تُعرف الحضارة أي حضارة بأنها مجموع المفاهيم عن الحياة ومن تلك المفاهيم مفاهيم أساسية يعدها أهلها مقاييس وقيماً ومُثلىً عليا يتميزون بها وهنالك مفاهيم فرعية ثانوية، ومن تلك المفاهيم التي تقوم وترتكز عليها الحضارة الغربية وتتبناها الدول والشعوب الغربية وتعمل على تركيزها في مجتمعاتها وحملها للعالم مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان...
وقبل أن ننتقل إلى ما حصل في قطاع غزة لابد من الإشارة إلى أن تلك المفاهيم البراقة تم إبرازها للشعوب الأخرى بشكل كبير وذلك للتغطية على مفهوم أساسي من صلب الحضارة الغربية وهو مفهوم النفعية أو المنفعة المادية بمنظوره الواسع ونقصد هنا بالنسبة للدولة وليس للفرد الغربي، فهذا المفهوم الخطير هو سبب معظم الكوارث والحروب في العالم بما فيها الحروب العالمية، حيث شكل مفهوم النفعية دافعاً للدول القومية التي تتبنى المبدأ الرأسمالي للتوسع الاستعماري لتأمين مصالحها المادية وأصبح الاستعمار طريقة للمبدأ الغربي في نشر نفسه، فكما أن الفرد الغربي تحركه حاجاته ورغباته الفردية فكذلك الدول تحركها حاجاتها ومصالحها الوطنية والقومية والتي تعود بالمنفعة على كبار الرأسماليين، وقد استعمرت الدول الكبرى العالم وتصارعت عليه فيما بينها وما زالت تفعل بغرض نهب الثروات ومقدرات تلك الدول، ولكن تلك الغاية الاستعمارية كان لابد من العمل على تمويهها والتغطية عليها بحملات ناعمة تسلط الضوء على مفاهيم الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، والهدف من ذلك تسهيل عملية الاستعمار وإخفائها وقد ساعد الغرب في تلك العملية الخبيثة من ضُبعوا بالثقافة الغربية ومفاهيمها عن الحياة.
رغم أن تلك الحقيقة الفكرية للحضارة الغربية لم تكن تخفى على شريحة واسعة من المفكرين سواء من المسلمين أو غيرهم مثل الاشتراكيين الذين جاءوا بمبدأ جديد للتصدي للنظام الرأسمالي ولكنهم سقطوا في منتصف الطريق لأن مبدأهم الاشتراكي مخالف للفطرة في إلحاده وغير مقنع للعقل في إجاباته عن الكون والإنسان والحياة ومتأزم في علاجاته خاصة في المجال الاقتصادي كونه من نتاج العقل البشري العاجز والناقص، على كل الأحوال بقي المسلمون هم فقط القادرون على التصدي للحضارة الغربية والمبدأ الرأسمالي كونهم أصحاب حضارة ومبدأ حكم العالم ثلاثة عشر قرناً ومستمد من وحي السماء ومقنع للعقل وموافق للفطرة وفيه معالجات لكل المشاكل والأزمات التي عصفت وتعصف بالعالم، رغم ذلك إلا أن عملية كشف الحضارة الغربية ووجهها الاستعماري الخبيث للشعوب وخاصة المسلمة لم تكن عملية سهلة وذلك بسبب الحملات المضادة المكثفة تحت مظلة المفاهيم الخداعة من حريات وحقوق إنسان وديمقراطية بمساعدة الإعلام الموجه وإشراف الأنظمة الحاكمة ورعاية الأحزاب العلمانية والأوساط السياسية والثقافية العميلة، وأيضاً بسبب غياب الأحزاب المبدئية التي تدرك معنى الصراع الفكري وكيفية خوضه والانتصار فيه باستثناء حزب التحرير الذي يشهد له القاصي والداني في صراعه الفكري الشرس مع الغرب وعملائه، فلم يترك مفهوما غربيا إلا وتصدى له وأصدر الكثير من النشرات والمجلات والكتيبات والكتب في ضرب ونسف الحضارة الغربية ومفاهيمها، ومنها تلك المتعلقة بالحكم والتشريع مثل الديمقراطية، وكان آخر تلك الإصدارات كتاب قيم بعنوان "نقض الفكر الغربي الرأسمالي مبدأ وحضارة وثقافة".
لم يكن إسقاط القناع عن الوجه الحقيقي للحضارة الغربية بالأمر السهل، ولكن لأن الباطل مصيره الانكشاف جاءت الأحداث لتسرع هذا السقوط الفكري والفضيحة الحضارية والأخلاقية، والسبب أن الغرب أصبح يقدم مصالحه الاستعمارية على حملاته الناعمة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات وذلك عندما يصعب التوفيق بينهما، فكانت حروب أفغانستان والعراق اختبارا لتلك المفاهيم والحضارة الغربية بقيادة أمريكا التي حاولت التمويه على حروبها الاستعمارية بذرائع خبيثة مثل "الإرهاب" وأنها جاءت لإرساء نظام ديمقراطي مكان الأنظمة البوليسية الدكتاتورية، ولكن ذلك سقط في النهاية حتى باتت الشعوب تلعن أمريكا وحروبها التي أهلكت الحرث والنسل وحولت البلاد إلى ركام، ومن ثم جاءت ثورة الشام الفاضحة التي كشفت قذارة الدول الكبرى التي تدعي حق الشعوب في تقرير مصيرها فاجتمعت لكسر إرادة شعب في مواجهة طاغية وأمدته بكل أسباب الحياة وساعدته على تهجير الشعب وتدمير البلاد وإبادة الناس بالكيماوي والبراميل المتفجرة، ومن ثم جاءت حرب كيان يهود على غزة لتكون مسمارا جديدا في نعش الحضارة الغربية وقد يكون الأخير، حتى باتت الحضارة تنعى نفسها على لسان أهلها بل وعلى لسان أمينها العام أنطونيو غوتيريش الذي صرح بالقول أمام الفضيحة الأخلاقية الحاصلة في ظل الإبادة الوحشية في قطاع غزة: "الأمم المتحدة أصبحت غير ملائمة لهذا الزمن، هذه المؤسسة أصبحت عاجزة تماماً، فإذا لم نطعم الجياع فإننا نغذي النزاع لذلك يجب إصلاح مجلس الأمن بما يتناسب مع عالم اليوم"ّ!
فحقوق الإنسان التي تحت شعارها خرج الغرب للعالم أجمع وتحت مظلتها كانت الحملات الشرسة مؤخراً لنشر الشذوذ وتدمير الأسرة وعلمنة الجيل الناشئ وتحطيم معنى التربية والرعاية بذرائع حقوق الطفل والمرأة والمساواة، تغير جلدها وانقلب حالها فإذا بحقوق الطفل تتحول إلى أن يباد أطفال غزة بأعتى أنواع الصواريخ والمتفجرات وأن يتركوا للموت على أسرة المستشفيات وأن يمنعوا من الحليب والغذاء والدواء، وإذ بحقوق المرأة تتحول إلى أن تدفن تحت الركام وأن تتحول إلى أشلاء وأن تشرد في العراء وأن تقصف البيوت بعشرات آلاف الأطنان من المتفجرات، وإذا بحقوق الإنسان والشعوب بالغذاء والدواء تتحول إلى التجويع والحصار والموت جوعاً وعطشاً حتى صار الغرب "المتحضر" بدعمه وغطائه لكيان يهود "الديمقراطي" أسوء في نظر البشرية من ستالين في سياسة الأرض المحروقة...!
تحطمت تلك المفاهيم القذرة في ساحات المدارس والمستشفيات التي تغطت بالأشلاء والدماء والمجازر، وبرز في المقابل مفهوم النفعية الاستعمارية في دعم كيان يهود لإكمال حرب إبادة لم تشهدها البشرية منذ عقود، فمصالح أمريكا تقتضي بقاء كيان يهود قاعدة قوية في الشرق الأوسط ليبقى النهب والاستعمار والتدخل والسيطرة في المنطقة، فلا مشكلة إذاً بحرق وقتل الأطفال والنساء وتمزيق الشيوخ والشباب، ولتذهب مفاهيم حقوق الإنسان إلى الجحيم مرحلياً ثم يتم استدعاؤها مرة أخرى إن أمكن!
سقطت تلك المفاهيم وسقطت معها المؤسسات القائمة على حفظها والدفاع عنها وعلى رأسها الأمم المتحدة بمختلف مؤسساتها التي تبين أنها تصاب بالشلل عندما تصطدم قوانينها ومفاهيمها وقرارتها مع مصالح الدول الاستعمارية ويصبح الفيتو هو عنوان المرحلة، ولكنها تبقى أداة حادة في يد أمريكا وصاحبة قرار ونفوذ عندما تُستَخدم في الهيمنة الفكرية والثقافية والاجتماعية في بلاد المسلمين كما فعلت في الآونة الأخيرة بخصوص الشذوذ والإباحية الجنسية، فكانت تفرضها فرضاً على الدول والشعوب بحجة المساواة والحرية!
وفي مقابل هذا السقوط الحضاري للغرب ومفاهيمه برزت من تحت الركام والدمار مفاهيم حضارة الإسلام العريقة، فكان الصمود والإيمان والتسليم المرتبط بالقاعدة الفكرية المنبثقة من عقيدة الإسلام والآخرة وجنات عرضها السماوات والأرض أعدت للصابرين، وكان رفض الاستسلام والإقدام والشجاعة في مواجهة العدو والإحسان للأسرى رغم وحشية كيانهم، وكان الالتجاء لقوة الله وقدرته، وكانت التضحيات العظيمة، وكان الإيمان بأن النصر من عند الله وأنه مهما كانت النتيجة النهائية لهذه الحرب غير المتكافئة فهي مقدمة للسقوط الحضاري والعسكري للغرب ونهاية قاعدته العسكرية -كيان يهود-، ولم يبق إلا أن تدفن الحضارة الغربية وتعود حضارة الإسلام لنشر العدل والخير في العالم وترعى شؤونه بنظام رباني لا يظلم فيه أحد وتشرق شمس العالم بحضارة غرق العالم في الظلام بعد غيابها، حضارة تطبقها وتحملها دولة خلافة راشدة على منهاج النبوة.
د. إبراهيم التميمي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين
28/12/2023