ما إن قفز ملف الشرق الأوسط على طاولة الإدارة الأمريكية المزدحمة بالملفات الساخنة الداخلية والخارجية حتى فرض نفسه بقوة على السياسة الخارجية لأمريكا، وذلك على إثر حالة الاضطراب والهلع التي أصابت طفلها المدلل وقاعدتها العسكرية والسياسية المتقدمة في منطقة الشرق الأوسط (كيان يهود)، على إثر الضربة العسكرية والمعنوية القوية التي تعرض لها في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وتحركت أمريكا بشكل سريع ومكثف سواء على الصعيد العسكري أو السياسي؛وذلك لحساسية ملف قضية فلسطين عند أمة تعشق مسرى نبيها ﷺ، ولمركزية منطقة الشرق الأوسط التي تحتضن هذه القضية وما تمثله من أهمية استراتيجية للولايات المتحدة لموقعها وثرواتها واحتضانها لمبدأ الإسلام واللغة العربية التي تعتبر عنصراً أساسياً في فهمه.
فكانت التحركات العسكرية على شكل إرسال الذخائر بمختلف أنواعها والأسلحة اللازمة لكيان يهود عبر القواعد العسكرية المنتشرة في المنطقة أو بشكل مباشر من أمريكا، وأيضاً من خلال مستودعات السلاح الموجودة داخل كيان يهود، وهذه المستودعات تخضع بشكل كامل للجيش الأمريكي ويتم فتحها بتوجيه من أمريكا كما حصل قبل فترة، حيث تم نقل سلاح منها لأوكرانيا والآن تفتح لكيان يهود، وكذلك شملت التحركات العسكرية إرسال حاملات الطائرات يو إس إس جيرالد فورد ويرافقها 5 مدمرات، والحاملة يو إس إس أيزنهاور ويرافقها طراد - صواريخ موجهة - ومدمرات، والمجموعة البرمائية يو إس إس باتان والتي تضم سفن إنزال وحاملات طائرات عمودية، والغواصة النووية من فئة يو إس إس أوهايو وهي الأضخم وتحمل عشرات الصواريخ النووية والباليستية وصواريخ كروز، وأيضاً كانت زيارة وزير الدفاع لويد أوستن إلى كيان يهود، وهذه التحركات والحشودات العسكرية جاءت لخدمة التحركات السياسية.
وتمثلت التحركات السياسية بزيارة الرئيس الأمريكي بايدن، ومن ثم وزير خارجيته أنتوني بلينكن ومبعوثين وسياسيين آخرين منهم آموس هوكشتاين المبعوث الأمريكي لشؤون أمن الطاقة العالمي ومستشار الرئيس بايدن، وليس آخر تلك الزيارات زيارة الثعلب الماكر صاحب المهمات الصعبة والحساسة ويد بايدن اليمنى وليام بيرنز مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية "CIA"، وهو دبلوماسي ماكر وتقلد مناصب عدة في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي الأمريكي وشغل منصب رئيس مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، وهو صاحب مقولة "إن الاهتمام الأمريكي والقيام بدور في الشرق الأوسط ضرورة وليس خياراً"، وقد ركزت هذه التحركات السياسية على إظهار الدعم القوي والثابت لكيان يهود، وأن وجوده مصلحة استراتيجية لأمريكا، ومساعدة هذا الكيان على استعادة شيء من التوازن الذي اختل بشكل غير مسبوق، وعلى التعامل مع تداعيات هذه العملية الترميمية التي سيحاول كيان يهود القيام بها ويعتبرها قضية مصيرية وقضية وجود، وحدد لها أهدافاً واضحة وصعبة وهي إنهاء التهديد العسكري من قطاع غزة وتغير الواقع السياسي في القطاع، وهذا يتطلب في عقلية يهود الإجرامية والجبانة عملية برية وجوية وبحرية تحرق الأخضر واليابس تمهيداً للسيطرة الميدانية، وهذا يتطلب من أمريكا تحركات سياسية في المنطقة لضبط الأمور ضمن رؤيتها السياسية وتوظيفها بما يخدم مشاريعها السياسية.
وقد ركزت التحركات السياسية التي قامت بها أمريكا على جعل الأنظمة في المنطقة تتعامل مع حرب يهود الشعواء والإجرامية على قطاع غزة على أنها أمر مسلم به ومشروع، وأن المطلوب من تلك الأنظمة معالجة الناحية الإنسانية التي سوف تنتج عن هذه الحرب التي ترتكز على المجازر والدمار، والعمل على تحركات سياسية تحتوي المنطقة وتمنع أي تفلت لأي جبهة على كيان يهود المجروح بقوة، وكذلك إعطاء التوجيهات للأنظمة العميلة للتعامل مع الحالة التي سوف تمثل تهديداً لهم في ظل شعوب غاضبة وجيوش مقيدة بسلاسل الذل والقهر، وأيضا معالجة ملف الأسرى الثقيل على كيان يهود، ويلاحظ أن هذه الملفات المعقدة وخاصة ملف الأسرى كان بحاجة إلى زيارة مدير "CIA" وقد أوكل هذا الملف لقطر حتى تتولى ترتيبه، كما أوكل ملف المساعدات للسيسي، وملف ضبط الحدود مع الأردن لعبد الله، وملف جبهة لبنان لإيران، وجبهة سوريا للمجرم بشار خاصة في ظل الوجود الروسي الذي يسعى لإشعال الصراع واستثماره!
وهكذا تحركت أمريكا على الصعيد السياسي والعسكري كل يكمل الآخر وفي إطار واسع يسمح لها بالتكيف مع المتغيرات إن حصلت أو إن كانت موجودة وغير معلن عنها حالياً، وكما هو معلوم فإن الأمريكان يتصفون بالتكيف السريع مع المستجدات والتعامل معها وتغيير الأساليب والخطط بشكل سريع، بل حتى تغيير المشاريع في بعض الأحيان، ويساعدهم في ذلك كثرة الأدوات السياسية في بلاد المسلمين والقوة العسكرية الكبيرة خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي جعلتها مركزاً لقيادتها العسكرية المركزية "سنتكوم".
إن أمريكا هي التي تدير ملف قضية فلسطين وهي التي تحتضن كيان يهود وتسمح له بالعمل على مخطط دموي يناسب عقليته الدموية والإجرامية، وتدعمه دون أن تبالي بالدماء والأشلاء، فهي دولة مارقة مجرمة تسببت بملايين القتلى من المسلمين في الشام والعراق والسودان وليبيا وأفغانستان... وما يهمها فقط هو مصالحها الاستعمارية ومشاريعها السياسية، فتطلق يد يهود وتقيدهم وفق تلك المصالح والمشاريع، ولذلك هي شريك مباشر لكيان يهود في جرائمه البشعة، ويعبر عن ذلك ما قاله رئيس أركان جيش كيان يهود هرتسي هليفي، عندما طلب بلينكن خلال اجتماعه مع "كابينيت الحرب" التخفيف من استهداف المدنيين، وطبعاً هذا ليس عطفاً من أمريكا ولكن بسبب الرأي العام العالمي الذي بات محرجاً لها، فأجابه هليفي بالقول: "لو استمعنا إلى الجنرالات الذين أرسلتهم إلى هنا، لكانت خططنا أكثر عنفاً".
وفي الختام فإنه رغم الصمود الأسطوري للمجاهدين وأهل غزة الذي مرغ أنف يهود بالتراب وكبدهم خسائر فادحة، إلا أن الواقع يبقى خطيراً على أهل فلسطين وأهل قطاع غزة في ظل هذا التكالب الدولي وعلى رأسه أمريكا، وهذا لا يعني أن أمريكا إله وأن مشاريعها قدر مقدور، فهي أيضاً دولة مأزومة وجهودها مبعثرة في ملفات عدة خارجية وداخلية والانقسام يلوح في أفقها السياسي، وبالتالي فإن إفشال مشاريعها وطردها من المنطقة واقتلاع كيان يهود ليس بالأمر الصعب، ولكنه بحاجة إلى قيادة سياسية مخلصة وواعية تنقاد لها الأمة وتعطي الجيوش لها النصرة فتقيم الدولة المبدئية دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي تتحرك فوراً لتحرير فلسطين وطرد أمريكا من المنطقة ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً﴾.
بقلم: د. إبراهيم التميمي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)