الدكتور ماهر الجعبري – عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
ما الذي يبحث عنه قادة الفصائل الفلسطينية ؟ وأين يبحثون عما يطلبونه ؟ وما هو مشروعهم السياسي بعد أن ينجحوا -بشق الأنفس- باقتسام السلطة ؟ تساؤلات تقفز للذهن لدى متابعة تحركات القيادات والرموز التي تربعت على عرش "المملكة الوطنية الفسلطينية"، طيلة عقود من الشقاء والانهزامية تمخضت عن حالة مقيتة من الضعف السياسي، وهي اليوم تطير من دمشق ومن عمان إلى القاهرة، ومن موسكو لأنقرة، بل وهي ترجو عطف أوباما وترقب إيماءات الاتحاد الأوروبي.
إن المتبّصر بتاريخ القضية الفلسطينية يدرك أن أمريكا وضعت رؤيتها لحل القضية منذ اجتماع ممثليها الدبلوماسيين في الشرق الأوسط في استبنول سنة 1950، حيث شجعت هيئة الأمم المتحدة على تنفيذ مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، ومن ثم بلورت رؤيتها مع نهاية حكم آيزنهاور - عام 1959- في معالم حل الدولتين، والذي ارتكز على تدويل القدس، وإعادة قسم من اللاجئين وتعويض الأكثرية وتوطينهم خارج فلسطين.
وبعد أكثر من ستة عقود، لا زالت مفردات الحديث هي ذاتها ولا زالت الرؤية هي الرؤية، بل مع الأسف تسربت تلك المفردات إلى تصريحات القادة فيما يشبه أناشيد المقاومة، بعد أن لم يعد أحد من الفصائل الفلسطينية يغرّد خارج ذلك السرب الساعي لحل الدولتين. أليس هذا هو العبث السياسي بعينه ؟
لا بد أن تجيب تلك القيادات على تساؤلات أتباعها: ما الذي يمكن ان تقدمه موسكو خارج سياق حل الدولتين الهزيل ؟ وهل يمكن لعراب السلام التركي أن يخرج عن هذا السياق وهو قد أقرّ أنه عمل على إقناع حماس في العام 2006 بالإعتراف "بإسرائيل" ؟
وهل يمكن أن يسلّح الاتحاد الأوروبي المقاومة الإسلامية للقضاء على الكيان الذي تؤكد الحركة الإسلامية أنها لن تعترف به ؟ بل وهل يمكن لأوباما المحارب أن يخرج عن سياق حل الدولتين الذي طرحته أمريكا منذ منتصف القرن الماضي ؟
وفي خضم هذه التحركات العبثية، تؤكد تلك القيادات أنها صاحبة الحق الأوحد في شأن القضية الفسلطينية لأن مليون فلسطيني أو أكثر قد قسّموا أصواتهم بين هذه الفصائل، فيما هنالك أضعاف هذا العدد في فلسطين وخارجها ممن لم يشاركوا في تلك الانتخابات، ثم هنالك مليار ونصف من المسلمين ممن لم يعطوا -ولن يعطوا- تفويضا لأي فصيل أو قائد حقَ التفاوض عن جزء من أرض فلسطين.
إذ ليس ثمة شك أن الوعي السياسي يفضي إلى أن تلك الفصائل تُجمع اليوم على وهم الدويلة الفلسطينية منزوعة السلاح على جزء من الأرض، وهو حل كان يُعتبر من يقبل به خائنا، بل أدى ذلك لأن يندفع الإسلامبولي رحمه الله لقتل السادات، فأين يقف قادة يرفعون شعارات المقاومة في الحد الفاصل بين السادات والإسلامبولي؟
جواب قادة التيار العلماني معروف، فهم قد أكّدوا مرارا وتكرارا أن لا خيار عندهم إلا خيار المفاوضات، بل قد صرّح كبيرهم أنه سيمنع أي انتفاضة جديدة بالقوة، ولمثل ذلك الموقف، أعد عدة من الأجهزة الأمنية المدربة أمريكيا.
ولكن البصمة العلمانية على المشروع الأمريكي لم تكف لتمريره، وخصوصا بعدما عمل الكيان "الإسرائيلي" على مسخ ذلك المشروع وتشويهه أكثر وأكثر حتى مزّق الأرض المعدة للدويلة الفسلطينية بشبكة من المستوطنات لا تتوقف عن الاتساع، كنقطة زيت في اسفنج!
بعد الانبطاح التام للتيار العلماني وتحوّل "المناضلين القدامى" إلى موظفين في مشروع خدماتي يموّله المانحون، وبعد لملمة بنادق المقاومة العتيقة في مقار الأجهزة الأمنية التي تنفّذ المشروع الأمني، صار لا بد من أن يُمهر المشروع الأمريكي لحل الدولتين بخاتم إسلامي في يد حماس، لأن تلك البصمة "الإسلامية" قد تسهم –في منظور المخططين- بجعل أفئدة المسلمين المنتشرين في شتى بقاع الأرض تهوي إليه، وخصوصا أنهم يصرّون على قراءة سورة الإسراء، فتتحرك عيونهم نحو القدس.
ومن هنا كانت التحركات السياسية وحملة العلاقات الدولية مع حماس طيلة السنوات السابقة للترويض بقبول حل الدولتين، بعدما تم توريطها في مشروع السلطة، حتى صار مقبولا لديها أن يصرّح زعيمها في خطاب المصالحة في القاهرة، أن الحركة ستعطي فرصة سنة لنهج المفاوضات، ثم لا تثور الحركة ولا يصرُخ أتباعها، ولا أحد يتذكّر أن السادات قُتل لأنه سار في ذلك النهج التفاوضي!
وبالطبع ظهرت تصريحات فردية لبعض القيادات والمفكرين من داخل الحركة الإسلامية ضد تصريحات "الفرصة"، ولكن الحركة استوعبت بوادر الخلاف عندما اعتبرت التنوع الداخلي إثراءً، وسكت الجميع لبعض الوقت.
وهنا حق للناس أن تتساءل عن المشروع السياسي الذي تحمله المقاومة الإسلامية إذا كانت قيادتها تريد –حقا- أن تعطي فرصة سنة لعباس للتحقق من فشل المفاوضات. وفي هذه الحالة، إذا أرادت أن تكون المقاومة ورقة ضغط على طاولة المفاوضات فهي تدفع أهل فلسطين نحو طريق يفضي للمفاوضات، وهنا يلتقي المشروعان في منتصف الطريق، وتكون المصالحة مشروعا سياسيا لا تصالحا أخويا لحقن الدماء. وهنا يصح تفسير المصالحة على أنها "ملاقحة" سياسية بين أقطاب المفاوضات وأقطاب المقاومة.
إذاً، فهي قيادات انتسبت للوطنية والمقاومة واختطفت القضية من أصحابها، ثم صارت تمارس ألعاب القفز من محطة لأخرى، وهي تسعى في أروقة غربية وشرقية لا يمكن أن يخرج الحديث السياسي فيها عن إطار الدولة اليهودية القوية وهي تحيط بدويلة فلسطينية هزيلة لا تعيش إلا تحت برابيش الإنعاش من التمويل الأجنبي الموجّه.
وبالطبع لم يعد من المجدي عند الفصائل الفلسطينية أن يُطرح عليها سؤال الرنتيسي رحمه الله: هل السلطة في ظل الاحتلال إنجاز وطني أم إنجاز للاحتلال؟ (كما هو عنوان مقاله المنشور على موقع المركز الفلسطيني للإعلام) لأنه سؤال تشكيك بالإنجازات الوطنية، ولأن الرنتيسي رحمه الله لم يعد يعاصر متطلبات المرحلة، ولأنه قضى قبل نجاح محاولات الترويض السياسي.
لقد اتقنت الفصائل الفسلطينية لعبة تسجيل الرصيد "الوطني" من خلال شعارات الكفاح المسلح لتحتكر حق الحديث في شأن القضية، ثم ما لبثت أن وظّفت ذلك الرصيد لوضع "الشعب الفلسطيني" بين معادلة "الانبطاح أو السلاح"، ثم صارت غايتها المرحلية ترتيب أمر السلطة الهزيلة التي أفرزتها اتفاقيات أوسلو، بعدما وضعت الشعب أمام معادلة "الانقسام أو الاقتسام"، وهو يتشوف اليوم معادلة الخيار للمرحلة القادمة لأنه تعود أن يتلاعب به القادة والرموز ويتقاذفونه من معادلة لأخرى!
أيها القادة المنهزمون والمروَّضون: لقد ملتكم الأمة وملّت تفاهاتكم وأنتم تتلاهثون في ترتيب ملفات أجهزة أمنية دربتها جنرالات أمريكية، وطالما أنكم تصرّون على مسيرة العبث السياسي، وطالما أنكم قد تشرّبتم فقه سايكس بيكو، وخصوصا بعدما كشفت أحداث سوريا أولئك الذين لبسوا عباءة المقاومة ثم وقفوا يدافعون عن نظام يقمع الثائرين، بعدما مارس مهمة حرس الحدود للاحتلال طيلة عقود من الزمان، يصبح التساؤل مشروعا:
هل يحق لمن يعبث بهذه القضية التي تستقطب عقول وقلوب المسلمين أن يحتكرها عن الأمة بدعوى حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني ؟ أليس ثمة خيار أصيل يعرفه الصغير قبل الكبير بينما لا زلتم تتخذونه ظهريا!
وإذا كنتم لا تستطيعون العمل ضمن حدود الخيار الأصيل: فأريحوا واستريحوا !