لقد برزت في الأحداث الأخيرة التي حصلت في بعض بلاد المسلمين دعوات تطالب بفكرة الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، وسعى البعض لجعلها مطلب الأمة وتعميتها عن مطلبها الحقيقي في محاولة تزوير واضحة، فتصدّرت هذه العناوين العريضة عبر وسائل إعلام مضللة ثورات التغيير المستمرة في ساحة المسلمين، حتى غدا الإعلام لا يبرز سوى المطالبين بهذه المطالب ويهمش بصورة مقصودة دعوات التغيير الحقيقية.
والحقيقة أن هذه الأفكار، بمعناها الحقيقي، لا رواج لها في أوساط المسلمين وأن سبب بروزها في ساحة المسلمين عدم الوعي على حقيقتها وإدراك واقعها بعيداً عن الدعايات المضللة، فبرزت هذه الأفكار، وتصدّرت الثورات كشعارات تعبر عن رفض الظلم وتقييد الحريات الذي مورس على أبناء المسلمين من قبل الحكام وأعوان الحكام.
ومن باب الحرص على نقاء الساحة الإسلامية من شعارات الاستعمار وأعوان الاستعمار من المفكرين والسياسيين، وسعياً للوقوف في وجه محاولة تزوير أو تزييف مطالب الأمة الحقيقية، والحرص كذلك على العدالة الحقيقية وعلى تحقّقها في ساحة المسلمين، بدل الظلم والاستبداد والقهر والحرمان، والحرص كذلك على ربط المسلمين بدينهم الحق، وتنقية هذا الدين ممّا علق به من أفكار زائفة ملفقة، لا تمت إليه بأية صلة، نريد أن نقف على هذه الأفكار وعلى حقيقتها، وهل صحيح أنها تحقّق العدالة في المجتمع، وأنها تحقّق التعبير الصحيح عن رأي الناس في اختيار الحاكم برأي الأغلبية كما يدعون في النظم الرأسمالية، وهل صحيح كذلك أن مبدأ حقوق الإنسان الذي ينادي به الغرب يحقّق للإنسانية حقوقها ؟!
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها لا بد أن نقف على أمرين مهمين يتعلقان بحياة الشعوب وتطلّعها للانعتاق والتحرر؛ الأول: ما جرى في ثورات التحرّر في عهد الكنيسة في العصور الوسطى، والثاني: ما جرى في عهد الاستعمار لبلاد المسلمين في بدايات القرن الماضي وأواسطه.
إن القاسم المشترك بين هذين الواقعين والحدثيْن التاريخيين هو نظرة الشعوب للتخلّص من الظلم والقهر والتسلط، وطمعها في تحقيق العدالة وتحصيل الحقوق!!
فما جرى في عهد الكنيسة ورجال الدين من ظلم وتحريف للدين وتسخيره في سبل المنافع الخاصة، جعل الشعوب في أوروبا تضيق ذرعاً بهذا الواقع السيئ، وتخرج على هؤلاء القادة في ثورات استمرت سنوات عديدة، ذهب فيها الآلاف من القتلى، وفي نهاية المطاف تحرر الناس من سطوة العبودية الكنسيّة، وبعد التحرّر لم يكن عندهم أي تصور لما سيكون عليه شكل المجتمع، والنظام الذي سيحكمهم، ولا الأساس الفكري الذي سيسود المجتمع !!
وبعد أخذ ورد ونقاش طويل توصلوا إلى التخلّي عن أفكار الكنيسة لأنها في نظرهم هي سبب الظلم، وأطلقوا العنان للعقل ليضع القوانين والأفكار الجديدة .. وكان من هذه الأفكار الجديدة الحريات بأنواعها (حرية التدين، حرية الرأي، حرية الملكية، الحرية الشخصية)، وكان منها أيضاً فكرة حقوق الإنسان والديمقراطية .. وغيرها من الأفكار !!
والجامع المشترك بين هذه الأفكار هو الإنعتاق من فكر الكنيسة، والتسلّط الجماعي التي سادت فيها، بتسلّط الجماعة -في الكنيسة- على حقوق الفرد، وإعطاء الفرد حقه في الاختيار وإبداء الرأي وغير ذلك من حقوق، والمحافظة على هذه الحقوق الفردية من سطوة الجماعة وتسلطها ..
أما ما جرى من ثورات التحرّر ضد الاستعمار في بلاد المسلمين في عهد الاستعمار الغابر فكان هدفه التخلص من احتلال عسكري جاثم على بلاد المسلمين؛ يظلم وينتهك الحقوق وينشر الفساد بكافة أشكاله وأنواعه.. وبعد زوال هذا الاستعمار بعد سنوات طويلة من الجهاد، وملايين الشهداء، لم يكن للناس تصوّر للمرحلة المقبلة من حيث الفكر الذي سيسود المجتمع، وشكل الحكم والنظام فيه، مع أن معظم هذه الثورات التي كانت كان قادتها من اتجاهات إسلامية، مثل السنوسيين في ليبيا، والمهديين في السودان،.. وغيرهم.
فما حصل بعد ثورات التحرر – وللأسف- هو أن البلاد لم تحُكم بالإسلام، وبقيت الأمور مفتوحة لكل الاحتمالات، لذلك استطاع الكفار أن ينفُُذُوا من هذه الثغرة ويقلبوا هذه الثورات إلى نظم جديدة باسم الثورية والوطنية وغير ذلك!! .. واستطاعوا أن يأتوا بأشخاص جدد من عملاء الاستعمار يرثوا هؤلاء القادة المحرّرين العظام، واستطاعوا أن يضعوا دساتير غربية تحكم بلاد المسلمين، وظلّت بلاد المسلمين من يومها حتى يومنا هذا تحت سطوة الاستعمار السياسي بعد رحيل الاستعمار العسكري !!
أما ما يحدث اليوم من ثورات ضد الظلم، فإنه سعياً للنفاذ إليها ومحاولة الالتفاف عليها وتحوير مطالبها الحقيقية، ينادى في المسلمين بتطبيق أفكار الحريات والديمقراطيات وحقوق الإنسان من أجل تحقيق العدالة، ولو افترضنا حسن النية فيمن يطالب هذه المطالب لا سيما من التيارات السياسية على اختلافها، لقلنا: إن الأولى في مثل هذه الأفكار أن تحقّق العدالة في مواطنها التي برزت فيها، فهل حققت هذه الأفكار عدالة؟!، وهل نشرت أمناً في مجتمعات الغرب؟!، وهل أعطت للشعوب حرية التعبير والاختيار ؟!!
والحقيقة أن هذه الأفكار – فوق بطلانها – قد جلبت الفساد والدمار والكوارث على المجتمعات الرأسمالية دون استثناء؛ فأفكار الحريات قد جلبت الانحلال الخلقي النابع من الحرية الشخصية، وجلبت الأمراض الفتاكة كالإيدز، وحرية الملكية قد جلبت الشركات الرأسمالية العملاقة والبنوك، وبالتالي سيطرة الرأسماليين على منابع الثروة، وحرمان باقي أبناء المجتمع منها، وأن الواقع المشاهد المحسوس هو خير برهان على فساد كل الفكر الرأسمالي الغربي لما أحدثته هذه الأفكار السقيمة من أزمات اقتصادية متعاقبة على بلاد الغرب وخاصةً أمريكا!! ..
أما إذا نظرنا إلى فكرة الديمقراطية التي يتغنى بها الغرب فإن هذه الديمقراطية هي خادمٌ للرأسماليين الكبار في دول الغرب من أجل السيطرة على الحكم، ولا تجعل للشعب شيئاً !! والدليل على ذلك هو أنه في أية دولة من الدول التي تسمي نفسها ديمقراطية وعلى رأسها (أمريكا)، فإن الأحزاب الرأسمالية هي التي تصل إلى الحكم عن طريق شراء الذمم والأصوات، ولا يصل إلى البيت الأبيض ولا إلى المراكز الحساسة في الدولة غيرهم، هذا عدا عن فساد الديمقراطية في أنها تجعل المشرّع هو الإنسان وليس الله في مجتمعٍ كلّ أهله مسلمون !!
إن الأصل فيمن يرفع الشعار ضد الظلم والتحرر منه أن لا يكتفي بخلع رمز الظلم أو واجهته من أرض الواقع وهم الحكام، بل إنه يجب عليه أن يخلع جذور هذا الظلم؛ وهي الأفكار التي يرتكز عليها الاستعمار في بلاد المسلمين ومنها فكرة (الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان..)، ويجب أيضاً أن يسعى لوضع نظام جديد يضمن من خلاله عدم عودة الظلم أولاً ويضمن تحقق العدل ثانياً .
إن هذه الثورات الخيّرة، المنتفضة في وجه الظلم والظلام بكل أنواعه في بلاد المسلمين، تتطلع إلى التغيير الحقيقي عبر إقامة الخلافة، وإن غمي عليها أو سعى الساعون لتزوير الحقيقية وتزييف إرادتها، فالمسلمون في كل البلاد المنتفضة يدركون بأنه لا يوجد نظام أعدل من الإسلام، وأنه لا يجوز لنا -بوصفنا مسلمين- أن نأخذ أنظمة أخرى تناقض ديننا.
إن الذي يجعل هدفه مرضاة الله تعالى لا يأبه لرضى الغرب وما يسمى بالمجتمع الدولي أو سخطه، وهو حتماً سيصل إلى مبتغاه بعون الله ورعايته، فلا تخشوا الناس أيها المسلمون، واسعوا إلى تحكيم شرع الله وإقامة الخلافة التي ستحقق العدالة والتغيير الحقيقي والتي ستقتلع نفوذ الاستعمار من بلاد المسلمين بشكل نهائي. قال تعالى: { ... أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } ( التوبة / 13 ) ،وقال : { ... فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ( المائدة / 44 ) .
وقال عليه السلام: " من أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس "
نسأله تعالى أن يلهم المسلمين طريق الخير والرشاد، وأن يجمعهم تحت راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله) في ظل دولة الخلافة الراشدة الموعودة عما قريب ...آمين يا رب العالمين.