على ضفاف شواطئ بنغازي قبيل الغروب....انتظمت الجماهير في ساحة الاعتصام، ونفثت من صدورها ذلك الألم، لتخرج تلك الحمم منصهرة في بوتقة واحدة لحنا لامس القلوب،في مشهد يلخص حالة تجتاح وتوحد أمة فرقت بينها حدود سايس-بيكو المصطنعة وجمع بينها ذلك الألم وذلك الإصرار على إزالته.
فقد عاشت الأمة عبر تاريخها المعاصر ألماً تخلل جسدها فلامس كل خلية، ومر عبر كل شريان، وضرب كل فقرة في ظهر الأمة فكاد أن يكسره، وتسرب إلى دقائق حياتها والتفصيلات، فحولها إلى جحيم لا يطاق؛
أرضٌ تغتصب وتحتل، ثرواتٌ تراق تحت أرجل المستعمرين، مدنٌ تقصف ومقدساتٌ تنتهك، شبابٌ يعتقلون، فلذاتُ أكباد يغرقون فتلتهمهم شواطئ أوروبا في رحلة البحث عن عمل، ألافٌ ينتظرون صخرة المقطم تنهي حياتهم البائسة في أحياء الصفيح في القاهرة، أو عبّارة تغوص في قاع المتوسط أو قطار يخرج عن السكة ليضع حدا لأحلام الشباب، عائلاتٌ في القدس تفترش الأرض ويلهو أطفالها تحت حراب المستوطنين، وأهل غزة يحاصرون ويقصفون ويقتلون، أفغانستان وباكستان والصومال وطائراتٌ بلا طيار تقصف وتقتل عن بعد، وقبل ذلك أمة تذوق الذل فيعتدى على ثقافتها، وتتهم بالإرهاب ويُتطاول على رسولها وتقسم أرض سودانها، ويُحتل عراقها وترزح أولى قبلتيها تحت احتلال وحشي لم يُبق ولم يذر، ويتصرف العالم على وقع ذلك الألم الرهيب وكأنه لا وجود لأمة هنا، لا آثار لحضارة في هذه الديار!! فتكالبت الأمم على ثرواتها وتعاملوا معها تعامل السيد لعبده، بل تعدى ذلك ليكيل الغرب الاهانات للأمة الإسلامية على جميع المستويات؛ الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية .
وفي لحظة استثنائية في حياة الأمة، ظن الغرب المستعمر ومن سار على دربه أن الأمة قد فقدت الإحساس، فلم تعد تشعر بما يحل بها من كوارث ألحقته بها الأنظمة التابعة للغرب المستعمر، وكان للتضليل السياسي الذي انتهجته الأنظمة الحاكمة دورا في حالة التخدير التي عاشتها الأمة، ذلك التضليل الذي حاول ترسيخ الاقليمية الضيقة، فنادى بالأوطان أولا وأخيرا ونشر الطائفية وحذر من الإرهاب تارةً وتغنى بالمقاومة المقننة تارة أخرى، رفع شعار الاشتراكية حينا وقفز للسوق الحرة والخصخصة حينا آخر، أثار النعرات المذهبية وشن حربا على قيم الأمة وثروتها الفكرية.
وقد ساهمت محاولات الإنهاض الفاشلة في تخدير الأمة، كما كان لانتظار الأمة لبعض النتائج المتوقعة (قبل الثورات) من عمليات الترقيع والتجميل للأنظمة البائدة التي قادتها معارضة مصطنعة من قبل الأنظمة، والتي أضفت الشرعية على أنظمة لم تكن يوما ذات شرعية إلا في مخيلة المنتفعين والجالسين على موائد السلاطين، كان لذلك كله وقع المخدر على جسم الأمة الواحد، فسكت ردحا من الزمن لكن سكوتها كان سكوتاً استثنائيا.
لم يستطع الغرب أن يفهم، كما لم يستطع عملاؤه أن يتنبئوا بذلك التحرك، لأنهم قد وقعوا في شباك التضليل التي نسجوها على مر عقود من المؤامرات، وقد أعمت عنصرية الغرب عيونه، فنسي تماما أن لهذه الأمة تاريخاً مجيداً وأنها أمة عريقة تملك فكرا راقيا، وأسلوب حياة متميز.
فالغرب ظن أن أسلوب حياته لا مثيل له في ظل غياب أسلوب حياة آخر متميز عن الساحة الدولية، وفي ظل انبهار الأنظمة التابعة له بذلك الأسلوب، استخف الغرب بالأمة الإسلامية ...فلم يتوقع للأمة الإسلامية أن تتحرك، فقد أغوته قوته وتخاذل حكامنا، فلم يعد يرى فينا أمة تستحق الاحترام على أقل تقدير.
أما الأنظمة، فهي بعيدة عن الأمة وبعيدة عن ألمها، لا هم لها سوى البقاء على كرسي الحكم، وترى في الغرب القوة العظمى التي ينصاع لها كل شيء في هذا الكون، وضاق فكر القادة ليصبح ما دون فكر العبيد الأسرى للغرب، وهامت عقولهم في تسبيح الغرب وتمجيده، وأوكلت لبلطجية الأنظمة صناعة المشهد السياسي والثقافي والإعلامي على أساس الافتتان بأسلوب حياة الغرب وأنظمة حكمه، فاحتل إرضاء الغرب أولى أولياتهم، ولم يحسبوا لخالق الغرب وللشعوب أي حساب. .. فكانت المفاجأة .
ففي لحظة تاريخية لم تعد المسكنات تجدي نفعا وبات الألم شديدا قاسيا، اتسعت دائرته فطالت كل أفراد الأمة وكل قطاعاتها، فالكل متضرر من وجود هذه الأنظمة؛ الشباب والشيوخ والأطفال والشجر والحجر والأنهار والبحار، لم يبق على هذه الأرض روح إلا وتألمت من تبعات وجود هذه الأنظمة الظالمة، وبداية الشعور بالألم شكل الدليل القاطع على عودة الأمة من غيبوبتها وتململها قبل وقوفها على قدميها.
سوف نبقى هنا كي يزول الألم، ردد المعتصمون في بنغازي، ليتردد صداهم في دمشق وصنعاء والمنامة الجزائر وبقية العواصم تباعا، إلا أن صحوة الأمة وشعورها بالألم لم ينعكس على أولئك الذين ما زال التضليل يخدرهم والثقافة الغربية العنصرية تملأ كيانهم وتعشش في عقولهم، فأصبحوا بعدين عن حس الأمة وشعورها، منهزمين مضبوعين بالغرب وثقافته فلا يرون تحررا إلا من خلاله، وبعد أخذ الإذن منه، فالتحرر في قاموسهم أن تعيش الأمة حسب أنظمة الغرب وثقافته وأسلوب حياته حتى يرضى الغرب ويمكننا من العيش بحرية، وتلك عقلية الفئة المرتبطة بالأنظمة البائدة، التي تشكلت خياراتها على أساس التبعية للغرب والإحساس بالدونية أمامه وبات منطقها معوجا يرى في أمة تربو على المليار قاصرة أو عديمة الثقافة حتى تنتظر من اسبانيا أو ايطاليا أو فرنسا أن تضع لها شرعة ومنهاج حياة !!!.
منطق عاجز، يتصور أن أمة الثروات والرجال والشباب والموقع الاستراتجي بحاجة إلى أي مساعدة من الغرب، حتى يأخذ بيدها إلى طريقة العيش التي تكفل لها العزة والكرامة!!.
لكنها العقلية الانهزامية لدى بقايا تلك الفئة التي تربت في الحدائق الخلفية للأنظمة البائدة، والتي أوشكت أن تبيد، عقلية مضطربة تابعة للغرب لم تتخلص من عبوديتها له، تريد أن تطمئن الغرب على النظام الذي ستطبقه على الأمة المتحررة، وعلى الاتفاقيات الموقعة مع الحكام المخلوعين، ذلك النظام وتلك الاتفاقيات التي تضمن مصالح الغرب وتبعية الأمة للاستعمار، والأخطر من ذلك هو قناعة تلك الفئة بضرورة طمأنة الغرب على أسلوب الحياة التي ستختاره الأمة، خوفا من الغرب.
فبعد كسر الأمة لحواجز الخوف يتقوقع هؤلاء ويسيرون للخلف في عجز واضح عن مواكبة حركة الأمة السريعة، فلا يرون إلا النموذج الغربي صالحا للحياة، على النقيض من الأمة التي عاشت الألم الحقيقي من نموذج الدولة الغربي الرأسمالي الذي لا يقيم للإنسان وزنا ولا يرى سوى مصالحه، شاهدت بأم عينيها وحشية الأنظمة الرأسمالية في العراق وأفغانستان ونفاق الأنظمة الغربية وميزانها المختل وقنابل الفسفور تنهش أجساد الأطفال في غزة، وعلى المستوى الفردي لا ترى الأمة في الغربي نموذجا يحتذى به في الأخلاق أو احترام القيم الأسرية أو الانسانية، فالأمة قد استعادت وعيها وباتت تميز بين المتقدم والمتخاذل، وعلى الذين يسيرون عكس التاريخ أن يفتحوا أعينهم ويعودوا لأمتهم العريقة، فالأمة لن تعطيهم قيادتها وستلفظهم كما لفظت أسيادهم.
فبعد تلك الرحلة الطويلة من التضليل تجسد الألم والهزيمة والذل والتبعية في تلك الأنظمة الحاكمة وعائلاتها وحواشيها من رجال الإعمال والإعلام والتوابع، ويبدو واضحا أن الأمة لن ترضى إلا بزوال ذلك الألم وستبقى على هذه الحالة من الاعتصام والاحتشاد وعدم الاستقرار إلى أن تزول تلك الأنظمة وذلك الألم.
عندها سوف نحيا هنا...سوف يحلو النغم، سنعيش كما يحلو لنا، سنعيش وفق شرع ربنا، ولن ننتظر إذنا من أحد، فلنا أسلوب حياتنا المميز، ولنا نظام حكم واقتصاد واجتماع ولنا دستورنا المستمد من عقيدتنا، ولنا أرضنا وثرواتنا، وسنفرض رؤيتنا ونحرر أرضنا ونحمل ديننا رسالة نور للعالم.....فالألم سيزول، وسيقتلع الظلم قريبا.