ترصد بعض وسائل الإعلام الشخصيات الأكثر تأثيرا في العالم، وقد نشرت صحيفة الحياة يوم 1/5/2010 أن مجلة التايمز الأمريكية قد وضعت سلام فياض في المرتبة العاشرة في القائمة التي ضمت مئة شخصية هي الأكثر تأثيراً على مستوى العالم، ونقلت المجلة الأمريكية عن توني بلير قوله إن فياض "عمل خلال السنوات الثلاث الـماضية على تقوية الـمؤسسات الحكومية الفلسطينية وأجهزة الأمن، على رغم الصعاب والـمعوقات السياسية، الأمر الذي لاقى الترحيب والتقدير في أوساط الرأي العام".
إن هذا الاختيار لشخصية فياض كواحدة من أكثر الشخصيات المؤثرة في العالم –حسب إدعاء التايمز- يحرك الدافع للحديث عن الفرق بين تكوين الرجال وصناعة الموظفين! ويستدعي مراجعة سياسية للدور الذي يقوم به فياض في فلسطين، مما فتح له أبواب التايمز الأمريكية، وأيضا هو مدعاة للتذكّر والتذكير بأن بعض من يتصدر تلك القوائم لا يلبث أن تفوح رائحة فساده الأخلاقي قبل السياسي كما حصل في الفترة الماضية مع إحدى الشخصيات الفلسطينية.
يقال في الأمثال: لكل إنسان نصيب من اسمه، وأمام اسم رئيس حكومة فتح في رام الله نجد خطين عريضين يعبّران عن نهج سياسي واضح المعالم أخذ يحشر قضية فلسطين في أزقته: "مشروع سلام في مقابل فيض الأموال من المانحين"، مع مبالغة في ذلك من خلال التشديد على ياء الفيض، تجعل الأموال فيّاضة كلما تقدم مشروع سلام.
نعم، تفيض الأموال لمشروع فيّاض كلما نجح رئيس حكومة فتح في تقزيم القضية وتحوير التاريخ الجهادي لأهل فلسطين إلى طبخة مسخن، وكلما استبدل تطريز ثوب فلسطيني بتطريز قصص البطولات، ممن حملوا أرواحهم على أكفهم لتحرير أرض المسلمين في فلسطين عبر تاريخ الأمة الطويل.
تفيض أموال المانحين إلى خزينة فياض كلما تقدّم في تبديل الجغرافيا لتصبح مساحة فلسطين في مشروعه المدّعى على قدر مساحة "سدر الكنافة النابلسية"، التي يشجع التباري في صنعها بدل التباري في تلقين العدو دروسا من الإباء والعزة، أو يحول جغرافيا فلسطين إلى خطوط في ملعب كرة قدم تتدافع فيه فتيات تائهات، تدفعهن حكومة فياض لمباريات نسوية أو لمسابقات الجمال الزائف لتعرّيهن وتكشف عوراتهن حتى تذوب العفة التي تحرك العزة! فيما تقمع حكومة فياض كل نشاط جماهيري سياسي يعمل على ترسيخ المعنى الحقيقي لجغرافية فلسطين واتصالها مع جغرافية الأمة وتاريخها.
إذاً، لا شك أن رئيس حكومة رام الله مؤثر -بهذا المعنى- في فئة من أهل فلسطين رضيت بان تنخرط بمشروع التلويث الثقافي والتحريف النضالي والتخريب السياسي الذي يقوده فياض، ويجند معه فيه الأجناد من خلال أموال المانحين.
وفي الوقت نفسه استطاع فياض أن يؤثر في الحاضرين لمؤتمر هيرتسيليا وهم يأتمرون فيه حول أمن دولة الاحتلال الغاصب، التي تحارب التاريخ والجغرافيا في فلسطين !
إنه السخف السياسي بعينه !
وهذا الهبوط الإعلامي والاستخفاف بعقول الناس يأتي متوافقا مع "الاهتراء الثوري" الذي حوّل من حملوا شعار تحرير فلسطين ومن ردّدوا "اللاءات الثلاثة" ومن كان فيهم إخلاص لثورة تحمل شعار الكفاح المسلح إلى مجرد موظفين في مشروع فيّاض ينتظرون الرواتب من خزينته، ولذلك ماتت فيهم بقية النخوة وصار مسئول البنك الدولي هو المنظر السياسي لمشروعهم الوطني !!!
فهو صاحب المال، أو بالأدق هو مسئول خزينة في المال السياسي الملوّث الذي يشتري به الغرب مصالحه السياسية ويروج من خلاله ثقافته الرأسمالية، ومن هنا فلا غرابة أن يكون فياض هو صاحب القرار في هذا "المشروع الوطني"، ولا غرابة أن لا يجرؤ أحد من "المناضلين القدامى" على محاسبته لأن الرواتب من خزينته، والتقدم "المهني" في العمل بهذا المشروع لا يكون إلا برضاه.
إذاً، حقَّ له أن يكون شخصية مؤثرة، ولكنه تأثير "فيروسي" وليس تأثيرا حيويا نهضويا ! فلا شك أن تأثير فياض واضح على كل منتفع يقبل أن يتقزم المشروع السياسي لتحرير فلسطين إلى مشروع تمويلي، بعدما نجح فاض في تشكيل السلطة الفلسطينية كمؤسسة أهلية كبيرة تستدر الأموال من خلال تأكيد "حسن السيرة والسلوك" أمام مراقبي المانحين، وهي تحرّك مؤسسات تحمل شعارات حقوق الإنسان -بينما تكون أحيانا مجرّد شهّاد زور- لتسطير تقارير التقدم نحو حسن السلوك، التي تمكن سلام فياض من استدرار الأموال لمشروعه.
هذه السخافة الإعلامية تدلل على أزمة في الفكر وفي الثقافة وفي السياسة، وهي تكشف عن نجاح أمريكا في صنع الموظفين لتحقيق مشروعها، بعدما "نظّفت" الوسط السياسي الرسمي من كل ما هو ليس أمريكيا.
نجح فياض كما يمتدحه توني بلير، الذي لن ينسى صفعة تلقاها في مسجد إبراهيم الخليل كما لن ينسى شريكه في العدوان الوحشي على الأمة الإسلامية الحذاء الذي طار نحو وجهه في بغداد الرشيد، نجح في إعادة تشكيل السلطة مؤسساتيا وأمنيا: وهو نجاح باهر يؤدي إلى تفعيل المؤسسات الخدماتية تحت الاحتلال دون أن يتكلف الاحتلال شيئا، فيعفيه من تبعات ذلك، بل ويجعل الضرائب المفروضة على شعب مقهور تحت الاحتلال بندا رئيسا في الموازنة "التشغيلية" لسلطة تحت الاحتلال.
ومن ثم يؤدي ذلك النجاح إلى حفظ أمن الاحتلال دون أن تتسخ أيدي المحتل بأعمال قذرة تلطخ صورته في الضفة الغربية، كما تتلطخ في غزة إثر كل عدوان وحشي من جنوده المغتصبين، مما يجعل المرء يتساءل: لمن هذا النجاح؟ أهو لأهل فلسطين أم لعدوهم الغاصب !
لا أشك أن فياض مدير ناجح وقادر على العمل بمهنية، ولكن فلسطين لا تبحث عن مدراء ولا عن مهنيّين، بل تبحث عن أبطال وعن محررين. وهنالك بون شاسع بين تكوين الرجال الأبطال وبين صنع الموظفين المأجورين: فالأبطال يحملون ثقافة الأمة ويدافعون عنها بمقدرات الأمة، أما المأجورون فيحملون ثقافة أعداء الأمة ويدافعون عنها بمقدرات أعداء الأمة! وشتان بين الإخلاص والإفلاس!
إن تكوين الرجال قد تم في تاريخ الأمة الإسلامية من خلال عقيدتها، فسطروا صحائف عز لا زالت مشرقة لمن يقرؤها، وإن الرجال المؤثرين في الأمة اليوم هم الذين يحركونها نحو مشروع نهضتها وعزتها، وهم الذين تخشى منهم أمريكا لا الذين تمتدحهم، وهم مغيبون عن الإعلام لأنه لا يجرؤ على الحديث عنهم، ولكنهم يتأهبون!