ليست الحرب الجارية التي يشنها كيان يهود على قطاع غزة، وإفرازاتها، هي السبب الوحيد في حالة التشظي والانقسام الذي يبدو عليه الوضع الداخلي للكيان، وإن كانت الحرب هي الظرف الذي تجلت فيه هذه الحالة، وأخرجت تلك المكنونات العميقة من التشرذم لذلك المجتمع، أو شبه المجتمع، المكون من شتات من الأرض.
قد يكون تحذير رئيس وزراء الكيان نتنياهو عن وجوب تجنب حرب أهلية، وذلك عقب تفريق مظاهرة مناهضة له تطالب بانتخابات مبكرة للإطاحة به، فيه شيء من المبالغة والتخويف والتهديد في الوقت الحاضر، ولكن ذلك لا يعني أن التشرذم والانقسام العميق ليس حاضرا وبقوة في ذلك المجتمع، وليس قابلا للتطور والاصطدام لاحقا، خاصة وأنه برز على أشده في وقت يفترض فيه أن تجمع الحرب صفوفهم وتتلاشى صراعاتهم.
إن الصراعات الحالية التي تتمثل في رغبة قطاع من جمهور الكيان بتنحي نتنياهو، وتبادل المسؤوليات عن الإخفاقات الأمنية، وأهالي الأسرى وقانون استثناء المتدينين من الخدمة العسكرية، كان قد سبقها من قبل صراعات على التعديلات القانونية التي سعى لها ائتلاف نتنياهو قبيل الحرب على غزة، وفي الحقيقة فإن المظاهرات في الشارع ليست بين فئة من جمهورهم وبين نتنياهو، بقدر ما هي بين تيارين، لم ينزل أحدهما للشارع بعد، وهو قاعدة وجمهور ائتلاف نتنياهو، ولذلك فإن التحذير من حرب أهلية له أساسه وكوامنه التي قد تنفجر مع الوقت.
إن شكل كيان يهود وسلوكه وإن كان ديمقراطيا في الظاهر، ولكنه في الحقيقة كيان متناقض متصارع بقيادات فاسدة، كانت توفر الديمقراطية فيه صيغ التلفيق لذلك الحكم الركيك، ولكنها مؤخرا لم تعد كافية لتنسيق ذلك الصراع وتنظيمه والتغطية عليه، حيث تتألف الحكومات فيه عادة من مكونات ذات طبيعة مطلبية متناقضة يشد كل منها بعيدا نحو أهدافه الخاصة، ويحاول فيها كل مكون فرض مطالبه والاستحواذ على ما يستطيعه، وهي مكونات تلتقي مرحليا في أشياء ولكنها تختلف في أشياء ولا يلبث صراعها أن يظهر ويتعمق.
على أن هذا التناقض الذي يظهر الآن في الحكم والحكومات لدى كيان يهود أساسه موجود وأصيل في بنية "مجتمعه" قبل ذلك، بل ومنذ تأسيس الكيان، إذ هو أبعد ما يكون عن المجتمع المتجانس، فهناك تناقض بين علمانية الصهيونية التي قام عليها الكيان وبين الناحية الدينية، أي بين العلمانيين والمتدينين، وكذلك بين مكونات كل جهة، وهناك اختلاف عرقي عنصري، وتقسيم شرقي غربي، وحتى اليمين المتطرف الحاكم إنما هو ائتلاف مختلف لا يجمعه إلا "التطرف"، فهم باختصار أشتات مستأجرون للوجود في هذا الكيان لا يجمعهم إلا ما يقدم لهم من منافع وحياة، وليس لهم رابط ببعضهم ولا رابط بالأرض التي يحتلونها.
إن الحاصل في مجتمع الكيان، وهو الآخذ في السنوات الأخيرة في التحول نحو ما يسمونه "بالتطرف"، ومع نمو التيارات الدينية التي تعمق الصراع بينهم، أنهم يمضون بعنجهيتهم نحو نهايتهم المحتومة، والمظلة الغربية التي ساهمت في دعمهم وبقائهم طوال عشرات السنين آخذة في التقوض، وذلك لشدة تعنتهم، وحمقهم وقلة عقولهم، وقد أخذهم غرور القوة، كما أغراهم ضعف العملاء من حكام المسلمين في جوارهم، فصاروا وكأنهم يقلعون جذورهم بأيديهم، وإلا فأي مستقبل سينتظرهم في المنطقة بعد كل ما قاموا به من إجرام؟!
إن قوة هذه الكيان الظاهرية وغطرسته لا تعكس قوته، بقدر ما تعكس ضعفنا نحن المسلمين في ظل هؤلاء الحكام العملاء، وإلا فهو في الحقيقة كيان هزيل مفكك مصطنع، وتماسكه مؤقت ومصطنع بفعل مؤسسة النظام فيه وبضغط ما أحاط به من ظروف، وما تلقاه من دعم الاستعمار. وبعكسه تماما، فإن ضعف المسلمين وتفرقهم مصطنع من مؤسسات الأنظمة العميلة فيه التابعة للاستعمار. وكلتا الحالتين لن يلبث استمرارهما طويلا، فبقاء الكيان على ما تم ذكره من التفكك مرهون ببقاء الحكام العملاء في جواره لا أكثر، وهدمه هو بمجرد نهوض من يهدمه.
كما أن هذه الحالة التي عليها كيان يهود اليوم ليست جديدة، بل هي الحالة التي كانت عليها كياناتهم عبر التاريخ؛ مجتمعات ظاهرها القوة وباطنها التشرذم كما وصفهم الله عز وجل في كتابه ﴿بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾ وقد كانوا كذلك أيام النبي عليه الصلاة والسلام كبني قريظة وبني النضير وبني قينقاع، كيانات ظاهرها القوة، ولكنها تعادي بعضها بعضا، وقد اتصفوا باللؤم والحمق وقلة العقول والرعونة، حتى استجلبوا لأنفسهم الاجتثاث كما فعل بهم النبي عليه الصلاة والسلام فقطع دابرهم من أرض الجزيرة، وقد قال الله تعالى فيهم: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يَا أُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾
ولذلك فقد كثرت التصريحات والتلميحات والتنبؤات، ومنهم قبل أن تكون من غيرهم، والتي تتناول قرب نهاية هذا الكيان، بل صار بادياً للعيان أن وجوده هو مسألة وقت وزواله كذلك، وقد وجدت في هذا الكيان عوامل السقوط من أول يوم قام فيه، ولكنها الآن قد نخرته نخرا، أما سقوطه الفعلي فإنه ينتظر يد الأمة لتضربه بالضربة القاضية، بعد أن أصابه طوفان الأقصى بكسر لا يجبر ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يَا أُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾.
بقلم: الأستاذ يوسف أبو زر
المصدر: جريدة الراية