عيونهم ترحل نحو أيلول لاستجداء اعتراف بدولة غير موجودة إلا على أوراق مروسة وعلى أبواب السفارات، وهي في أعلى صفاتها (ضمن المحافل والوعود الدولية) أنها قابلة للحياة. وأكفّهم تمتد نحو المانحين لاستجداء التمويل من أجل صرف رواتب "جيش" من البطالة المقننة وللموظفين في دوائر خدماتية، أعفت الاحتلال من مسئولياته تحت مسمى تلك الدولة، وأذرعهم تحمل الهراوات لقمع أبناء هذا البلد، وأصابعهم تضغط على الزناد لمطاردة كل مخلص يرفض الاحتلال أو يفكر في مقاومته، وأرجلهم تحث الخطى نحو جامعة الدول العربية التي أثبتت أنها عباءة لستر عورات الأنظمة ولتمرير المشروعات الأمريكية، وأفواهمم تصرخ باستمرار أنهم قادة النضال وأصحاب "المشروع الوطني".
وفي الوقت الذي ينعقد مؤتمر السفراء في استانبول لإطلاق "أكبر عملية دبلوماسية"، يبرز التساؤل: ماذا لدى هذا المشروع الوطني وقادته من مقومات للبقاء والعمل ومن قدرة لحشد الناس حولهم ؟ وخصوصا أنهم يعلنون بصراحة مطلقة أن لا بديل عن نهج المفاوضات حتى ولو ردتهم الأمم المتحدة خائبين، كما أسلمت فلسطين من قبل لهذا الاحتلال الغاصب اللئيم.
قالوا لنا رصيد من الشهداء، وذلك "تاريخ" يناقضه واقع اليوم حيث جمعوا رصيدا من الأجهزة الأمنية التي تطارد أبناء الشهداء، وتتاجر بدمائهم.
قالوا قدّمنا فاتورة النضال، وهم اليوم يقبضون تلك "الفاتورة" المدّعاة أضعافا مضاعفة، أثمانا لتمرير مشروع أمريكا لحل الدولتين، وقد راكم "القادة" وأبناؤهم ثروات وأسسوا شركات، ولا أحد يسأل "من أين لك هذا ؟"
قالوا اختارنا الشعب، وهم اليوم يقمعون ذلك الشعب الذي يدّعون أنه اختارهم.
قالوا إنهم حركات تحرر وطني، وهم اليوم قد تحولوا إلى سلطة تحمي أمن الاحتلال الذي يدعون أنهم يريدون التحرر من عربدته.
قالوا إنهم حريصون على وحدة الصف، وهم قد زرعوا أحقادا وأسالوا دماءً بريئة تكفي لتغذية عقود من الضغينة والبغضاء.
قالوا إنهم يريدون وحدة الأرض، وهم قد أقرّوا أن فلسطين تفصلها خطوطا وتواريخ من مثل 48 و67 بل وما قبل 2000 وما بعده !
قالوا إنهم يريدون وحدة المرجعية، ولا صوت عندهم يعلو فوق صوت المفاوضات لأنها مرجعيتهم الوحيدة.
قالوا وقالوا وقالوا، وهم في كل مرة يستمرئون التضليل ويمارسون "لعبة" مفضوحة، فمتى يخجلون من أنفسهم ؟ ومتى يستحون من أمّتهم ؟ ومتى يدركون أن عوراتهم مكشوفة لحد الفضيحة بل لحد العار !
والسؤال الأهم: متى يشهر هذا المشروع الوطني إفلاسه الفكري والسياسي بل وحتى الأخلاقي ؟
لقد ثبت بالواقع المرير أن هذا المشروع الوطني مفلس في كل اتجاه: في المفاهيم وفي البرنامج السياسي، وفي الطريق العسكري، وفي تحقيق السلم الاجتماعي، بل وحتى في تأمين الرعاية الخدماتية؛
فقد تلوثت مفاهيم الناس من خلال برامج التخريب الفكري التي ترعاها مؤسسات السلطة، أو تفتح المجال الرحب للمؤسسات الأجنبية للعبث بمفاهيم الناس وإعادة تشكيل وعيهم كيفما شاءت، بل وتحولت نشاطات بعض الفصائل عن مفاهيم النضال إلى مفاهيم البحث عن العيش، أي عيش، وإلى مفاهيم الاسترزاق والتنافس على الفرص والمكتسبات، ولم تعد هنالك أية برامج للتعبئة المعنوية حول مفاهيم التضحية والتحرير الكامل، بل وحلت محلها برامج تخريب الوعي الاجتماعي من مثل مسابقات تافهة حول أكبر سدر كنافة وأطول كوفية، ومسابقات الجمال ومباريات كرة القدم النسائية، وكلها تلوث جو العمل للتحرير.
أما البرنامج السياسي فقد قزم قضية فلسطين لتصبح قضية صراع فصائلي ومحاصصة، وهو برنامج مربوط بالتوافق (المسمّى بالوطني) على برنامج تفاوضي يتنازل عن الأرض وينبطح أمام الاحتلال ويحفظ أمنه، وهو برنامج يقوم على "حق تقرير المصير" لأولئك الرابضين على صدور هذا الشعب الذي يقولون أنه قد اختارهم وهو منهم براء. كيف لا وهم يعدون على الناس الأنفاس ويطاردونهم بدوريات الجباية الضرائبية والملاحقة الأمنية !
ولا حاجة لكشف فظاعة الانقلاب على "العمل العسكري"، بعد تجريم من يفكر به من قبل السلطة التي تمخضت عن فصائل التحرير، التي ادعت أنها تنتهج العمل المسلح، بل ورئيس السلطة يؤكد أنه سيواجه أي انتفاضة ثالثة بالقوة!
أما تأمين الرعاية الخدماتية، وهو أهم ما تدعيه هذه البلدية الكبيرة المسماة سلطة، فإن عطش الناس خلال الصيف وشح المياه، دليل جلي على تآمر "أبطال المفاوضات" عندما وقّعوا لليهود على اتفاقيات تمكّن اليهود من أحواض المياة الجوفية تحت أرض الدولة الموعودة وتحرم الناس "حق الارتواء!"، وأي رعاية يمكن أن تُستدام ! وهي مرهونة بأموال المانحين الذين يستخدمون تلك الأموال لتوجيه دفة الفصائل نحو حل الدولتين والاعتراف بالاحتلال، وإلا فالحصار وشح الأموال.
وأي سلم اجتماعي يمكن الحفاظ عليه وبنادق "أبطال الفصائل الفلسطينية" موجهة إلى صدور الناس كلما أرادت أن تتنفس شيئا من الحرية ! وكلما أرادت أن تعبر عن رفضها أو سخطها ! وأي سلم اجتماعي وقد سقط الشهداء في سجون السلطة وسالت الدماء في شوارع السلطة ! بل وامتُهنت كرامات الشيوخ وكبار السن كما حصل قبل أسابيع في مسيرات ذكرى هدم الخلافة، فحطم "أبطال الفصائل الفلسطينية" بلّور الحياة الاجتماعية عندما امتدت أيديهم الملطخة نحو شيوخ البلد وكبار السن وعندما شجت رؤوس بعضهم، فأي سلم أهلي بعد هذا الانحطاط البشع!
هل بعد هذا الإفلاس من إفلاس، وهل يمكن أن يعاين أهل فلسطين هذه الأسبقية التاريخية لحركات تحرر تتحول إلى حرّاس تحت الاحتلال وتشاركه في قمعهم ثم لا يصرخون في وجه المفلسين ؟