لقد كشفت حقيقة الأرقام الجديدة عن المديونية الأمريكية حقيقة الكذب الذي مارسه الرئيس الأمريكي- وأبواقه من بعض الاقتصاديين- على شعبه منذ وصل إلى الحكم حول حقائق الأزمة الاقتصادية وعمقها، واستحالة إيجاد الحلول لها ولو على المدى البعيد!!..
فمنذ مجيء الرئيس الأمريكي الجديد (أوباما) إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، وهو يمارس التضليل السياسي حول حقيقة الأزمة المالية في أمريكا، وحقيقة ازديادها وتجذّرها، وامتداد تأثيرها يوما بعد يوم على المؤسسات الاقتصادية بكافة قطاعاتها.
فقد جاء في إحدى خطاباته حول انحسار خطر الأزمة وخفّة حدّتها في أمريكا في 30/ 10-2009:- (...إن تسجيل اقتصاد الولايات المتحدة نمواً بواقع ثلاثة فاصل اثنان بالمائة خلال الربع الثالث من العام الحالي، يعني أن الركود الاقتصادي في تراجع)، وفي كلمته الأسبوعية عبر الإذاعة والانترنت يوم السبت1/7/2011 قال اوباما الذي يقضي عطلة في هونولولو إن البيانات التي صدرت مؤخرا تبين أن الانتعاش الاقتصادي يكتسب قوة دافعة رغم أن ملايين الأمريكيين ما زالوا عاطلين عن العمل، وقال مضيفاً: "أهم مهمة لدينا الآن هي المحافظة على استمرار الانتعاش... بصفتي رئيسا ذلك هو تعهدي لكم.. أن أفعل كل ما في استطاعتي للتأكد من أن اقتصادنا ينمو ويخلق وظائف ويدعم الطبقة المتوسطة. هذا هو تصميمي للعام القادم...."
لكن هذا الكذب والتضليل قد ينطلي على البسطاء من الناس، إلا انه لا ينطلي أبدا على أهل الخبرة والاختصاص والمعرفة من السياسيين وخبراء الاقتصاد، وقد خالفه أوباما نفسه في نفس العام في 2/8/2011 وهو يقول في حديث لقناة "إن بي سي" الأمريكية: إننا يمكن أن نشهد استئنافا للأزمة المالية إذا بقينا قرب الخط المحدد، مضيفاً أن بلاده ستبذل جهوداً خلال الشهر المقبل معرباً عن توقعه في التوصل إلى رفع سقف الديون، ومن جانبه، حذر( بن برنانكي)، رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي، البنك المركزي الأمريكي، "من أن الإخفاق في رفع سقف الدين الحكومي يهدد بالإضرار بثقة المستثمرين في اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية...".
وحتى نقف على حقيقة هذا الأمر لا بد من العودة قليلا إلى بدايات الأزمة، وما صاحبها من تصريحات؛ فقد وردت تحذيرات كثيرة في بدايات الأزمة سنة 2008 تقول: بأن الأزمة ستزداد وستتسع ويمتد تأثيرها في أمريكا، وغير أمريكا من بلدان العالم الأخرى في السنوات القادمة، وقد كان من هذه التحذيرات ما جاء على لسان (كينيت روغوف) كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي وأستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد حيث قال أمام مؤتمر مالي في سنغافورة في 19/8/2008؛ أي في بدايات الأزمة : (... لم تنته مشاكل الولايات المتحدة، وأعتقد أن الأزمة ربما كانت في نقطة المنتصف الآن، بل إنني أقول: إن أسوأ ما في الأمر لم يأت بعد)!!.. وقد حذر الرئيس الأمريكي نفسه- في بداية رئاسته- من عمق هذه الأزمة الحالية؛ فقال في خطابه أمام الكونغرس في 9/2/2009 وهو يعرض خطته للإنقاذ:- (إن هناك مخاطر من انزلاق الاقتصاد الأمريكي نحو دوامة سلبية، قد تؤدي إلى كارثة إذا لم تتحرك الحكومة بشكل حاسم لمواجهة الأزمة المالية الحالية، وحذر أوباما من أن الفشل في التحرك لمواجهة الأزمة سيفاقم أزمة الاقتصاد معتبرا إن البلاد تمرّ بشتاء قاس في إشارة إلى أسوأ أزمة يمر بها الاقتصاد الأمريكي منذ نحو 80 عاما!!.
وهذا ما أكده (بول فولكر) المستشار الاقتصادي للرئيس الأمريكي (باراك أوباما) في 14/5/2010 فقال بشأن منظومة اليورو وواقع مخاطر الأزمة بالنسبة إليها:(.. هناك مخاطر حقيقية من تفكك منطقة اليورو)، وهذا ما أكده أيضا رئيس البنك المركزي الأوروبي (جان لكود) في 16/5/2010 حيث قال: (إن الأسواق الأوروبية تواجه أصعب وضع منذ الحرب العالمية) ..أما كبير خبراء الاقتصاد في البنك المركزي الأوروبي (بورغن شارك) فقال في 18/5/2010 في مقاله لصحيفة (فرانكفرتر تسايتونغ): (.. أن خطة الدعم لليورو ولبعض الدول في هذه المنطقة؛ مثل اليونان، لم يكن من شأنها سوى كسب الوقت ليس إلاّ...)!!
وفعلا هذا ما حصل وما يحصل الآن، وما سوف يحصل في قابل الأيام سواء أكان ذلك في أمريكا أم في منطقة منظومة اليورو؛ فعلى مستوى الأزمة الاقتصادية في أمريكا؛ فان ما هو حاصل اليوم في موضوع (أزمة الدين) ورفع سقفه بما معدله 2.1 تريليون دولار ليصل إلى 16.4 تريليون دولار أمريكي، له عدة دلالات ومعان خطيرة منها:-
1- إن الأزمة في أمريكا لا زالت مستمرة وتزداد وتتسع، لأن ازدياد حجم الدين العام الداخلي والخارجي هو مؤشر على عدم وجود أي نموٍّ اقتصادي في الدولة، وأن الأرقام التي يذكرها الساسة والخبراء في حصول النمو ما هي إلا أكاذيب مخدرة للاستهلاك المحلي، ولطمأنة الشارع الأمريكي أن الأزمة في طريقها للحل، لأن هذا الدين العام يذهب إلى تعويض الخلل الحاصل من ازدياد واتساع دائرة التردّي والفشل الاقتصادي، وحاصل كذلك من تنامي الانهيار في المؤسسات الاقتصادية، وفي نفس الوقت عدم حصول نموّ حقيقي في الاقتصاد على مستوى الإنتاج أو ازدياد الأجور أو غير ذلك؛ بمعنى آخر هو حاصل نتيجة وجود هوّةٍ كبيرة بين حجم النفقات بكافة أشكالها، وبين حجم الناتج العام للدولة؛ وهذا يعني عدم حصول أي انتعاش حقيقي في الاقتصاد إنما هي أرقام غير حقيقية تصدر عن المؤسسات التابعة للدولة لأغراض سياسية فقط!!..
2- ازدياد حجم الدين العام، وازدياد العجز في ميزانية الدولة هو دليل عملي على انهيار الاقتصاد، وليس فقط حصول أزمة، وخاصة إذا كانت الأرقام بهذا الحجم الخيالي -كما هو الحال في أمريكا-، فما معنى أن يصل الدين العام إلى حوالي 14 تريليون دولار بعد رفع سقفه الجديد ؟!، وما معنى أن يصل العجز في الميزان التجاري إلى 50.2 مليار دولار ؟!، وما معنى أن يصل العجز في ميزان المدفوعات الأمريكي إلى 6 تريليونات؟!، وما معنى تخفيض النفقات للدولة بحوالي 2 تريليون دولار؟!
هذا على المستوى الرسمي في الدولة، أما على مستوى المؤسسات الخاصة فإنه لا يخفى على المتابع للوضع الاقتصادي ما تمرّ به المؤسسات الخاصة من اتساع دائرة الإفلاس، وانهيار الشركات والبنوك المتتابع والذي لم يتوقف منذ سنة 2008، ولا يخفى كذلك ما يحصل من تآكل الأجور نتيجة ارتفاع الأسعار، ولا يخفى أيضا من ازدياد هذه المؤشرات السيئة في قراءة أحداث ومعطيات الاقتصاد في أمريكا!...
هذا بالنسبة لأمريكا وأزماتها، أما الاتحاد الأوروبي؛ فلا يخفى على الاقتصادي المتابع لما يجري في هذا الاتحاد أن هناك أزمة حادة في أكثر من أربعة دول تعاني من شبه انهيار اقتصادي أشدها اليونان، ولا يخفى كذلك عجز هذا الاتحاد عن معالجة أي من أزمات هذه الدول، وبقائها في دائرة خطر الانهيار الحقيقي، وبالتالي تهديد كل الاتحاد بالتفكك والانهيار النقدي لمنظومة اليورو!!
3-إن الغيوم قد تغطّي قرص الشمس برهة من الزمن تطول أو تقصر، لكنها لا تستطيع أن تغطّي هذا القرص الذهبي اللامع طيلة الوقت، فلا بد لهذه الغيوم -من الأكاذيب والتضليلات السياسية والاقتصادية- أن ينفضح أمرها، وأن تزول عن تغطية دائرة الحقيقة في أمريكا، ليرى العالم ويسمع ويعي حقيقية هذا العملاق الاقتصادي الواهي، وليرى خطورة الأزمة التي تعيشها أمريكا بالفعل، وأنها لا تنتهي، وليس هناك أي بصيص من أملٍ في انتهائها؛ لان أسباب بقائها واتساعها باقية داخل النظام الاقتصادي الرأسمالي نفسه في أمريكا وغيرها من دول تدين بهذا النظام!!..
فهناك خطر حقيقي الآن في ظلّ هذه المعطيات والتي لم يستطع الساسة في أمريكا وضع ستارةٍ عليها، أو تغطيسها تحت الماء ليخفوا منظرها، كما كان يحصل في السنوات السالفة، وهذا الخطر هو حتمية حصول التدهور التدريجي أو المفاجئ للاقتصاد الأمريكي، وبالتالي حصول أزمة اشدّ من الأزمة التي حصلت سنة 1929، وأدت في وقتها إلى حصول فاجعة اقتصادية عالمية، ثم انتقلت نار هذه الكارثة إلى باقي الدول في العالم، أولها الدول الأوروبية.. وأن هذا الأمر إذا ما حصل بشكل مفاجئ، أو حصل بالتدريج فانه سيؤدي حتما إلى تفكك العقد الأمريكي الذي يجمع في خيطه الواهي أكثر من 50 ولاية؛ كلها ترتبط بقوة أمريكا الاقتصادية، وهذا بالتالي سيكون بمثابة البركان الذي سيلقي بحممه الساخنة على كل أنحاء المعمورة بسبب سطوة هذا الاقتصاد الأمريكي على العالم، وبسبب ارتباط كل البورصات والمؤسسات المالية في العالم بالدولار الأمريكي، وبسبب ارتكاز اكبر اقتصاديات العالم في الاتحاد الأوروبي والصين واليابان على هذا العملاق الاقتصادي؛ سواء كان ذلك في التصدير أو الاستيراد أو وجود الاحتياطي النقدي الهائل من الدولارات الأمريكية لدى خزائن هذه الدول!!..
إن هذا الأمر قد يكون مقدمةً لتهيئة الأجواء العالمية للبحث عن نظام مالي جديد "نظام الذهب والفضة" ونظام اقتصادي يكفل عدل التوزيع بين البشر بل عن مبدأ سديد رشيد يخلّص البشرية مما هي فيه من ويلات وشرور، وهذا الأمر لا يوجد الآن إلا في الإسلام بعد انهيار العملاقيين الفكريين؛ النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي،
فهل يتزامن هذا الحدث الجلل مع قيام دولة الإسلام أم يسبقها؟! هذا ما ستخبرنا به الأيام القادمة، فنسأله تعالى أن يحقّ بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.