عن أمريكا، ولكنها تتصرف كالطفل المدلل الذي يتمرد على مربيه في دلاله. لذلك نشأ شد وجذب بين أمريكا "وإسرائيل"، وعملت أمريكا على محاصرة الكيان اليهودي وإحباط النظرة التوسعية الصهيونية لليهود، وصارت أمريكا تريد لجم "إسرائيل" وتحجيمها، وتعمل على جرها للسلام جرّا.
وتوافقت تلك التطورات مع قدوم كارتر كرئيس لأمريكا، وقد تحرّك دوليا وحرك وزير خارجيته (سيروس فانس) لتقريب وجهات النظر في محاولة لعقد مؤتمر جنيف. وكانت جلسات لمؤتمر جنيف قد عقدت في العام 1973 كمتابعة لقرار الأمم المتحدة رقم 338 الذي نص على "مباشرة المفاوضات فوراً وفي وقت واحد مع وقف إطلاق النار بين الأطراف المعنية تحت الإشراف الملائم بهدف إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط"، ولكنه لم ينجح (مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية بعد حرب أكتوبر 1973).
وتجاوبت المنظمة مع طرح كارتر، حيث أكد عرفات في 23/5/77 أن "المنظمة ترغب في فتح حوار مع السلطات الأمريكية، واعتبر تصريحات كارتر عن الوطن الفلسطيني إيجابية"، وفي 26/7/1977 أرسلت المنظمة رسالة خاصة إلى الإدارة الأمريكية أكّدت فيها استعدادها "للعيش بسلام مع إسرائيل، مقابل تعهد أمريكا بقيام كيان فلسطيني يمكن ربطه بالأردن"، ولذلك صرّح فانس وزير الخارجية الأمريكي في 13/8/1977 أن "المنظمة ربما أصبحت مستعدة للقبول بالقرار 242. ولذلك قد تقبل الولايات المتحدة قيام شكل من أشكال الدولة الفلسطينية في الأراضي المحتلة بعد فترة انتقالية مدتها عشر سنوات" (مسار علاقة حركة فتح بالولايات المتحدة الأمريكية).
ومع ذلك الانبطاح من قبل المنظمة، لم تنجح أمريكا في تقريب وجهات النظر مع القيادات اليهودية، فيما يتعلق بالتمثيل الفلسطيني (من خلال المنظمة), وإيجاد دولة فلسطينية، حيث قوبل وزير خارجيتها فانس بتصلب في "إسرائيل"، لأن قادتها لا يقبلون بمبدأ الانسحاب بل يفكّرون بعقلية التوسع، ويعتبرون أن ميثاق المنظمة يدعو للقضاء على دولتهم، وظلّ اليهود يتصرفون على أساس أن دولتهم هي قاعدة لهم لا لأمريكا. وفي سياق التمنّع أمام أمريكا، صار مناحيم بيغن يتحدث عن مشروع الحكم الذاتي في الضفة الغربية وغزة مع نهاية عام 1977.
وعلى عكس الأجواء "الإسرائيلية" الرافضة للسلام، وجدت إدارة كارتر تجاوبا وتساهلا في الدول العربية واستعدادا للصلح والاعتراف، حيث كان العرب قد أخذوا يعبّرون عن انبطاحهم للصلح والاعتراف بالدولة اليهودية منذ الفترة التي أعقبت حرب 1967، وخاض السادات حرب 1973 من أجل هذه الغاية.
ولم تجد أمريكا فرصة لعقد مؤتمر جنيف قبل أن تستميل القيادات اليهودية نحو مشروعها. واجتهد كارتر في جرّ "إسرائيل" نحو السلام، وبدت في الأجواء مظاهر "مواجهة" سياسية مع "إسرائيل" لنزع فكرة التوسع التوراتية من ذهنها ولترويضها.
وكان العام 1977 عام التحركات الدبلوماسية النشطة نحو السلام، حيث فاجأ السادات القادة اليهود باستعداده لزيارتهم ومد الجسور السياسية المباشرة معهم، ثم كسر الحاجز النفسي لرفض التطبيع مع الكيان اليهودي، ودخل المسجد الأقصى وهو تحت الاحتلال، ثم خطب في "الكنيست الإسرائيلي" في 20-11-1977 يدعو للانسحاب لحدود 1967، ضمن معالم المشروع الأمريكي للحل.
وظلّ السادات مندفعا للصلح مع الكيان اليهودي منفردا عن بقية الأنظمة، وظلت الجامعة العربية ترفض الحلول "المنفردة" كما أكّد مؤتمر القمة العربي العادي التاسع في بغداد في تشرين الثاني 1978. ولكن الجامعة العربية لم تستطع كبح جماح السادات، فأجرى محادثات السلام في كامب ديفيد، ثم وقع على إطار السلام في كامب ديفيد في العام 1978 ثم معاهدة السلام في واشنطن في 26-3-1979. وقد نصّت المعاهدة على إنهاء حالة الحرب، وإقامة علاقات ودّية وانسحاب "إسرائيل" من سيناء التي احتلتها عام 1967، وضمان عبور السفن الإسرائيلية قناة السويس ... وتضمنت الاتفاقية البدء بمفاوضات لإنشاء منطقة حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة (معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.. أولى المعاهدات).
وهكذا تمخّضت جهود السادات عن تنفيذ فعلي للتسوية على الأرض، وعن انطلاق مشاريع التطبيع مع الكيان اليهودي، وألصق باسمه عار الاعتراف باحتلال فلسطين، مما لن ينساه التاريخ ولن تنساه الأمة.
ولأن السادات تجاوز الجامعة العربية وانفرد بالحل السلمي، رفض مؤتمر القمة العربية في بغداد في تشرين الثاني من العام 1978 اتفاقية كامب ديفيد، وتم نقل مقر الجامعة العربية من مصر، وتقرر مقاطعتها وتعليق عضويتها في الجامعة العربية لحين زوال الأسباب. ثم أدان مؤتمر القمة في تونس في تشرين الثاني 1979 اتفاقية السلام ومعاهدة الصلح المصرية الإسرائيلية (تاريخ القمم العربية). ومن الجدير تأكيده أن خطاب الأنظمة "السلمي" والقانوني كان قد تبلور منذ الهزيمة في العام 1967، ولذلك لم يكن وقوف الأنظمة في وجه السادات بسبب رفض مبدأ الصلح مع اليهود، وإنما كان ذلك الموقف لأن السادات تجاوزها وانفرد بالحل.
ولم تكن القيادية اليهودية مقبلة على السلام، وظلّت تقاوم خطوات السادات وتؤخرها، وهي تستقوي بالشحن السياسي من قبل بريطانيا التي أحسّت بتحسن ظروفها (الاقتصادية) في تلك الفترة، مما أعاد فتح شهيتها للتدخل في الشرق الأوسط. ولذلك تعثرت اتفاقية السلام مرارا وتكرارا، ولم تكن لتتم لولا إصرار كارتر على إنجازها لأسباب أمريكية داخلية وخارجية، منها أنه أراد أن يثبت للعالم أن أمريكا قادرة على أن تعمل ما تريد عندما تريد.
ولذلك مارس كارتر ضغطا متواصلا على "إسرائيل": وقبل الوصول إلى توقيع المعاهدة تطور الخلاف بين أمريكا (ومنظورها تحجيم "إسرائيل") وبين "إسرائيل" (ومنظورها التوسعي)، وفي سياق ذلك الاحتدام ارتفعت حدة التصريحات والتصريحات المضادة: إذ ينقل عن الوزير اليهودي موشي ديان أنه سمع كلاما قاسيا وتهديدا من كارتر جاء فيه "إذا لم توقع إسرائيل على الاتفاقية خلال عشرة أيام فإن أمريكا ستضطر إلى إعادة تقييم سياستها في الشرق الأوسط وتجاه إسرائيل, وأن ذلك سيكون في غير صالح إسرائيل"، مما تعتبر تهديدات ساخنة في الأعراف الدبلوماسية بين أمريكا "وإسرائيل"، وينقل عن كارتر قوله "أنه قرف من مفاوضات الشرق الأوسط للموقف الإسرائيلي المتعنت". وفي الرد على كارتر، وصف بيغن الرئيس الأمريكي بأنه كذّاب ومخادع ومتحيز للسادات، وعلق وزير الخارجية الأمريكي فانس على كلام بيغن هذا بأنه "وقاحة لا تحتمل" (بيان حزب التحرير بتاريخ 26/3/1979).
وحصل تشويش كبير على مسيرة السادات عندما قامت ثلاث مجوعات من الفدائيين بعملية ضخمة في "إسرائيل" ترتب عليها قتل وجرح ما يزيد على المائة والعشرين شخصا، تمت مساء السبت في 11-3-1978، عشية سفر مناحيم بيغن إلى أمريكا للقاء بكارتر، ولكن بيغن لم يوقف المسيرة تحت الضغط الأمريكي.
كانت أعمال السادات خروجا سافرا على قناعات الأمة وعن الموروث الثقافي الرافض للاحتلال، واستغلّت بعض الأنظمة العربية موقف الرفض لاتفاقية السلام (كونها منفردة مع مصر)، للتضليل والترويج بأنها في جبهة التصدي والصمود، واتخذت الرفض ستارا لتغطية عوراتها المفضوحة، ولاستمالة شعوبها حولها، ولذلك ظلّت هنالك فسحة للحديث الإعلامي والشعبي ضد الاتفاقية وضد الاعتراف بالدولة اليهودية، مما تتجاوب مع مشاعر الأمة الإسلامية التلقائية.
وتصاعدت الاحتجاجات وانطلقت المظاهرات في أرجاء البلاد العربية تتّهم السادات بأوصاف الخيانة وبيع الحقوق (مشاريع التسوية السلمية للقضية الفلسطينية). وتطلّبت الأجواء المشحونة تبرير جريمة الاعتراف بالاحتلال اليهودي، وتمييع حرمة الصلح معه من خلال تفصيل الفتاوى المنسوبة للشرع، وذلك على نهج الحكام من تسخير المشايخ المأجورين.
ولذلك استغل السادات شيوخ الأزهر لإصدار فتوى تبيح ما أقدم عليه بعد أن أتمّه، مع أن الحكم الشرعي يستصدر قبل الإقدام على الفعل لا بعده. وأصدر شيوخ الأزهر بيانا للعالم الإسلامي بتاريخ 10/5/1979 يُلبسون فيه معاهدة السادات ثوبَ الإسلام، ويُلبسون على الأمة، إذ صوّرا المعاهدة على أنها قائمة على موقف "القوة بعد خوض معركة الجهاد والنصر"، وضللوا على الأمة فشبّهوا المعاهدة بصلح الحديبية.
والحقيقة أن صلح الحديبية عقده الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل متابعة الجهاد لنشر الإسلام لا من أجل تمكين الأعداء والاستسلام، وأنه كان لفترة محدودة وليتفرغ المسلمون لغزو يهود خيبر، ولم يتضمن أي تنازل عن أي شبر من أرض المسلمين، إذ لم تكن مكة قد ضُمّت لأرض الدولة الإسلامية الحديثة. أما السادات فقد وقّع صلحا "دائما" يُبقي الأعداء فوق أرض المسلمين، ويجعل لهم كيانا معترفا به من قِبل أكبر قوة عربية في المنطقة، فيُخرجها من معادلة الأمة العسكرية، ثم "يُشرعِن" وجود الاحتلال اليهودي ويتجاوز عن كل جرائمه التي قامت بها. وهو صلح يتضمن التنازل عن أرض فلسطين (من التي احتلت قبل عام 1967) مما لا يملك أن يقوم به أحد حتى ولو كان خليفة للمسلمين، لأن ذلك هو تمكين للمستعمر والله سبحانه وتعالى يقول (في صيغة الإخبار ما يُحمل محمل الطلب والتشريع عند أهل الأصول): "وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً".
ورغم تسخير مشايخ السلطان للتضليل السياسي والتحريف الشرعي، واجه السادات معارضة قوية، فقام بحملة مسعورة على معارضيه، واعتقل منهم المئات، جريا على نهج الأنظمة المستبدة في كم الأفواه، ولكنه مع ذلك لم يستطع الهرب من عقاب الدنيا، حيث ناله بعد مرور أربع سنوات على زيارته التطبيعية للقدس، فلقي مصرعه على أيدي أفراد من أبناء الجيش، من الذين لم تنفع معهم فتوى الأزهر، بعدما كان قد صرّح لزوجته أنه غير مطمئن على حياته، وأن هنالك أمرا يدبر للقضاء عليه.
يمكن القول أن عقد السبعينات أغلق المشهد السياسي فيما يتعلق بقضية الصراع مع الدولة اليهودية على حالة من الانبطاح العربي، سواء المفضوح منه أو المتستر تحت شعارات الرفض والتصدي، مع إبراز النقاط التالية:
• رغم انبطاح قادة منظمة التحرير الفلسطينية (وبعد كل محاولات تجهيزها للدخول في مفاوضات)، ظلت القيادات اليهودية رافضة للتفاوض معها في السبعينات.
• مع نهاية السبعينات برز قادة حزب الليكود أكثر تطرفا وعبّروا عن نظراتهم التوسعية، وظلت الدولة اليهودية رافضة للمسيرة السلمية، وقد جرتها أمريكا للسلام جرّا.
• تمكن السادات من عقد الصلح، بعد الضغط الأمريكي، فتم تحجيم "إسرائيل" حتى لا تتوسع على حساب المصالح الأمريكية، و تم إخراج مصر من المعركة.
• رغم أن السادات سخّر علماء السلاطين لتبرير فعلته من خلال لي أعناق النصوص الشرعية والتضليل، ثارت الشعوب ضد ما اعتبرته خيانة من السادات وظلت الأمة رافضة للاعتراف بالكيان اليهودي.