النظام الاقتصادي الرأسمالي هو نظام المتغيرات والتناقضات والأزمات، كما يصفه خبراء الاقتصاد، والسبب أنه نتاج عقل بشري قاصر، قائم على فكرة خاطئة هي فكرة الحل الوسط بين أمرين مختلفين ومتناقضين في نفس الوقت؛ هما رجال الدين والمفكرون، ويرتكز في أسسه التشريعية إلى أفكار الحريات الأربعة؛ (حريّة الاعتقاد، وحرية الرأي، وحرية التملك، والحرية الشخصية) ..
فمنذ نشأ هذا النظام في دول الغرب والأزمات الاقتصاديّة، وما يتولد عنها من كوارث وخسائر رهيبة تتابع واحدة بعد الأخرى، في أوروبا وأمريكا وكثير من دول العالم ممن يدين بهذا الفكر!! ...
ومن هذه الأزمات التي باتت تؤرق الساسة والخبراء الاقتصاديين ما يسمّى بحرب العملات، فما هي حقيقة هذه الحرب، وما هي أسبابها، وما هي نتائجها على المجتمعات البشرية، وساحة الصراع الدولي ؟؟.
الحقيقة أن (حرب العملات) وإن كانت جديدة بهذا المسمى عند الاقتصاديين والساسة، لكن مضمونها وواقعها أمر قديم، ظهر بشكل بارز إلى الساحة الاقتصادية بعد إلغاء ارتباط الدولار الأمريكي بالذهب وتعويمه بدون أي غطاء ذهبيٍّ سنة واحد وسبعين، وأصبحت أمريكا بعد ذلك تتلاعب باقتصاديات الدول الكبرى، وما تسمى بالنامية عن طريق الدولار مستخدمة سطوتها وسيطرتها السياسية وقوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية ..
وبعد الأزمة الأخيرة وهي ما تُعرف بالأزمة الاقتصادية العالمية والتي أشعلت شرارتها أزمة الرهن العقاري في أمريكا، برزت هذه الحرب بشكل ملحوظ بارز، وأصبح لها صدىً دولي على ألسنة الساسة والزعماء والاقتصاديين، وتعالت التحذيرات من خطورتها سياسياً واقتصادياً على العالم..
أما من صعّد هذه الحرب وزاد من شعلتها فهي أمريكا، والسبب هو ما يعاني منه الاقتصاد الأمريكي من عجز في المديونية والميزان التجاري ومن بطالة وركود اقتصادي داخلي وانهيار شركات عملاقة وبشكل متتابع ..فحجم الديون الإجمالي بلغ حوالي 13 تريليون دولار حسب وزارة الخزانة سنة 2010 وتشكل ما قيمته 93% من إجمالي الناتج المحلي ، أما العجز في الميزان التجاري لهذا العام فقد بلغ حوالي 47 مليار دولار ، والعجز في الموازنة العامة 1.3 تريليون دولار ، أما عدد الفقراء فقد زاد عن 50 مليون أمريكي أي بنسبة تقارب 15% من إجمالي السكان ...
فقد عمدت أمريكا في السنة الحالية إلى طرح مليارات الدولارات وبشكل متتابع في الأسواق كان آخرها طرح ما قيمته 600 مليار دولار أمريكي أواخر هذا العام في الأسواق، لتنشيط الاقتصاد ودعم الشركات المتعثرة، وهذا أدى إلى انخفاض قيمة الدولار وارتفاع قيمة العملات الأخرى مقابل ذلك، أي مقابل الدولار مثل الين الياباني والإيوان الصيني واليورو عملة الاتحاد الأوروبي، وقامت الحكومة الأمريكية أيضاً في أكثر من مرة بإصدار سندات خزينة بقرار من الكونغرس الأمريكي، وتم بيعها للبنك المركزي الأمريكي بثمن نقدي، ومن ثم قام البنك المركزي ببيعها في أسواق المال لأخذ سيولة نقدية، وهذه العملية تقوم بها الدولة من أجل تحصيل السيولة النقديّة وبالتالي تنخفض قيمة الدولار في الأسواق ..
وقد جاء في خطاب الرئيس الأمريكي الأخير بشأن مسائل الاقتصاد: (أنه لا بد من زيادة حجم الصادرات الأمريكية للخارج من أجل التعافي الاقتصادي والخروج من هذه الأزمة بشكل منتظم، وزيادة حجم الصادرات الأمريكية في ساحة التنافس التجاري لا يمكن أن يحدث إلا بأحد أمرين الأول: تخفيض قيمة الدولار وبالتالي رخص البضاعة الأمريكية، والثاني: عن طريق القوة العسكرية وإغلاق الأسواق وخاصّة تجارة السلاح، وهذا ما قامت به أمريكا بشكل متكرر في هذا العام ..
لقد صدرت عدة تحذيرات وصيحات عالمية تجاه هذه المعضلة الاقتصادية منها ما كان على شكل تحذيرات، ومنها ما كان على شكل اقتراحات للحلول، ففي جريدة فاينانشال تايمز البريطانية صرح رئيس صندوق النقد الدولي ( دومينيك ستروس ) قائلاً:(إن استخدام دول العالم لأسعار صرف عملاتها من أجل حل مشكلاتها المحلية يؤدي ويهدد بإشعال حرب عملات عالمية، وقال أيضاً: إن استخدام أسعار العملات كسلاح سياسي ينطوي على خطر كبير، يهدد التعافي الاقتصادي العالمي، وأي اتجاه من هذا النوع سوف تكون له آثار سلبية مدمرة للغاية على المدى الطويل!! ..
وقال رئيس مالية البرازيل ( غويدو مانتيكا ): (إن حرب عملات دولية قد اندلعت بالفعل على ضوء تنافس الدول في مختلف أنحاء المعمورة على تخفيض سعر صرف عملاتها من أجل تعزيز قدرتها التنافسية) .. كما حذر الباحث الاقتصادي الصيني (سنونج هونغ) في كتاب جديد سماه (حرب العملات) قال: "إن الاقتصاد الصيني سيتعرض لضربة اقتصادية شبيهة بالضربة التي تعرض لها اقتصاد دول جنوب شرق آسيا سنة 98 في أزمة البورصة، حيث تخطت خسائر اليابان في تلك الأزمة ما لحق بها من الضربة الذرية في الحرب العالمية الثانية.
وقال هذا الخبير الاقتصادي: إن النزول بسعر الدولار إلى أدنى مستوى فهذا يؤثر على الاحتياطي الصيني من الدولار والبالغ حوالي 2 تريليون دولار!!
أما المستشار الاقتصادي للرئيس الأمريكي فقد حذر هذا العام فقال: هناك مخاطر حقيقية من تفكك منطقة اليورو بسبب الكساد والمتغيرات الاقتصادية المتتابعة، وهذا ما أكده أيضا رئيس البنك المركزي الأوروبي (جان لكود) حيث قال: إن الأسواق الأوروبية تواجه أصعب وضع منذ الحرب العالمية الثانية!!..
أما الاقتراحات التي قدمت، وما زالت تقدم من قبل السياسيين والخبراء الاقتصاديين فكلها تقريباً تدور حول استبدال الدولار الأمريكي بنظام مالي جديد، يضمن عدم التلاعب باقتصاديات العالم، ومن هذه الاقتراحات :ما صرح به رئيس روسيا قبل قمة واشنطن الاقتصادية حيث قال: من الضروري إنشاء نظام مالي جديد، ووجود رقابة على مختلف المراكز المالية، ودعا الرئيس ساركوزي أيضا إلى وضع تنظيمات ولوائح منسقة عالميا للإشراف على المعاملات المالية، أما حاكم المصرف المركزي الصيني فكان أكثر جرأة عندما دعا إلى استبدال الدولار بنظام دولي جديد!
وفي قمة سيول الأخيرة هذا العام كان مدرجا على جدول أعمالها وضع ضوابط للنظام المصرفي العالمي وأسعار العملات، وإصلاحات في صندوق النقد الدولي.
والحقيقة أن كل هذه التحذيرات والاقتراحات لا تلقى أية آذان صاغية عند الساسة الأمريكان، فقد أرجأت اتخاذ أي قرار في قمة سيول إلى العام القادم، بل إنها قامت بالتهديد والوعيد في عدة مرات وخاصّة للصين نتيجة تحريضها ضد الدولار، وقيامها بتخفيض قيمة اليوان؛ ففي شهر حزيران من هذا العام هددت أمريكا الصين بالتخلي عن تعاملها التجاري معها إذا لم تعدّل الصين من قيمة عملتها برفعها، والسبب أن الولايات المتحدة فقدت حوالي مليون وظيفة بسبب إقدام الصين على خفض قيمة اليوان أمام الدولار وبالتالي تنشيط الصادرات الصينية ..
وقبيل قمة سيول الاقتصادية صرح الرئيس الأمريكي الأسبق بأن بقاء الدولار كعملة عالمية مسألة لا يمكن النظر فيها لأنها مسألة حيوية لأمريكا ..
هذا بإيجاز ما يتعلق بواقع الحرب وأسبابها، أما نتائجها على العالم وطريقة الخلاص من شرورها وآثامها، فهناك عدة نتائج اقتصادية مدمرة على دول العالم بسبب هذه الحرب الاقتصادية ومن هذه النتائج : -
1- تدمير اقتصاديات دول لحساب دول أخرى أي لحساب الولايات المتحدة، ففي عملية إقدام أمريكا على خفض قيمة الدولار الأخيرة خسرت دول العالم مليارات الدولارات بسبب انخفاض قيمة الاحتياطي من الدولار وخاصة الصين واليابان والاتحاد الأوروبي.
2- تنشيط التجارة الأمريكية على حساب كساد التجارات الأخرى، وخاصّة البضائع الأوروبية واليابانية، ويتسبب ذلك بخسارة المليارات من الدولارات في كل شهر، وفقدان الملايين من فرص العمل وبالتالي زيادة نسيه البطالة في هذه الدول.
3- انخفاض الأجور في هذه الدول بسبب الكساد وقلة التصدير الصناعي يؤدي إلى زيادة عدد الفقراء.
4- ارتفاع سعر البترول والذهب، وبالتالي التأثير على قيمة الصناعات في الدول التي لا تنتج البترول، وهذا يؤدي أيضاً إلى ارتفاع تكاليف المنتجات الغذائية لسببين؛ الأول: ارتفاع تكاليفها، والثاني: استخدام قسم منها في الوقود البديل المسمى بالحيوي نتيجة ارتفاع سعر البترول..
5- عملية خفض قيمة الدولار عن طريق السيولة في الأسواق، أو عن طريق السندات يؤدي إلى آثار جانبية داخل الولايات المتحدة نفسها وذلك بهروب رؤوس الأموال إلى الخارج وخاصّة الشركات الصغيرة، وتستفيد منه الشركات العملاقة التي تتعامل بالتصدير للخارج، كذلك يؤدّي إلى ارتفاع في قيمة الشراء للمواد والمنافع التجارية ..
والحقيقة أنه لا يوجد حلّ منظور لهذه الحرب الشريرة والسبب؛
1- أن النظام الاقتصادي الرأسمالي ما زال يتربع على عرش اقتصاديات العالم، ويسيّر كل حركاته النقدية والتجارية.
2- إن أمريكا ما زالت تتسع دائرة أزمتها الاقتصادية، ولا يوجد تعافي اقتصادي كما يوهم الساسة الناس في أمريكا، وهذا يدفع أمريكا للبحث عن بدائل لسد الخلل و(حرب العملات) هذه هي إحدى البدائل التي لا غنى عنها.
3- أمريكا عملاق اقتصادي وعسكري لا يمكن لأي دولة من الدول الحالية مجابهته، حيث يبلغ الناتج القومي الامريكي حوالي 97% من حجم الناتج للاتحاد الأوروبي، و23% من حجم الناتج القومي العالمي، وفي نفس الوقت لا يوجد بديل عند العالم للتخلي عن الدولار الأمريكي، ولا يوجد حتى الجرأة عند الدول بالانعتاق من هذا الدولار، وأيضا ترتبط دول العالم برباط اقتصادي وثيق مع أمريكا في صادراتها حيث تبلغ صادرات الصين واليابان ما بين 15-20% من حجم الصادرات الخارجية.
4- عدم وجود دولة مبدئية تقوم على نظام اقتصادي يخالف النظام الاقتصادي الرأسمالي في طريقة صناعة النقود وفي التجارة الخارجية والعلاقات الاقتصادية.
ومن هذه المعطيات الاقتصادية والسياسية نقول بأن هذه الحرب ستستمر، وستزداد رقعتها ودائرة أضرارها وستلحق بالعالم الويلات والشرور وخاصة على الدول الفقيرة بزيادة سعر الغذاء بصورة متصاعدة، وربما أدت إلى صراعات أخرى لا يعلم ماهيتها إلا الله سبحانه وتعالى ...
أما طريقة خروج العالم من هذا الشر المستطير فلا يمكن إلا بطريق واحد فقط وهو ظهور مخلص للعالم بقيام دولة إسلامية مبدئية تقوم على مبدأ صحيح، وتتخذ من الذهب أساساً لعملتها وتتحدّى الولايات المتحدة وتقف في وجهها اقتصادياً وسياسياً.
فنظام الذهب هو وحده القادر على تخليص العالم من هذا الشر، وقد أثبت هذا النظام قدرته حتى الحرب العالمية الأولى، ولم يكن العالم يعاني ما يعانيه من مفاسد وشرور، ولم تبدأ الشرور والحروب الاقتصادية ومنها هذه الحرب إلا بعد الانعتاق والانفكاك من رابط الذهب.
فنظام الذهب فيه مزايا وخواص لا يمكن معها وجود أزمات نقدية أو حتى اقتصادية ومنها:
1- أنه يحمل قيمته في ذاته، فلا يمكن لأي دولة أن تطبع منه ما تشاء كما هو حاصل، ولا يمكن أن يوجد تضخم في قيمة النقد إذا كان سنداً للنقد .
2- الذهب له صفة الثبات في الصرف ولا يمكن أن يتذبذب كما هو حاصل في باقي العملات، حيث يكون سعر الصرف في الصباح بقيمة ثم يصبح بقيمة أخرى في المساء.
3- وجود الذهب نادر في الأرض، وقيمة إنتاجه تساوي تقريباً قيمته السوقية ولا يمكن طرحه في الأسواق بالشكل الذي يحدث مع الدولار .
هذه بعض من مزايا نظام الذهب، وقد صدرت تصريحات لبعض الخبراء في خضم هذه الحرب تنادي بالعودة لنظام الذهب ومن ذلك: ما صدر هذا الشهر عن رئيس البنك الدولي (روبرت زوليك) حيث قال: إن هذا المعدن النفيس قد يكون جاهزاً للعودة، وكجزء من مجموعة إصلاحات خاصة بالنظام المالي العالمي، اقترح زوليك على صناع السياسات أن يأخذوا بعين الاعتبار أيضاً توظيف الذهب كمرجع عالمي لتوقعات السوق حول التضخم والانكماش والقيم المستقبلية للعملات، وهذا ما اقترحه أيضا الخبير الاقتصادي سونغ هونغ صاحب كتاب حرب العملات حيث قال: (أعتقد أن الخيار في حل هذه الحرب يعود إلى نظام الذهب، حيث أن الذهب هو عملة قياس، وربما المقترح الأخير ربما يكون الأكثر إمكانية في التحقيق هو أنه بعد انهيار نظام الدولار فعليك أن تعود إلى ثقة الناس والتي تقوم أساسا على الذهب. وقد سبق إلى هذا الأمر في بداية الستينات من القرن الماضي الرئيس الفرنسي السابق ديغول في مؤتمر الاليزيه ثلاث وستين وتسعمائة وألف؛ لكن اقتراحه هذا أفشلته أمريكا حتى داخل البرلمان الفرنسي، مما تسبب في اعتزاله السياسة بعد ذلك..
وأخيراً نقول : إن الدولة الإسلامية هي وحدها القادرة على تطبيق نظام اقتصادي صحيح ومنه نظام نقدي يستند للذهب والفضة، وستكون هي المخلص لكل البشر سياسياً واقتصادياً وروحياً وفي كل المجالات، وهي التي ستخلص العالم مما هو من شقاء كبير وتعاسة لا تطاق .
وصدق الحق القائل : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا.. }