مدفأة الماغوط وثلاجة المخابرات
الدكتور مصعب أبو عرقوب/ عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
"كانت الدنيا برد وشتوية، كان في حزب البعث والحزب القومي ...حزب البعث في حارة بعيدة وَحْل وكلاب تعوي.. وجانب بيتنا الحزب القومي وفيه صوبيا.. دخلت فيه." بأسلوبه البسيط المعبر يروي الشاعر والأديب السوري الراحل محمد الماغوط قصة دخوله عالم السياسة.
عالم وإن اعترف الماغوط بدخوله عبر حزب لم يقرأ مبادئه فصار من سجن إلى سجن، إلا أنّ صدق ذلك الشاعر وبساطة طرحة اختزلت ذلك العالم وتلك التجربة، فصارت كلماته أشبه برموز تختصر المشهد السوري، وقد تعبر نوعا ما عن بعض آفاق التغيير وجذور الثورات ودوافع التحركات.
قرب ودفء جذبا ذلك الشاب ودفعاه لعالم السياسة، ولن ترضى الشعوب الثائرة بأقل من ذلك، فالأمة قد افتقدت دفء الحاكم الذي يرعى مصالحها، وشعرت على مدى عقود من الحكم الجبري الديكتاتوري غياب الراعي الذي يتفقدها إن هي مرضت ... يمسح على رأسها إن لم تجد ما تأكل، يدافع عنها إذا ما ادلهمت الخطوب وصالت جيوش الأعداء في الديار، يرعى أبناءها الخريجين العاطلين عن العمل ... يعيد فلذات الأكباد من بلاد المهجر ... يعيد الجولان ... فلسطين ... العراق ... وسائر البلدان، بل إنّ الأمة قد أدركت أنّ الحاكم المستبد وراء كل مصيبة تكابدها.
فغاب ذلك الدفء الذي يجب أن يغلف العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فالأنظمة الحاكمة بتبعيتها للغرب لا تمثل تطلعات الأمة للوحدة وآمالها في التحرير والعيش بعزة وكرامة، فانقطعت أواصر القرب، وانسلخ الحاكم نهائيا عن الأمة وأصبح أقرب إلى صف الأعداء منه إلى صفوف شعبه وأمته، بعيدا كل البعد عن طموحات شعبه ومتطلبات شباب أمته.
بُعدٌ، وغياب دفء شكلا دافعا قويا للتحرك والبحث عن التغيير والتخلص من تلك الأنظمة الدكتاتورية التي أصرت رغم بعدها عن الأمة وبرودة جوارها أن تسلك كل الطرق في سبيل تثبيت حكمها، طرق وأساليب ساذجة لن تزيد تلك المسافة بينهم وبين الشعوب إلا طولاً وتلك العلاقة إلا برودة.
برودة، تشبه تلك التي يشعر بها المعتقلون السياسيون عند وضعهم في "ثلاجة المخابرات"، وهي غرفة أعلى مبنى المخابرات العامة الفلسطينية في الخليل، أداة للضغط والعقاب والتطويع، تلتقي في برودتها وسذاجة صانعيها ومستخدميها مع كل أدوات القمع والترويع والتنكيل التي لا تزيد الشعوب إلا إصرارا وحماسة ومثابرة في السعي للانعتاق من ذلك الظلم وتلك الأنظمة الوحشية.
أنظمة تفتقد إلى أدنى أنواع الشعور بالإنسانية أو احترام الشعوب، سادرة في غيّها، تفتقر إلى أي رؤية "عقلانية أو منطقية " في قمعها الذي فاق كل خيال، تعاند التاريخ والحقائق السياسية وتظن أنّ القتل والترويع وهدم المساجد والاعتقال والاغتصاب قد يوقف عجلة التغيير أو يرهب شعبا شعر بالدفء يسرى في أوصاله؟؟
فقد تنزع الشبيحة حنجرة الشهيد إبراهيم قاشوش، لكنها والنظام بعيدة عن انتزاع تلك الثقافة والقيم المتجذرة في الشعوب، فلن تستطيع أن تنفذ إلى عقول وقلوب شباب أمة تتحرك، وتتلمس ذلك القرب من أمجادها وعزها المسلوب، وذلك الدفء الذي يلف مدنها... وإن كانت تحت القصف، فالكل أفاق على رائحة المجد والحرية تهب من ثنايا تاريخ أمة انطلق علماؤها وقادتها من الجامع الأموي موحدين للأمة ومحررين.
فالأمة الإسلامية ورغم كل محاولات التغريب والتشتيت والهجمات الثقافية المتتالية عبر المناهج المستوردة والفضائيات المستأجرة والجمعيات المشبوهة وعبر حرب العقول والقلوب التي شنها العالم الغربي على الأمة وقيمها ومعتقداتها وأسلوب عيشها، ومحاولة الغرب فرض أسلوب حياته وطراز عيشة وثقافته على الأمة، وسعيه لإلغاء ومحو ثقافة الأمة وطراز عيشها، إلا أنّ الأمة ما زالت تشعر بذلك القرب والدفء مع قيمها التي لم تستطع ثقافة الغرب وقيمه تقديمهما لها، فالغرب لم يقدم عبر ثقافته لنا إلا التدمير والاحتلال وسلب الثروات والدعم والتدريب لتلك الأنظمة الدكتاتورية المنفصلة عن ثقافة الأمة وتاريخها.
فالأمة الإسلامية تمتلك ثقافة عريقة، ضاربة جذورها في صدور أبنائها، كفيلة بإعادتها إلى مكانتها المرموقة، ترسم لها طريقا قريبة المنال، تفضي إلى العيش في ظل حاكم واحد يرعى شأنها ويعيد ذلك الدفء الذي افتقدته ردحا من الزمان ويأخذ بيدها فتتفجر طاقات شبابها لترجع سيرتها الأولى... أمة واحدة ناهضة متقدمة في العلم والسياسة وكافة مجالات الحياة، فتحاول الأنظمة القمعية عابثة الحيلولة دون ذلك، وتستميت في معركة تدلل كل الحقائق على أنها لا محالة خاسرة.
فالتاريخ أعمق من أن تنتزعه أيدي الشبيحة والبلطجية، وثقافة الأمة وقيمها وعقيدتها أرسخ من أن تزحزحها دبابات النظام ومدافعه، وحماسة الشباب وحرارة صدورهم أعظم من أن تُبردها "ثلاجة المخابرات ".
24/8/2011