المقصود بالجوائح والشدائد هي: (الأمور التي تنتاب المسلمين أفراداً وجماعات، وتحدث فيهم الشدّة وشظف العيش والاضطراب والفقر، أو قد تتسبب بالتشريد وهدم البيوت والموت الجماعي، أو غير ذلك من ألوان الشدائد والنكبات) .. وهذه الأمور غالباً ما تنتج عن الظواهر الطبيعية؛ مثل الأعاصير والزلازل والبراكين أو الحرائق أو الجدب والقحط .. إلى غير ذلك من مظاهر طبيعية، وقد تحدث هذه الجوائح والشدائد بسبب اعتداءات الأعداء في الحرب أو الحصار أو غير ذلك ...
والحقيقة أن نظرة المبدأ للإنسان وكرامته وقدره هي التي تحدث ردّة الفعل عند أصحاب هذا المبدأ في طريقة العلاج وسرعته، فإذا كان المبدأ يقدر الإنسان ويوليه الأهمية القصوى في النظرة فإن حركة الدولة والمواطنين في هذه الدولة تكون سريعة جداً وبأقصى الطاقات والقدرات لإنقاذ الناس المتضررين من هذه الكوارث، وإن كانت النظرة تنصب على رأس المال وعلى اعتبارات أخرى غير كرامة الإنسان وحياته، فإن الحركة تكون بطيئة وغير كافية، ولا تتناسب مع حجم الكارثة !! ..
فإذا نظرنا إلى المبدأ الرأسمالي على سبيل المثال فإننا نرى أن النظرة الأولى والأوْلى في هذا النظام تنصبّ على رأس المال؛ على تكثيره والانتفاع منه بأكبر قدر مستطاع، ولا تنصب على الإنسان وعلى كرامته وحياته، ولذلك سمي بالمبدأ الرأسمالي (رأس المال) والدليل على ذلك من ارض الواقع هو أن أتباع هذا المبدأ يخوضون الحروب الطاحنة من أجل المال ومن اجل الشركات والاستعمار ومناطق النفوذ، حتى لو أزهق فيها الملايين من البشر، كما حصل في الحربين العالميتين؛ الأولى والثانية، والشيء الأكثر غرابة في هذا المبدأ أنه يفتعل الأحداث والكوارث من أجل مصلحة مالية معينة، كما هو حاصل هذه الأيام في افتعال التفجيرات في كثير من بلاد العالم ومنها داخل بلاده، وإزهاق الآلاف من الأرواح من أجل الخطط الاستعمارية من أجل المنافع الاقتصادية، وكما حصل كذلك في حادثة ميناء (بيرل هاربر) 1941، عندما أرادت أمريكا أن تدخل الحرب العالمية الثانية بجانب الحلفاء ضد اليابان ..
أما مسألة الاهتمام بالفرد والنظرة الفردية في هذا النظام، فقد اتخذها هذا المبدأ قاعدة عريضة لإنصاف الفرد من تسلط الجماعة نتيجة ردّة فعل ما كان يحصل أيام الكنيسة ورجال الدين، ولم تكن المعالجات التي قام بها هؤلاء الرأسماليون تجاه الفرد تتوافق مع هذه النظرة؛ حيث اعتمدوا أفكار الحريات في هذا الإنصاف وحقوق الإنسان، وقد زادت هذه الحريات من تسلط الأغنياء على الفرد بدل إنصافه، وجلبت عليه الدمار الاقتصادي كالطبيعة والتحكمات الاقتصادية والتي تؤدي إلى الفقر والأزمات الشديدة بسبب الشركات الناشئة عن حرية الملكية !! ..
والحقيقة أن كل هذه الأمور الفكرية والنظرات السقيمة قد أثرت في كيفية تعامل النظام الرأسمالي مع الشدائد والجوائح والكوارث الإنسانية، فالنظرة الأولى دائماً تنصب على رأس المال والمحافظة على الرأسماليين حتى لو كان ذلك على حساب حياة البشر .. وسوف نأخذ بعض الأمثلة التي تبين هذه الحقيقة بشكل واضح جليّ .. فعلى سبيل المثال ما جرى في الأزمة المالية الحالية التي كانت شرارتها أزمة الرهن العقاري اضطرت شركات التأمين والرهن إلى إخلاء آلاف الناس في بداية الأزمة من منازلهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء دون أية نظرة لكرامة إنسانية أو حياة النساء والشيوخ والأطفال، وكل ذلك خدمة قانونية لأصحاب الأموال والشركات، ومثال آخر ما يجري في الكوارث الطبيعية والزلازل والبراكين، فإن النظرة الأولى عند الدولة تنصب على الحسابات المادية في تكلفة الاحتياجات وحجم الخسائر المادية قبل أن ينظروا إلى حجم المعاناة الإنسانية الناتجة عن هذه الكوارث، وربما اضطرت الدولة أحياناً لإخفاء الحقائق عن الناس في طريقة وسرعة تعاملها مع هذه الكوارث، وقد برزت عدة انتقادات للدول الرأسمالية من قبل منظمات إنسانية أو أفراد توجه اللوم لهذه الحكومات من تأخر المساعدات وطواقم الإنقاذ مقارنة مع أمور أخرى تتعلق بالحروب والحركات العسكرية الاستعمارية، وبذل التضحيات والنفقات الكبيرة في سبيلها، ومن ذلك ما حصل في (زلزال هاييتي) حيث تأخرت المساعدات في الإنقاذ من قبل دول العالم، وخاصة الولايات المتحدة، بينما كانت تحركاتها العسكرية أسرع بكثير؛ حيث صرح (شاؤول شوارتز) مصوِّر مجلة تايم الأمريكية، إنه رأى الناس يقيمون الحواجز من جثث الضحايا، وشرعوا بسد الطرقات بالجثث، وذلك بسبب تأخر المساعدات ويئس الناس من الحصول على المساعدات، بينما قامت الولايات المتحدة بإنزال آلاف الجنود على الشاطئ في عملية وصفت بأنها شبه احتلال!!..، وقالت صحيفة (نيويورك تايمز): رد فعل البيت الأبيض وشركة (بريتش بتروليوم) على تسرب بقعة النفط من منصة لاستخراج البترول بالقرب من الشواطئ الأميركية، بعد وقوع انفجار فيها وغرقها، بأنها بطيئة جدا ولا تتناسب مع حجم المأساة، متهمة الحكومة الفدرالية أيضا بعدم التحرك بالسرعة المنشودة، وقالت إنه كان يتعين على الإدارة الأميركية أن تتخذ المبادرة بنفسها، ولا تبقى حبيسة الانتظار لما قد تقوم به الشركة، وذكّرت بدرسين من التاريخ قالت: إنه كان على البيت الأبيض أن يعيهما؛ الأول تسرب النفط من ناقلة (إكسون فالديز) سنة 1989، حين تسبب رد الفعل المتأخر في تدمير أغنى مناطق الصيد، فكبد البلاد ملايين الدولارات، والدرس الثاني؛ هو التصرف البائس الذي قام به الرئيس السابق جورج بوش تجاه (إعصار كاترينا)، وقد كانت أغلب التصريحات التي تصدر عن الساسة الأمريكان في مأساة انفجار البئر البترولي العائم، تركز على مقدار الغرامة التي ستدفعها شركة بريتش بتروليوم، وليس على حجم الكارثة والمأساة!!..
أما (البركان الدخاني الايسلاندي) فقد كانت جلّ التصريحات المتعلقة به تتركز على الناحية المادية، لا على الناحية البيئية الإنسانية؛ فقد ذكرت( منظمة الطيران الدولية) أن هذه الكارثة أسوأ من هجمات11/9، وقدّرت الخسائر بحوالي 200 مليون دولار يوميا، وقد حصلت اتهامات متبادلة بين الحكومات وبين شركات الطيران بسبب النواحي المادية أيضا كما صرح بذلك (مسئول شركات النقل الجوي) ، عندما اتهم السلطات الأوروبية بالمبالغة في الإجراءات التي اتخذتها لمواجهة سحابة الرماد البركاني باسم "مبدأ الاحتياط"، كما حصل خلال وباء أنفلونزا الخنازير.
ومثل ذلك في هذه النظرة ما جرى في مؤتمرات التلوث البيئي واتساع رقعة ثقب الأوزون في غلاف الأرض، حيث رأينا أن جلّ اهتمام الدول كان منصباً على المنافع والمرابح والحسابات المادية والتجارية وعلى تقسيم حصص التلوث لكل دولة، وليس منصباً على الإنسان وحياته وكرامته، والتضحية بالمال وبكل الحسابات المادية من أجل هذه الكرامة وهذه الحياة .. لذا فشلت كل هذه المؤتمرات ولم تحقق أي شيء !! ..
إن هذه النظرة السقيمة في مبدأ الغرب قد جلبت الدمار والخراب والهلاك والمعاناة الشديدة على الإنسانية في مجالات شتى، وجلبت الموت الجماعي بالملايين، والفقر والمجاعات الإنسانية التي تحصد أرواح الآلاف من بني الإنسان ..
أما إذا نظرنا إلى مبدأ الإسلام؛ فإننا نرى عكس الصورة السابقة تماماً، حيث نرى أن الإسلام يحاصر المشكلة قبل تأزّمها ويضع لها الحلول الشافية السريعة ..
وقبل أن نذكر بعض الأحكام الشرعية في معالجة هذه الشدائد نقول: لقد حصلت جوائح وشدائد عديدة في تاريخ الدولة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي عهد خلفائه الراشدين، وكان المسلمون يتغلبون عليها في كل مرة ويوجدون لها الحلول السريعة الشافية، ومن تلك الشدائد والجوائح ما حصل للمهاجرين بعد الهجرة مباشرة من فقر وحاجة، وأيضاً ما حصل في عهد الإمام عمر رضي الله عنه من قحط ومحل في عام الرمادة ..
وقد استطاع المسلمون أن يوجدوا الحلّ السريع للمشكلة الأولى وذلك عن طريق المؤاخاة؛ حيث آخى الرسول عليه السلام بين الصحابة من المهاجرين مع الصحابة من الأنصار اثنين اثنين، وبهذا استطاع المسلمون في المدينة المنورة مواجهة هذه الشدة حتى منّ الله تبارك وتعالى على المهاجرين بالفرج .. وفي عام الرمادة أيضاً اتخذ الإمام عمر رضي الله عنه مجموعة من الاحتياطات وحالة من التقشف طبقها على جهاز الدولة أولاً وخاصّة على شخصه، حيث قال: والله لا آكل اللحم حتى يشبع آخر مسلم في المدينة، ثم باشر بالحل العملي من الأموال الوافدة من مناطق أخرى في الدولة الإسلامية حتى انتهت هذه الجائحة!!
فالإسلام ينظر بجدية متناهية للكوارث والشدائد ويعمل بكل جهد مستطاع لمحاصرتها وتطويقها وصرف الأذى الواقع على المسلمين، فيجعل النظرة عنده ابتداءً الإنسان وكرامته ومكانته عند الله تعالى قبل أي اعتبار آخر، ولا ينظر للأمور المادية ولا يقيم لها أي اعتبار مقارنة مع أهمية الإنسان وحياته ومكانته وعرضه، ولا يقيم وزناً لمنافع ومصالح أشخاص معينين وإلى رؤوس أموالهم على حساب دماء الناس وأعراضهم من رعايا الدولة حتى ولو كانوا من غير المسلمين ..
وهذه النظرة السامية لكرامة الإنسان مردّها إلى عقيدة هذا الدين ونصوصه الشرعية التي جعلت حياة المسلم وكرامته وعرضه أمراً عظيماً .. فالله سبحانه قال في كتابه العزيز : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } ( الإسراء / 70 ) .
وقال في المحافظة على عرضه : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ( النور / 19 ) .
وقال عليه السلام : " لقتلُ مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا" رواه النسائي: ، وفي رواية: ((لزوالُ الدنيا أهونُ عند الله من قتل امرئ مسلم))
وقال مخاطباً الكعبة الشريفة : " ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً !!..) رواه ابن ماجه.
فهذه النظرة السامية العالية للإنسان وقيمته وكرامته غير موجودة في أي نظام آخر على وجه الأرض غير الإسلام لذلك جاءت الأحكام في المعالجات العملية تنصب على خدمة هذا الإنسان ورفعته، والمحافظة على حياته وصيانة عرضه وماله وكل شيء له علاقة به .. ومن هذه المعالجات الشرعيّة التي فرضها الإسلام وطبقها المسلمون عملياً في حال حصول الكوارث والجوائح والشدائد : -
1- العناية بحاجاته الأساسية الثلاث ( المأكل والملبس والمسكن ) وما يتبعها، وذلك في حال نقصانها عن الحد الأدنى للعيش واستمرارية الحياة، والعناية أيضاً بأمور التعليم والطب لجميع الناس فرداً فردا من رعايا الدولة الإسلامية .
2- اللجوء لتحميل قسم من المسلمين من الأغنياء تبعات مصالح المسلمين في حال عجز ميزانية الدولة عن الوفاء بهذه الاحتياجات، وذلك عن طريق جمع المال من الأغنياء بنظام معين يوفي حاجات الناس ومصالحهم العامة .
3- جعل الإسلام أحكام الزكاة جزءً من النظام الاقتصادي التكافلي بين الناس ما بين الأغنياء والفقراء وذلك للقضاء على مشكلة الفقر وشدته .
4- فرض الإسلام أحكاماً شرعية تخص الأفراد في إغاثة الملهوف وإعانة المحتاج وإطعام الجائع، وتنفيس كربة المكروب.
5- فرض الإسلام بذل أقصى طاقة للإنقاذ وسرعة التعامل مع الكوارث واستخدام كل الإمكانات الواقعة تحت سيطرة الدولة والأفراد من الرعايا وذلك من أجل أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم وممتلكاتهم المادية، دون نظرة للتكاليف المادية وخاصة إذا تعلق الأمر بالأرواح والأعراض والكرامة الإنسانية
هذه بعض من الأحكام الشرعية العملية التي تعالج الكوارث والجوائح، وهي تبين مدى اهتمام الإسلام بحياة الناس، وعدم حساب أي أمر آخر يقف في هذا الطريق ..
لذلك فإن الكوارث والمشاكل لا تتأزم في بلاد المسلمين بل إن أحكام الإسلام ونظرته للإنسان وسرعته في المعالجة، وأسسه التي تمنع الخلل قبل وقوعه كل ذلك يعالج المشكلة في مهدها ويعمل على حلها حلاً سريعاً، وهذا الأمر يتناسب مع كرامة الإنسان ورفعته، وانه لحري بالبشرية أن تسعى إلى تبني هذا النظام الرباني الفريد الذي يعرف للإنسانية قدرها في ظل دولة إسلامية عالمية تشمل كل أرجاء المعمورة.