الدكتور ماهر الجعبري
عوّد الكيان اليهودي أن يتحدى، وتعود الآخرون أن يصمتوا ويستكينوا، ويزداد تحديا ثم يزدادون هوانا وصغارا. يعتقل الأطفال ويحاكمهم، فيصر الساسة على نهج المفاوضات التي لا بديل عنها عندهم، ويضرب النساء في الشوارع فيكرر القادة أنهم مع المقاومة الشعبية، ثم يعتقل القادة أنفسهم، ويحاكَمهم فيؤكدون أن مقاومتهم سلمية.
إذن ليطمئن هذا الاحتلال البغيض طالما أن القادة تستكين، وهو يدرك ذلك، فلقد قتل القادة من قبل في تونس وفي لبنان وفي غزة، بل وفي رام الله حيث تسلل لهم عبر صحون "الطبخ"، ومن ثم قتل القادة في دبي، بل وفي دمشق، حيث الصراخ الفارغ ضد يهود، وعادت القيادات الفلسطينية والعربية الرسمية لتؤكد أنها ستعطي فرصة أخرى وأخرى وأخرى لمفاوضات الذل، التي كان شامير قد فسّرها عندما اضطر لخوضها، فقال: سأفاوض العرب عشرين عاما.
وهنا تبرز أزمة في الكرامة، وأزمة في الإباء والشموخ الذي كان جبلّة للعرب قبل الإسلام، حتى قال شاعرهم:
إذا بلغ الفطام لنا رضيع           تخر له الجبابر ساجدين
عنفوان بلا حدود، وشموخ فطري تفتقده الناس اليوم، وهي تتابع مشاهد الإذلال لرجالات قيل عنهم أنهم رموز "ثورة"، وإذ بالكيان اليهودي يصر على تشكيلهم كرموز "استكانة"، ومن ثم ليؤكدوا من بعد ذلك أن الثورة صارت تعني مجادلة اليهود دون رجمهم ودون قتلهم، وصارت تعني الحضور الطوعي إلى محاكمهم ومحاججتهم بالقانون الجائر الذي فرضوه بالقوة.
فأي ثورة تلك التي لا تعني التمرد، وأي ثورة تلك التي تتجسد في المشاهد التي تنقلها الفضائيات وهي تعرض حالة من الانبطاح الفاضح أمام يهود، بل وأي مجلس ثوري ذلك الذي يحمل الاسم دون الرسم طالما أن القادة يهانون ولا يثورون ! بل أي دولة تلك التي يُعتقل قادتها ثم يعودن إلى "قصور الحكم"، دون أن تغلي الدماء في عروقهم، فتغيّر المعادلات التي فرضها الاحتلال ؟
ليس غريبا أن يعتقلَ الاحتلالُ الناس، فهو عدو حاقد، وليس غريبا أن يتمكن الاحتلالُ من رقاب العباد وقد تسلط عليهم، وتخلت عنهم الأنظمة، ولكن الغريب أن يعتبر القادة أنهم أصحاب سلطان ودولة في المساء ثم يعتقلون في الصباح، ثم يعيدون لدولتهم في المساء وكأن شيئا لم يكن.
لقد تحوّل الإباء من "صخر وخضنفر" إلى "مردخاي وشلومو"، بل وإلى ليفني التي صرخت في القاهرة رافعة رأسها: كفى ... كفى، فاستكان وزير خارجية مصر الذي كان بجوارها وطأطأ رأسه، وكذلك طأطأ السفير التركي لدى الاحتلال اليهودي رأسه في وضع مهين، ثم استكان جيش تركيا، واستكانت حكومة تركيا.
لم يعد من المجدي أن نقارن هذه القيادات التي ارتضت ذل يهود بصلاح الدين وقطز وبيبرس، إذ أين الثرى من الثريا !؟ ولم يعد هنالك معنى للبحث فيهم عن ظلال تلك الشخصيات القيادية الإسلامية، إذ قد تخلت قيادات اليوم الرسمية عن عزة تحملها الأمة الإسلامية وتحولت إلى "مَنَعة" مصطنعة يعرضها أوباما عبر مفاوضاته ورجالاته، بل وجنرالاته. ولذلك صار من الطبيعي أن ينزل سقف التطلعات في هؤلاء القادة إلى مستوى شموخ الجاهلية، وإلى بعض شموخ العرب الذين ماتوا على الكفر من مثل أبي جهل وهم يفضلون الموت على لحظة ذل عابرة.
فقد روى التاريخ أن كبير قريش عتبة بن ربيعة قرر الانسحاب من معركة بدر، فرد عليه أبو جهل في ثورة ورفض: "لقد جبن ابن ربيعة"، ومن ثم لقي أبو جهل حتفه عندما اعتلاه عبد الله بن مسعود، ووضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، فخاطبه أبو جهل "لقد ارتقيت مرتقا صعبا يا رويعي الغنم". 
أولئك نفر من العرب أصروا على الكفر، ولكن الأنفة بقيت تضطرم في صدورهم حتى آخر رمق فيهم، وهؤلاء نفر من العرب يسمّون حكاما وقادة ورموزا، ويتمسحون مسوح الإسلام، ولكن لم تبق فيهم أي ذرة من عزة أو أنفة. فعبثا تنتظر من أي منهم أن يخاطب جنديا يهوديا يمتهن كرامته بالقول: "لقد ارتقيت مرتقا صعبا".
وإذا كان زمن أولئك العرب قد سمّي بالجاهلية فماذا يمكن أن يسمّي التاريخ زمن هؤلاء الأعراب الذي يتدافعون إلى مصافحة ساسة يهود، ويتباكون على ضياع الفرص للسلام معهم، بينما يكيل لهم جنود الاحتلال اليهودي الإهانة تلو الأخرى!
سؤال يتدافع إلى الذهن لدى متابعة كل مشهد إعلامي يتعلق بمواقف هؤلاء الحكام والسياسيين الرسميين تجاه ساسة اليهود: يهينونهم صباح مساء ولا نخوة من مثل نخوة أبي جهل، فما بالك من نخوة مثل نخوة الرشيد الذي قال في الرد على العدو: "الجواب ما ترى لا ما تسمع"؟
كانت النخوة قيمة عليا عند العرب، وجاء الإسلام ونمّى فيهم العنفوان ورفض الذل على أساس عزة الإسلام، فسطر المسلمون صحائف من نور، ولقنوا الأعداء دروسا لا زالت تقض مضاجع أوروبا كلما ذُكرت على مسامعها إمكانية عودة الخلافة ورجال الخلافة.
لا شك أن الأمة الإسلامية مشتاقة لقيادات ثورية حقيقية تستطيع أن تلقن قادة الكيان اليهودي معنى إباء الفاروق وعزة الصديق لا شموخ أبي جهل، قيادات تعيد تعريف العلاقة الصحيحة مع الاحتلال الغاصب، على أنها حالة حرب فعلية لا حرب كلام في المحافل الدولية، حالة تجسدها صرخة "الدم الدم ... والهدم الهدم".
فهل تستيقظ تلك القيادات الفلسطينية وتعود إلى صف الأمة قبل أن يستمر اليهود في إذلالهم أكثر فأكثر ؟ وهل تغضب ؟!
وهل يعودون إلى التمسك بعزة الأمة قبل أن تزول هذه الحياة فيسجلهم التاريخ ضمن القوائم الصفراء التي ضمت أسماء حكام الدويلات التي سقطت ذليلة كسيرة ؟
2/4/2010